يُقال إن هزّة جناح فراشة قادر، إذا ترافق مع الظروف الملائمة، على تغيير مسار عاصفة استوائية في الطرف الآخر من الكوكب. «أثر الفراشة» الذي قدّمه الباحثون في نظرية الفوضى (الكاوس) كمثال لما يمكن أن تتركه المتغيرات الصغيرة من نتائج ضخمة في الأحداث يستعرض نفسه أمام مواطني العالم وسياسييه كسلسلة من التفاعلات المترابطة التي بدأت تبرز عواقبها غير المتوقعة إلى سطح الأحداث.
في مراجعة للنشرات الإخبارية يمكن الخروج بعدد معتبر من التطورات التي تبدو مستقلٌّ بعضها عن بعض لكنها تتصل في حقيقة الأمر اتصالاً وثيقاً فيما بينها: أزمة سفينة اللاجئين الأخيرة في البحر المتوسط التي تتصاعد النداءات لإنقاذ ركابها الممنوع دخولهم إلى المرافئ الأوروبية. تفاعلات جريمة قتل المتسوقين في متجر «والمارت» في مدينة إلباسو الأميركية. مظاهرات سكان هونغ كونغ المعارضين لترحيل المحكومين إلى الصين. تصاعد التوتر بين الهند وباكستان بعد إلغاء الأولى المواد الدستورية التي تمنح كشمير حكماً محلياً.
ليس من المبالغة القول إن هذه الوقائع وغيرها نجمت عن «أثر» حركة فراشة، سياسية، يمثلها صعود النزعة الشعبوية وتولي شخصيات من مثل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الحكم في بلد محوري في آسيا وانتهاجه نهجاً قومياً شوفينياً في ولايته الثانية بعد فشل الوعود بالتنمية الاقتصادية التي قطعها في أثناء حملته الانتخابية الأولى. وهذا مجرد مثال يندرج مع أمثلة مشابهة في الصين، حيث اصطدم سعي شي جينبينغ إلى تثبيت قيادته الأحادية بما اعتبره سكان هونغ كونغ مسّا بثوابت حياتهم في منطقتهم الخاصة.
الكراهية التي عبّر عنها الإرهابي الذي ارتكب جريمة إلباسو وذعره من «اجتياح» المكسيكيين للولايات المتحدة والتي تشكل صدى للكراهية التي دبجها قاتل المصلين في نيوزيلندا في بيانه المشؤوم، لا تختلف أصولها كثيراً عن تلك التي تقف وراء قرار الحكومة الإيطالية منع سفينة «بروآكتيفا أوبن أرمز» التي يقترب ركابها في كل ساعة من الانهيار الجسدي والنفسي، من الرسو في جزيرة لامبيدوزا.
«أثر الفراشة» هذا اكتسب زخماً غير مسبوق أو منتظر عندما تحولت الحرب التجارية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على الصين إلى خطر يهدد واحداً من أكبر اقتصادات العالم. فقد حذر المصرف المركزي الألماني (البوندسبنك) من أن اقتصاد البلاد سيدخل في الفصل المقبل فيما سمّاه «ركوداً تقنياً» الذي يتلخص تعريفه في انخفاض النمو لفصلين متواليين. اتفق المحللون الاقتصاديون على أن الحرب التجارية الأميركية - الصينية والغموض الذي يلفّ مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، هما العاملان اللذان دفعا الإنتاج الصناعي الألماني إلى التراجع بسبب تقلص التصدير. وللتذكير فإن «بريكست» الذي لم تتمكن لندن من وضع تصور معقول له على الرغم من مرور سنوات على فوز أنصاره بالاستفتاء عليه، جاء أيضاً بعد الضغوط التي مارسها خصوم الاتحاد الأوروبي من السياسيين البريطانيين من أمثال نايجغ فاراج وبوريس جونسون الذي يتولى الآن منصب رئيس الحكومة البريطانية، إضافة إلى «حزب استقلال المملكة المتحدة».
من جهتها، أكدت السلطات الألمانية أن في وسعها ضخ خمسين مليار يورو في أي لحظة يتبين فيها أن الركود سيخرج عن السيطرة. لكن المسألة لا تقتصر على انعكاسات الأوضاع الخارجية. ذاك أن المتوقع أن يُمنى الائتلاف الحاكم بخسارة مهمة في انتخابات ولايتي ساكسونيا وبرندنبورغ لمصلحة حزبَي «الخضر» و«البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، ما سيفاقم الصعوبات أمام حكومة المستشارة أنجيلا ميركل.
لكن هل تشكل هذه الأحداث، حتى لو صح القول بوجود رابط فيما بينها، العاصفة الاستوائية التي حرّكها جناح الفراشة الشعبوية؟ لم تتبلور بعد الأحجام التي ستصل إليها تلك العاصفة. لكنّ سياسات التفرقة، والتحريض على الآخر، ورفع الجدران المادية والمعنوية، والعداء العلني والمستتر للحريات والديمقراطية، والاستهزاء بحكم القانون... تشير كلها إلى أن مؤسسات الدولة التي قام الغرب عليها ونجح في تحويلها إلى أشكال عالمية للحكم والسلطة العاقلة، مهدَّدة تهديداً خطيراً في معاقلها ومراكزها قبل الأطراف التي تبنتها. وتشير أيضاً إلى أن الجولات المقبلة بين هذا النهج وبين البدائل المطروحة والداعية إلى تعزيز دولة الرعاية والاهتمام بالفئات المهمشة والمعرضة للخطر ستكون ضارية في ظل موازين قوى اجتماعية مضطربة.
هل يطلِق «أثر الفراشة» الشعبوي عاصفة الدمار؟
هل يطلِق «أثر الفراشة» الشعبوي عاصفة الدمار؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة