الحلقة الأخيرة (3 - 3): بدأت من لا شيء... ذهبت من بعلبك إلى لندن كالقروي في المدينة

يروي كركلا، في الحلقة الأخيرة من حواره مع «الشرق الأوسط»، رحلته الشيقة والشائكة مع نجوم عصره. يتذكر من فقدهم، ويقرّ بأنه يعيش أزمة. «رحل كثيرون ممن عملت معهم، أنسي الحاج اختفى، سعيد عقل اختفى، جورج جرداق كذلك، ورحل زكي ناصيف ووليد غلمية، لم يبق عندي غير طلال حيدر، أطال الله في عمره، وفي عمر مارسيل خليفة». ثم يقول: «محل كل هؤلاء الكبار لا أجد أحداً. حلّ الأزمة يكون من خارج لبنان بحيث تصبح المنطقة العربية هي مكان البحث. لا بد أن ثمة عظماء. ولا بد أن أجدهم».
إقرأ أيضا: الحلقة الأولى: عبد الحليم كركلا يكشف أسرار «الدولة الرحبانية» العميقة
الحلقة الثانية: أخطأ مارسيل خليفة عندما لم يعزف النشيد الوطني في بعلبك
لتعويض النقص الموسيقي يعود كركلا حالياً إلى أرشيفه الكبير الذي جمعه من الفولكلور العربي، ويتعاون مع الموسيقي علي غولي. الفقد الكتابي الأدبي صعب، أصعب من الفقد الموسيقى. «دائماً نجد في العالم موسيقياً عظيماً يستطيع أن يأخذنا إلى مكان آخر بنصه ويفسر عملنا، وبخاصة أن كل موسيقى التراث العربي موجودة في رأسي، والموسيقى الكلاسيكية أيضاً».
من صغره كان يأخذ ربع ليرة (25 قرشاً) من أبيه وينزل إلى بيروت، ليشتري أسطوانة كارمينا بورانا (من تأليف الموسيقي الألماني كارل أورف) من محال شاهين للموسيقى في باب إدريس، ويجن حين يسمعها. وفي بعلبك يذهب إلى «مدرسة الإنجليز»، يتعلم مع صغار مثله الموسيقى الكلاسيكية بالمجان على يد الأسترالي «مستر أندرسون». وفي بعلبك أيضاً كان يرى وديع الصافي يصطاد العصافير، وقد أصبح معروفاً في الإذاعة، ثم يجلس أمام القلعة مع والده الشاعر عباس كركلا، الذي كان مديراً لها، يغنيان المواويل معاً.

طلال حيدر مقاربته للأشياء غريبة
الموسيقى مقدور عليها إذن، إنما هو يشتاق إلى القصيدة الفاتنة التي باتت تشح، ومن هنا أهمية الشاعر الوحيد المتبقي من الفريق القديم: طلال حيدر. «لهذا أهتم بصحته كثيراً». يقول كركلا: «حين نسافر ألزمه بالرياضة غصباً عنه. وحين نمارس رياضة يشعر بتعب، فأسمح له بأن يرتاح بين الوقت والآخر. هو كنز بالنسبة لي. وأنا في حاجة إليه». إذا كان سعيد عقل «شاعر الشعراء» فطلال حيدر «شاعر بالمطلق»، بالنسبة له. لا سفر إلى أي مكان من دونه، «لأنه يوقظ الفرح في داخلي حين يكون معي، لا أعرف كيف؟ ربما لأن طريقة مقاربته للأشياء غريبة قليلاً، ويعرف كيف يأتي بالماضي إلى الحاضر وبالعكس. لا أدري من أين يأتي طلال بصوره الشعرية!».

