عندما ينطلق مهرجان فينيسيا السينمائي في الثامن والعشرين من هذا الشهر معلناً بداية دورته السادسة والسبعين، يكون الترقب لما ستحمله الدورة الجديدة من هذا المهرجان المديد قد بلغ أوجه. فمنذ سنوات ومهرجان فنيسيا (البندقية) يتقدم على ما سواه من المهرجانات الكبرى في أكثر من اتجاه.
الاتجاه الأهم في كل ذلك هو مسألة اختيار الأفلام التي تشع وقت عروضها وتشع بعد ذلك أيضاً. كون المهرجان الإيطالي على موقع أقرب لموسم الجوائز من سواه (كبرلين أو كان) يمنحه ذلك التألق لما بعد انتهاء مدة إقامة دورته. فأفلامه، الأميركية منها وغير الأميركية، تنطلق من منصّته ومنصّة مهرجان تورونتو الكندي صوب المؤسسات التي ترعى الجوائز السنوية ما بين أوروبا والولايات المتحدة.
وما حدث في العام الماضي لفيلم «روما» لألفونسو كوارون لا يحتاج إلى برهان. الفيلم الذي سرد فيه المخرج المكسيكي أحداثاً مرّ بها حين كان لا يزال في مطلع العشرية الثانية من حياته، نال ثلاثة أوسكارات وجوائز من غولدن غلوبز وبافتا وفوقها جميعا نحو 200 جائزة أقل شهرة من أركان العالم الأربعة.
صحيح أن معظم هذه الجوائز كانت ستذهب إليه كونه يستحقها حتى ولو عرض الفيلم مهرجان «كان» الفرنسي، إلا أن ذلك مختلف عما حدث له كونه عرض في مطلع موسم الجوائز فبقي في الصورة والبال وامتدت به حياته التجارية حتى وصل إلى منصة الأوسكار في الشهر الثاني من هذا العام.
رؤية متفائلة
أي من أفلام المسابقة هذه السنة قد ينجز هذا السحر الخاص للمهرجان فيعرض في دورته ثم يسافر بعد ذلك إلى العروض التجارية وعروض المناسبات السنوية بنجاح مماثل؟
من دون مشاهدة الأفلام ذاتها لا يمكن التنبؤ كثيراً بما سيؤول عليه مستقبل معظم الأفلام المشاركة في المسابقة، وعددها 21 فيلماً، لكن يمكن القول: إن عدداً منها لن ينضوي غياباً بعد انتهاء عروضه في فنيسيا بل مرشح لأن ينتقل في أكثر من اتجاه.
وأحد هذه الأفلام قد يكون «المرشح المثالي» للسعودية هيفاء المنصور التي اشتغلت على نفسها كثيراً منذ أن حققت فيلمها الأول «وجدة» فأنجزت فيلماً غربياً كاملاً قبل عامين («ماري شيلي») ثم فيلماً تلفزيونياً لحساب نتفلكس بعنوان Nappily Ever After (لعب على كلمة Happily Ever After) وصولاً إلى فيلم يعود بها إلى الجذور السعودية من جديد.
لدينا لقاء مبرمج يوم السبت المقبل مع المخرجة الطموحة لكن ما تذكره حتى الآن عن دوافعها لتقديم حكاية المرأة التي ترشح نفسها لمنصب إداري (رئيس بلدية) توالى عليه الرؤساء الذكور يدعو للاهتمام. تقول:
«أريد أن أعرف رؤية متفائلة حول الدور الذي تستطيع النساء أن تؤديه في المجتمع السعودي. أريد تشجيع المرأة السعودية على أخذ الفرصة المتاحة من قبل النظام، تلك التي منعنا عنها سابقاً».
مخرج آخر من المتوقع له أن يتخذ من مسابقة فنيسيا منصة انطلاق صوب مناسبات أخرى هو المخرج السويدي روي أندرسون. لقد سبق له خمس سنوات عرض فيلمه السابق «حمامة جلست على غصن تتأمل في الوجود» الذي التقط جائزة الأسد الذهبي في فنيسيا سنة 2014 ثم جاب عدداً من الجوائز الأخرى أهمها جائزة الاتحاد الأوروبي الأول في العام التالي.
فيلمه الجديد (الأول له منذ «حمامة جلست….» يحمل عنواناً مثيراً بحد ذاته هو «عن اللامنتهي» والفيلم - كما كان حال الفيلم السابق - نظرة متأملة على وضع الإنسان اليوم. يعد الفيلم بأن يلتقط من النماذج المتعددة التي نراها لهذا الوضع بعض غرائبها جمالياً وبطريقته وأسلوبه الخاص. بسؤاله تفسير رؤيته لحال الإنسان اليوم كما يتبدّى عادة في أفلامه وكما يرد في فيلمه الجديد قال:
«ينظر الفيلم إلى الجمال والقسوة في الحياة. أردت في هذا الفيلم التركيز على جمال الإنسان. جمال أن يكون المرء حياً. لكي تظهر قيمة الحياة وقيمة الإنسان عليك أن تظهر الوجه المضاد. الوجه المناقض تماما. إنه فيلم عن لا نهاية بوادر الوجود».
