مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة

شملت مؤلفات لطه حسين ومحفوظ وإدريس وبورخيس وجاك دريدا

مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة
TT

مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة

مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة

تنوعت اختيارات الكتاب المصريين المشاركين في هذا التحقيق حول أهم الكتب التي حفزتهم على خوض مغامرة الكتابة والتي لا تزال صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة والعودة إليها بين حين وآخر رغم مرور زمن طويل على صدورها
يسري عبد الغني: انهلوا من هؤلاء الرواد
من الكتب التي ألهمتني الكتابة، وكانت بالنسبة لي مصابيح تنير طريق البحث والدرس، كتب أستاذي ومعلمي وقدوتي عباس محمود العقاد، خصوصاً عبقرياته ودراساته عن أعلام التاريخ والحضارة العربية الإسلامية، ولغته الدقيقة المعبرة بإيجاز شديد، ومنهجه العلمي الذي قلما نجد من يكتب به في زماننا هذا.
بعد ذلك، يأتي عميد الأدب العربي طه حسين الذي نهلنا من كتبه، خصوصاً كتاب «الشعر الجاهلي» الذي أثار ضجة أدبية فكرية عند صدوره، وتعلمت منه كيف لا نأخذ الأمور بطريقة عشوائية مسلم بها، بل يجب أن نبحث ونبحث بغية الوصول إلى الحقائق، وفق أطر علمية سليمة.
ثم يأتي أستاذي الدكتور رشاد رشدي، وكتبه عن الأدب الإنجليزي، وبالذات الروائيين والشعراء والنقاد الإنجليز. وقد تعلمت منه كيف نقبل الآخر، حتى لو اختلفنا معه. وبالطبع ليس من الممكن أن أنسى علماء التراث، سدنة تحقيقه وحمايته، الذين مزجوا بين الأصالة والمعاصرة: أحمد زكي باشا شيخ العروبة، وأحمد باشا تيمور، وعبد السلام هارون، وصلاح الدين المنجد، ورمضان عبد التواب، وأحمد أمين، وزكي نجيب محمود، وسهير القلماوي، وكامل الكيلاني، وعبد المنعم شميس، وثروت عكاشة، وغيرهم من الذين علمونا أن من لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل.
وكتب أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي، الفيلسوف المفكر الذي ظلمناه، خصوصاً كتبه الفلسفية، من المستحيل أن يتجاهلها أي مثقف، أضف إلى ذلك دفاعه الرائع عن تراثنا العلمي ورواده.
ثم يأتي العم نجيب محفوظ الذي علمنا كيف نكتب بمصداقية وفهم وحب، وأيضاً بيرم التونسي، وديوانه الذي يجعلني أقول دائماً إن الصدق في الإبداع له رواد من الصعب أن نكررهم.
ولا أنسى إبداعات شوقي وحافظ والمازني وعبد الرحمن شكري، إضافة إلى عبد الصبور وأمل دنقل، وقبلهم محمد ومحمود تيمور، ومحمد عبد الحليم عبد الله، والسحار، وباكثير، وأمين يوسف غراب، ويوسف السباعي، وصبري موسى، ومصطفى محمود، وغيرهم من الذين علموني كيف أكتب وأبحث وأدرس. إن جيل الرواد الذين تعلمنا من كتبهم قدموا لنا آفاقاً رحبة، وفكراً جاداً مستنيراً، وكل كتاب لهم تعلمنا منه شيئاً مذكوراً؛ كانوا أساتذة بمعنى الكلمة: يعلمون، ويرشدون، ويوجهون، فكانوا بحق المثل الأعلى والقدوة الحسنة، ولم يكن طريقهم مفروشاً بالورود، وكل كتاب لهم يقول لنا ذلك.
ومن هنا، تأتي نصيحتي دائماً لأبنائي وأحفادي من الطلاب ومحبي الفكر: انهلوا من هؤلاء الرواد، واقرأوا كتبهم قراءة فاهمة واعية، وبعد ذلك كونوا رأيكم وفكركم، فمن قال إننا جيل بلا أساتذة، فقد ضل ضلالاً بعيداً، بل إنه ألغى كونه محباً للفكر.
ناصر عراق: الجبرتي ألهمني «الأزبكية»
إذا كان بورخيس قد تخيل أن الجنة عبارة عن مكتبة كبيرة، فإنني أزعم أن الكتب هي التي ستجعل الإنسان يصنع الجنة على الأرض، قبل أن يتذوق حلاوتها في السماء، فالكتب هي التي تكثف وتحفظ الخبرات الإنسانية في المجالات كافة، ثم تنقلها من جيل إلى جيل، ومن قرن إلى آخر، فيستفيد منها الإنسان، ويتفاعل معها وينفعل بها، فيختبر قناعاته ويطور أفكاره ليحقق طموحاته وأحلامه.