طلال أرستقراطي متمرد
كبرا معاً في حارات بعلبك، وبقيا سوياً. كان طلال شقياً مع أنه من عائلة ارستقراطية كبيرة. يفترض ألا يكون على الطرقات، لكن في الحقيقة «كان الوحيد من بيت حيدر الذي يبقى معنا وفي الليالي. كانت لنا حرية أكبر. لم نكن نخشى على ملابسنا. ندخل المغاور، نجلس في البساتين، نسبح في النهر، نمارس الركض والقفز، وأينما كنا وُجد طلال معنا».
صار الولد باكراً برعماً شاعراً، وبدأت الجذوة تُعرف في محيطها. وأخذ حيدر يجالس الشاعر ميشال طراد، حيث كان يلتئم الشمل في مجلس أمام قلعة بعلبك في الربيع وأسراب السنونو تحلق فوقهم ويختلط صوتها بصوت الشعر. «كان بيتي قريباً من هناك، آتيهم وأستمع إليهم. كان طراد يقول له يا طلال سمّعني. وكثيراً ما يعلّق (يخرب بيتك يا طلال، حتصير (ستصبح) شاعراً كبيراً». مرة كان سعيد عقل حاضراً فقال لميشال طراد صارخاً: «يا ميشال، مبيّن هذا حيروحنا اثنيناتنا (أي الظاهر أنه سيطيح بنا نحن الاثنين)». مديح في موقع الهجوم على ميشال طراد، حيث سعيد عقل كان يعرف قدره جيداً.
يصف كركلا طلال بأنه «عمر بن أبي ربيعة هذا الزمان. من يقرأ عن عمر ويعاشر طلال يرى أنه هو النسخة عينها. كان ابن أبي ربيعة أرستقراطياً يحب المرح والسرور. أكبر شاعر غزلي، ولا يهمه شيء. شاب جميل والنساء تطارده، لكنه انتهى ناسكاً متعبداً. دائماً أقول أطال الله في عمر طلال. أنا في حاجة إليه وإلى فريق عمل حولي مثقف وموهوب، يمنح الفرقة الجمال والألق والوحي، ليبقى مسرح كركلا مضيئاً بالقصائد والموسيقى والإبداع».

كركلا ولعبة الحظ
كان يمكن لعبد الحليم كركلا الذي يتربع اليوم على عرش «إمبراطورية فنية» أن يكون مجرد أستاذ رياضة أحيل على التقاعد منذ ما يقارب العقدين. هذا هو المسار الذي كان ينتظره لولا طموح خارق وجهد عجائبي. عصامي من الدرجة الأولى. دخل دار المعلمين وطموحه رياضي، أن يصبح بطلاً للعرب. اختار رياضة القفز العالي بالزانة، ولم يكن حينها للسلامة أي حساب. لا إسفنج تحت الرياضي لحمايته في حال هوى أرضاً. يرتفع أربعة أمتار على الزانة وينزل على الرمل. واجه خطر الموت تكراراً. تكسّر وأجريت له عمليات كثيرة. «كان عندي إحساس بالتحدي للعلو. الزانة أثرت بي كي أبقى أنظر إلى أعلى. لهذا؛ لا أتوقف لحظة عن النظر إلى فوق. أشعر بأن الوقت أسرع مني. أريد دائما أن استغله لأعمل شيئاً جديداً. هذا هو الهوس الذي أعيشه اليوم».
بعد كل عمل، يسأل نفسه، ماذا بعد؟ «أرتجف خوفاً، كيف يمكنني أن أقدّم أعظم من (طريق الحرير)، الذي كان في بعلبك العام الماضي. كم يجب أن أستجمع من المخيلة، من المشاهدات مما يحدث في مسارح العالم، كي لا أنقطع عن النظرة الشاملة للفنون العالمية؟ كي أعرف أين أبوّب نفسي؟ ومخيلتي أين يجب أن تذهب؟ حتى لو كنت أقدم عملاً شرقياً وعربياً فهذا ليس منقطعاً عما يقدم في أي مكان في العالم، فأنا في النهاية أقدم مسرحاً ورسالة جمالية إنسانية».
ثقّف كركلا نفسه بنفسه. ذهب يبحث عن الموروث في كل بلد عربي. يحاول العثور على إجابات. يسأل لماذا تكون الدبكة على هذا النحو؟ ما دلالة هذا التشابك بين الأيدي الذي يعطي إحساساً بالقوة الجماعية و«الخبط» على الأرض الذي يشعر بالتحدي والرجولية ويشعر بنبض الأرض.
لو سألت كركلا في أي لحظة نما لديه هذا الوعي بالفولكلور، وهل كانت له أي ميول في البداية غير الرياضة، لأجابك فوراً: «ليه أنا كنت عارف حالي شو بدي أعمل؟ ما كنت عارف شي!».
وجوده في بعلبك كرياضي، جعل لجنة المهرجانات تسند إليه مهمة مساعدة مصممي الرقص الأجانب الذين يأتون لتدريب فرقة الرحباني وروميو لحود. لفت الشاب نظر أندريه بونيه فأرسله إلى فرنسا وتخصص في الفولكلور. ولم تنقطع علاقتهما خلال العطلة الصيفية بالمهرجانات.
«بدأت أشعر بحبي للفن. أرى في بعلبك راقصي بيجار وغيره، يرتفع واحدهم في الهواء ويدور حول نفسه. أحاول أن أقلّدهم فلا أستطيع. عرفت أن ثمة تقنية يجب أن أتعلمها». بحث في لبنان عن مدرسة رقص. عثر على سيدة تعطي دروساً كلاسيكية في بيروت. صار يأتيها من بعلبك بالباص ويعود. حين جاء فرانس باور بونتوليه (كوريغراف أوبرا ميونيخ) للعمل مع المهرجان ساعده كركلا. وحين سألوه ما الذي أعجبك في لبنان وهو يغادر، أجابهم: كراكلوس. «هذا أمر لا أنساه في حياتي». بعد ذلك لفت الشاب نظر برت ستمل، وهو مصمم آخر جاء من أميركا للعمل مع فرقة الرحباني.
كان ذلك بين عامي 61 و63، وكانت رئيسة لجنة المهرجانات سلوى السعيد على فراش المرض وسمعت أن المصممين الأجنبيين بونتوليو وستمل يقولان إن لدى كركلا موهبة قوية، ويوصيان بأن يتخصص في الكوريغرافيا في مدرسة كبيرة في العالم، فكتبت رسالة إلى السفير نديم دمشقية في لندن. لكن من سيدفع تكاليف تعليمه؟