على ظهر كوكب بعيد
في السنوات القليلة الماضية تبدّى لمن تابع مهرجان فنيسيا دورة بعد أخرى اهتمامه بعرض فيلم من الخيال العلمي ضمن مسابقته. ليس أي فيلم من تلك المنبثقة من المصانع الهوليوودية، بل الفيلم الأعلى طموحاً والأفضل صنعاً.
في العام 2016 عرض فيلم دنيس فيلنييف «وصول» حول تلك المخلوقات الغريبة التي زارت كوكب الأرض وحاولت التواصل مع الإنسان العاجز عن التواصل مع أترابه أساساً.
وفي العام الماضي عرض «رجل أول» لداميال شازيل الذي قام فيه رايان غوزلينغ بأداء شخصية الملاح الفضائي ني أرمسترونغ.
وكان المهرجان افتتح دورة العام 2013 بفيلم ألفونسو كوارون «جاذبية» (Gravity) بطولة جورج كلوني وساندرا بولوك حول تلك الرحلة في عمق الفضاء التي تتحوّل إلى كارثة.
هذا العام يقود براد بت ممثلي فيلم خيال - علمي آخر هو «أد أسترا» (Ad Astra) للمخرج الأميركي جيمس غراي. مع براد في الأدوار الرئيسية دونالد سذرلاند وتمي لي جونز وليف تايلر وروث نيغا. وموضوعه هو قيام الملاح براد بت بالسفر إلى أعماق الفضاء بحثاً عن والده الذي كان يعتقد إنه مات لكن الدلائل تشير إلى أنه ما زال حياً على ظهر كوكب بعيد.
هناك لقاء محتمل مع المخرج جيمس غراي، لكنه صرح في لوس أنجليس بأنه ينظر إلى مسألة اكتشاف الفضاء على نحوين متصلين:
«فكرة رحلات الفضاء تبدو لي جميلة ومخيفة في الوقت نفسه. هذا من حيث إن الرحلات الفضائية تبدو لي أحياناً نوعاً من الهروب من الواقع المعاش. وما آمله من فيلمي أن يكشف للمشاهدين أن الاهتمام بالأرض يأتي في المقام الأول. إنها كل ما نملك».
بنى غراي فكرته على عبارة وردت في نص كتبه المؤلف آرثر س. كلارك (وضع رواية «2001: أوديسا فضائية») إذ قال:
«إما أننا لسنا وحدنا في هذا الكون، وإما أننا وحيدون. كلا الاحتمالين مخيف على درجة متساوية».
كل من «جاذبية» و«وصول» ثم «رجل أول» كانت له صولاته في موسم الجوائز ولو أن أياً منها لم يستطع خطف الأوسكار من قبضات أفلام واقعية.
«جاذبية» تم تجاوزه لصالح فيلم «12 سنة من العبودية» لستيف ماكوين.
«وصول» تراجع لحساب فيلم آخر عن الأفرو - أميركيين هو «مونلايت» لباري جنكنز.
أما «رجل أول» فنال سبعة ترشيحات وإن لم يواكبه حظ الفوز بأي منها.
الحقيقة والكذبة
الفيلم الرابع الذي يعتقد المتخصصون أن لديه جناحين سيطير بهما إلى المحافل الأخرى هو «الحقيقة»، الفيلم الذي سيفتتح المهرجان الذي يقوم بتحقيقه الياباني كوري إيدا هيروكازو كإنتاج ياباني - فرنسي مشترك.
هيروكازو هو المخرج الذي فاز بسعفة «كان» الذهبية في العام الماضي وتم ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم أجنبي هذه السنة لكن الجائزة ذهبت إلى «روما» عوض ذلك. الفيلم الجديد يدور حول علاقة ممثلة لديها سنوات كثيرة من العمل في هذه المهنة (كاثرين دينوف) مع ابنها «جولييت بينوش). كلاهما، يقول المخرج، أحبا العمل معه. بل، وكما يضيف، فإن السبب الذي من أجله حقق فيلمه الأول له خارج بلده:
«قمت بتحقيق أول فيلم لي خارج بلادي وبلغة ليست لغتي الأم لأن الفرصة واتتني لأقابل ممثلين رغبوا أن يكونوا في فيلمي المقبل. موضوعه هو عن الحقيقة والكذبة. أيهما يصنع اللحمة العائلية فعلياً؟ الكذبة الحلوة أو الحقيقة المرّة»؟
المسألة مختلفة بالنسبة للمخرج التشيلي بابلو لاران فهو على الرغم من أن أفلامه السابقة كان لديها مقاربات قوية الاحتمال مع الجوائز الدولية إلا إنه لم يصل إلى الأوسكار بعد. رغم ذلك، وعن ناقد تشيلي لا يفرط في المجيء إلى مهرجان فنيسيا عاماً بعد عام فإن فيلمه الجديد «إيما» هو الفيلم الذي سينتهي به في عداد الترشيحات الأساسية في الأوسكار المقبل «… وهو سيكون الترشيح الرسمي لتشيلي في أغلب اعتقادي».
أما المخرج نفسه فيقول في حديث له: «فيلمي عن امرأة تفقد الحب وتفتقده. لقد مرّت بتجارب فاشلة لكنها لن تتوقف عن البحث. لكن ما سبق ليس سوى الملخص الذي لا بد منه، أما الحقيقة فهي أن الفيلم بالنسبة لي هو تأمل في شكل الجسد والرقص والأمومة».