بالنسبة لي، فأنا أعد نفسي من المحظوظين لأنني شيّدتُ علاقة طيبة مع الكتاب منذ الصغر، بحكم النشأة في أسرة شغوفة بالمعرفة والاطلاع. ولكن عندما بلغت الخامسة عشرة، فتنتني «الأيام» لطه حسين، إذ كانت مقررة علينا نحن طلاب الصف الثالث الإعدادي، وقررت (للمرة الأولى) أن أصير كاتباً مثل هذا الرجل. وبعد شهور قليلة، وبالتحديد في سنة 1976، أهداني الحظ اللقاء الممتع الأول مع «ثلاثية» نجيب محفوظ، فأيقنت أنني مرصود لدنيا الكتابة والروايات، وأن مستقبلي هناك قابعاً بين الحروف والكلمات.
ولا يغيب عن فطنة اللبيب أن التقدم في العمر، واستقرار عادة القراءة، علاوة على تراكم الخبرات الحياتية والمعرفية، كل ذلك يؤدي إلى اتساع أفق المرء، ويفتح أمامه فضاءً واسعاً للتأثر والتفاعل بكتب معينة، وإذا كانت «أيام» طه وحسين و«ثلاثية» محفوظ أول الكتب التي ألهمتني فكرة الكتابة، فإن ثمة كتباً أخرى أذهلتني وأثارت شهيتي للكتابة، أذكر منها دواوين صلاح عبد الصبور ومحمود درويش.
كذلك أسرني كتاب «ماركس.. حياته ونضاله» الذي وضعه فرانز مهرنج بذكاء شديد. وفي المسرح، هزتني بشدة مسرحية هنريك إبسن «البطة البرية»، ومسرحية بيتر فايس «مارا - صاد»، ومسرحية تشيكوف «الخال فانيا»، ومسرحيات عبد الصبور (ليلى والمجنون - مأساة الحلاج - بعد أن يموت الملك). أما في مجال النقد، فكم عشقت كتب الناقد المصري فاروق عبد القادر، كذلك أعجبتني كتابات الناقد السينمائي كمال رمزي، خصوصاً كتابه المتفرد «نجوم السينما العربية».
وفي مجال الكتب التاريخية، لا يمكن أن أنسى اهتمامي الشديد بكتاب الجبرتي الأشهر «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»؛ وقد ألهمني فكرة روايتي «الأزبكية»، هو وكتاب «بونابرت في مصر» للمؤلف الأميركي ج. كريستوفر هيرولد، وترجمة فؤاد أندراوس. أما روايتي «دار العشاق»، فقد انبثقت فكرتها في خيالي وأنا أطالع كتاب «الفرعون الأخير محمد علي» للكاتب الفرنسي جيلبرت سنويه.
عصام حسين عبد الرحمن: الجريمة والعقاب
لقد سبقت القراءة لديّ كفعل قبل الكتابة بعقدين ونصف العقد من الزمان، وأعني بها قراءة الكتب الإنسانية والأدبية خاصة. كانت القراءة في البداية بدافع المتعة، مثلها مثل مشاهدة الأفلام السينمائية والاستماع للأغاني، ثم أضيف دافع المعرفة، فتنوعت الكتب والأفكار. وأذكر بعض الكتب المهمة التي أثرت في تكويني الفكري والوجداني، مثل: «قصة نفس» و«قصة عقل» لـذكي نجيب محمود، و«الأيام» لطه حسين، و«الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» لديستوفيسكي، و«الأخوات الثلاث» لتشيكوف.
ولأن الكتابة بطبيعتها فعل ملح للتعبير، أو لقول شيء ما يتمتع بخصوصية وحساسية شديدة لكاتبه، فقد ظل هذا الإلحاح يطاردني منذ أواخر التسعينات؛ وقتها اكتشفت رغم القراءة والمعرفة أنني لا أعرف الكثير عن نفسي. ورغم وعي بذاتي، فإنه وعي غير قادر على الوصول لها، فجاءت الكتابة لتحاول تقديم حيوات أخري تكون محصلة تجارب إنسانية متنوعة، قد تنجح أو تفشل، قد تزرع فيك الأمل أو تقذف بك بين فكي وحش اسمه الاكتئاب أو الإحباط، وقد تبهجك بالطبع أو تحزنك.
الكتابة الإبداعية تحتاج فعلاً إلى الإلهام أولاً، بمعني الموهبة، وبالتأكيد تحتاج للقراءة، لكن أيضاً تحتاج إلى عوامل أخرى متعددة؛ والخلاصة أن الإلهام أو الفعل المحفز للكتابة ليس بالضرورة أن يكون قراءة كتاب أو عدة كتب، مهما كان الأثر، لكنه مهم جداً وضروري، رغم أن الإلهام قد يأتي من صورة أو موقف أو حدث أو شخصيات تتماس معها، أو انغماس مشاعرك في حياة تستهويك، أو أفكار تثير عقلك، أو أحداث اجتماعية أو مشكلات نفسية، خصوصاً إذا كنت معنياً بالكتابة السردية القصصية أو الروائية، حيث بؤرة الاهتمام تنصب أكثر على الأفعال والأحداث والأفكار التي تنبعث من الشخوص. ولأن المرأة هي الأكثر غموضاً في بني الإنسان، فقد احتلت مساحة سردية شاسعة في أعمالي الإبداعية، خصوصاً الأخيرة، ومنها «سرير عنكبوت» و«زحف الأرانب» على سبيل المثال. لكن لو تتبعت الشخصيات النسائية، ستجد أنها تكونت من خليط من الصور الواقعية الماضية والحاضرة، عبر تراكم خبرات ذاتية، واستعادة بعض الصور والشخصيات من قراءتي لأعمال يوسف إدريس ومحمد المخزنجي، بالإضافة لشخصيات واقعية أتماس معها، لتصنع المخيلة في النهاية شخصية أخري جديدة، كما يجب أن تكون من وجهة نظري ككاتب، لأصنع بها خصوصيتي. وأظن أنني قدمت هذا العالم الخاص بي في آخر عمل لي (وكأنه هو).