فريد الأطرش
القدر فتح له أبوابه. جاء النائب معين حمود في ذلك الوقت وقال له إن رفيق السعيد وهو رجل أعمال كبير، يريد مدرباً لقسم من فرقة رضا في مصر، لتقدم عروضاً في كازينو «كارافان سراي» الذي افتتحه في لندن. بعد مصر ذهب مع الراقصين إلى لندن. كان ضبط أعضاء الفرقة صعباً. يقول كركلا: «استخدمت كل سطوتي، وصرخت بهم صرخة بعلبكية ووضعت شروطي، وضبطت الفرقة. صارت ترن الإبرة فتسمع رنتها». كان يفترض أن يبقى معهم شهراً ويعود ليحفظ مكانته بصفته بطلاً رياضياً. سأل عن مدرسة لندن للرقص المعاصر، فعلم أن القسط لنصف سنة هو 300 جنيه إسترليني. «من أين لي بهذا المبلغ؟ في آخر يوم عمل بدأت أودّع لندن، أنظر إلى الضباب وأقول كيف سأترك لندن، وأبكي... أبكي بحرقة».
قبل أن يغادر لندن كانت الخلافات قد دبت بين أعضاء الفرقة. استدعاه رفيق السعيد وقال له: «ابق هنا مديراً للفرقة، وما تريده أفعله لك، قلت له: كي أبقى أريد أن أذهب إلى مدرسة. فقال لي مباشرة أنا أدفع لك قسط المدرسة والمطعم على حسابك والغرفة و57 جنيهاً... كان اقتتال أعضاء فرقة رضا بين بعضهم هو الذي غير مجرى حياتي».
من المفارقات أن مدرسة الرقص رفضت تسجيله لضعف مستواه. وتعاطفت معه المديرة حين رأت صدمته ومنحته ثلاثة أسابيع تجريبية اجتازها بنجاح.
«وهنا فتح القدر أبوابه من جديد، تتلمذت على تقنيات مارتا غراهام التي أعتبرها من أعظم التقنيات في العالم. وهو ما أعطاني القدرة على الجمع بين التراث والفن الغربي».
عاد كركلا إلى لبنان يريد أن يطبّق لغة مارتا غراهام، لكن سرعان ما اكتشف أن بمقدورهم في أوروبا أن يفعلوا أحسن منه، وهو ما سيجعله رقم 90 عالمياً وموضع سخرية، ففهم أن عليه أن يضع تصوراً جديداً وليس استنساخ ما تعلمه في لندن.
على «كرافان سراي» تردد فنانو العرب. وقرر كركلا أن يقدم عملاً راقصاً على أنغام موسيقى «موزاييك» لفريد الأطرش الذي سمع أن رقصاً جميلا يؤدى على موسيقاه، فجاء إلى الكازينو ليتفرج. «حين شاهد الرقص تأثر كثيرا وقال: عايز ده! فينو ده؟ وحين رآني قال لي: أنت إنس أم جن؟ فقلت له: الاثنان معاً». كان يأتي كل ليلة ومعه ضيوفه، وتوطدت العلاقة بينهما، ومن بعدها اشتغل كركلا في أفلام عدة لفريد الأطرش من بينها «نار الشوق» و«زمان يا حب». وفي آخر مقابلة له، سئل فريد الأطرش عن تمنياته فأجاب: «أن أعمل فيلماً استعراضياً مع فرقة كركلا».

منير بشير
بقي غرام كركلا أن يذهب باحثاً عن الكبار ليجعلهم جزءاً من مشروعه وقطعة من عمله. «هذا مرض عندي أن ألتقي الأكبر والأهم. إنه هاجس في رأسي». عندما صعد نجم عبقري العود منير بشير وذاع صيته، كان كركلا يحضّر لمسرحية مقتبسة عن شكسبير بروح شرقية. والفرقة بدأت تعرض في العالم. كركلا يريد أن يرى الغرب كيف يمكن تقديم شكسبير مع باليه يلتقي فيه الشرق والغرب بأسلوبه الخاص.
تواصل مع منير بشير، وذهب لزيارته حيث هو وفرقته في العراق، وكانت له مكانته، وحين عرض عليه الفكرة وافق. أرسل له كركلا سيناريو كتبه عن «ترويض الشرسة». ثم جاء منير بشير إلى لبنان ثلاثة أيام و«كنت أجلس وإياه كل يوم في استوديو كركلا في المتحف أشرح له الجزء الخاص به في العمل، والذي سيعبر عنه بموسيقاه. أعطيه الإيقاع والأوزان والسرعة والمضمون الحسي والفكري للقطعة، كي يشعر بها كمضمون إنساني. أسعد بذلك وأعجبه التحدي».
بعد ثلاثة أشهر ذهب إلى العراق لإنجاز التسجيل «وكانت مفاجأة حياتي، أنني اكتشفت أن منير بشير لا تعنيه النوتة حين يعزف. لم أكن أعرف أن له عبقرية سماعية إلى هذا الحد. لكن من يستطيع أن يجد خطأً واحداً لمنير بشير؟».
يروي كركلا: «دخلت الاستوديو ووقفت مذهولاً. رأيت منير بشير يجلس في صدارة القاعة فيما الموسيقيون يتوزعون حوله، ولا ضوء على الإطلاق. أمام كل منهم ميكروفون على الطريقة القديمة، وشمعة، مجرد شمعة، لأنهم يريدون عزف الموسيقى كأنهم في معبد، للحفاظ على الإيحاء في أجواء من الصمت والهدوء التام. لم أعرف ماذا أفعل. لا كرسي ولا كنبة. كان ثمة نافذة فجلست تحتها على الأرض وأخذت أصغي. بدأ بشير العزف وتبعه العازفون الآخرون، نحو 20 موسيقياً في غاية التناغم والإبداع، دون نوتة أمام أي منهم. كان المشهد رائعاً».
كتب منير بشير موسيقى من «نصف ساعة، من أجمل ما يكون»، لـ«ترويض الشرسة». عرضت المسرحية في لندن، ونالت تقديراً من لجنة شكسبير، وكان أول عمل لكركلا مقتبس عن شكسبير. لم يكن بشير قبلها قد خاض تجربة مع فرقة مسرحية راقصة؛ لهذا أحب التجربة وأعتبرها نوعاً من التحدي.
و«هو من ناحيته أوصلني إلى الموسيقى العالمية التي كنت أنشدها من تعاوني معه». يصفه بأنه صاحب «أخلاق عالية، وفن رهيب، مدرسة قائمة بذاتها. أعتبر أنني حققت أحلاماً لم يحققها أحد، مع هؤلاء العظماء».
لا مبالغة في القول إن عبد الحليم كركلا بشخصه هو مؤسسة قائمة بذاتها. يشرف على كل شيء، يدخل في أصغر التفاصيل. هو الذي يكتب السيناريو للمسرحيات، يختار نوع الموسيقى، يتواصل مع الملحنين، يضع الشعراء الذين يختارهم في أجواء عمله، يشرح لهم المعاني التي يريدها. هو أيضاً يصمم الملابس، يشرف على الخياطة، يتدخل في الديكورات، حاضر في رسم الخطوات الأولى للرقصات، وفي التأكد من أنها تسير كما ينبغي بعد التدريبات. يكاد يكون حاضراً، في كل شاردة وواردة. يشرف على أفلام الفيديو التي تصور، على التسجيلات كيف تحفظ. من هنا استحق لقب «المايسترو» عند فريق عمله.