عفاف عبد المعطي: البنية والعلامة
في مراحل الدرس الأولى التي قمت بها في مجال الدراسات النقدية المرتبطة بما بعد الحداثة والآداب المقارنة، وهي تخصصي الدقيق، كان عليّ رصد الأحداث الكبرى التي شهدها القرن العشرون، ومن ثم التغيرات الفكرية لمقولات كادت أن تكون ثابتة مطلقة لم تقبل الشك في الفكر الإنساني؛ ولعل أبرز هذه التغيرات انهيار الفكر الشمولي، بمعنى نقد المسلمات ومناقشتها.
فبدأ اهتمامي بالمفكر الفرنسي «جاك دريدا» الذي وضع كل مسلمات الفلسفة الغربية - منذ عهد أفلاطون - موضعَ سؤالٍ وشك، حيث بيَّن من خلال كتابه «البنية، والعلامة، واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» الذي قدَّمه عام 1966، أن كل فكرة افترضت معها وجود مركز للمعنى يحكمها، وأن البشر راغبون في مركزٍ ما يؤسِّس حضورهم، ويضمن لهم وجودهم، وقد تجسَّدت المبادئ المركزية في عدد من الألفاظ المنتجة من طرف الفكر الغربي، مثل: الوجود، والماهية، والحقيقة، والجوهر، والنهاية، والبداية، والإنسان، والوعي. وتواصلاً مع ذلك، كانت الأحداث العالمية المتسارعة التي فرضت مصطلح الحداثة، ثم ما بعد الحداثة، اللذين يشكلان مجموعة من وجهات النظر العلمية، وقد تم استخدامهما في النظرية النقدية للإشارة إلى نقطة انطلاق أعمال الأدب والدراما والعمارة والسينما والصحافة والتصميم. وكان اهتمامي أيضاً بالفيلسوف الناقد الأدبي فريدريك جيمسون الذي عرّف ما بعد الحداثة بأنها «المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة»، التي هي الممارسات الثقافية المترابطة ترابطاً عضوياً مع العنصر الاقتصادي والتاريخي لما بعد الحداثة أو «الرأسمالية المتأخرة» أو ما بعد الثورة الصناعية أو الرأسمالية الاستهلاكية أو العولمة.
وقد رافق ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، وهيمنة الصورة، فأصبحت الصورة البصرية علامة دالة، محركها الأساس الصورة لمزيد من التحصيل المعرفي، ومعرفة الحقيقة. لذلك اهتم الناقد الفرنسي جيل دولوز بالصورة السينمائية، إذ يقسمها إلى الصورة - الإدراك، والصورة - الانفعال، والصورة - الفعل، ويَعتبر العالم خداعاً كخداع السينما للزمان والمكان عن طريق خداع الحواس، وذلك في كتابيه «الصورة - الحركة» و«الصورة - الزمان». وفي سياق اهتمامي بمصطلح ما بعد الحداثة، ظهر لي كتاب «النظرية الأدبية» لديفيد كارتر الذي يرى مصطلح ما بعد الحداثة على أنه موقف متشكك بشكل جوهري من جميع المعارف البشرية، وقد أثر مصطلح ما بعد الحداثة على كثير من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني، من علم الاجتماع إلى القانون والدراسات الثقافية.
أيضاً مصطلح «التناص» من أهم مصطلحات ما بعد الحداثة، وإن كان معظم الدراسات التطبيقية التي استخدمته في المشرق العربي لم تقدم تطبيقاً منهجياً يمثل إضافة للبحث العلمي، رغم العناوين الرنانة لتلك الدراسات أو الكتب التي تمت ترجمتها بشكل غير دقيق أو عشوائي. «التناص» يعني استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية، بمعنى أن أي نص يتفاعل ويتداخل نصياً مع النصوص الأخرى، سياقاً وتقليداً وحواراً. ويدل التناص في معانيه القريبة والبعيدة على التعددية والتنوع والمعرفة الخلفية. وقد ارتبط التناص نظرياً مع النقد الحواري لدى ميخائيل باختين من خلال كتابه المهم «المبدأ الحواري».



أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