الخيمة البدوية
يقول كركلا إن لديه إلى جانب بيته «خيمة عربية... كلما أشرق الصباح ذهب إلى الخيمة. أستقبل العالم في الخيمة. أقيم هذه الخيمة العربية الأصيلة؛ لأنني ابن البدو. لست من أصل بدوي، لكن أبي كان شاعراً كبيراً وربانا تربية بدوية على الحكمة والأصالة والتمسك بالكلمة والموقف والقرار، هذه كلها لها أصول بدوية. البدوي عنده شهامة وناموس وشرف وكرم، فيه صفات إنسانية رائعة البدوي. حين تأخذين هذه المزايا الإنسانية عن العرب فلك الشرف أخذ كل هذه القيم عن الإنسان البدوي البسيط».

وديع الصافي
كانت مشاركة وديع الصافي مع كركلا في بعلبك في مسرحية «أوبرا الضيعة» هي الخاتمة، لكن البدايات تعود عندما كان وديع الصافي قد بدأ يلمع نجمه. «كان يأتي وديع الصافي إلى البساتين ومعه بارودة صيد يمارس هوايته، ثم يمر على والدي الذي كان مديراً لقلعة بعلبك. كنت صغيراً، وأذكر كيف كانت الناس تقول: هذا وديع الصافي. وقد صار مطرباً يعمل في الإذاعة والناس تعرفه. تلك كانت بداياته الفنية، ولا يزال شاباً صغيراً أيامها». كان وديع الصافي يجالس والد كركلا الشاعر عباس أمام القلعة، ويستمع إلى شعره، ويسعد بحديثه وبقصصه التي يرويها له عن البدو. و«كان لأبي صوت رائع جداً. حين يغني (الأوف) يغنّي وديع معه».

جولة لـ «الشرق الأوسط» في {العالم الخفي} لأرشيف كركلا
> ما تشاهده على المسرح ليس إلا رأس الجبل. أدرك كركلا باكراً أن كل ما يحيط به سيصبح جزءاً من التاريخ. حرص من البدء على تسجيل كل شيء، تصوير كل ما يستطيع من التحضيرات لأعماله، الاحتفاظ بكل اللقطات الفوتوغرافية، الأفيشات، النصوص القصائد الألحان.
ينام عبد الحليم كركلا على أرشيف رهيب. جزء قليل منه في مسرحه في «الإيفوار»، لكن الجزء الآخر وربما الأهم في مستودع خاص من طابقين. هذا هو عالم كركلا الخفي. هناك تعثر على ما يقارب عشرة آلاف ثوب، صممها بنفسه، اختار أقمشتها قطعة قطعة، فكّر في كل شخصية كيف يلبسها. يقول: «كل شيء مؤرشف. لكل مسرحية قسمها الخاص، حيث ملابسها معلقة وموضبة لإعادة استخدامها في أي لحظة، من دون أي عناء. مع الملابس كل الإكسسوارات، من أقنعة وأغطية رأس، وستائر وعربات، وكل ما استخدم على المسرح».
حين تدخل هذا المستودع الهائل من طابقين، تشعر بذهول. يقول لك المسؤول عن المكان إن «الأستاذ» لا يسمح لأحد بالدخول إلى هنا. وهذا حقه وتعب عمره. كلما جُلت في المكان ذهلت أكثر للدقة الهائلة التي وضّبت بها الأغراض. كل صندوق كتب عليه محتواه، كل قطعة ملابس علق عليها رقمها، حتى أنك تخشى أن تلمسها أو تحاول لبسها والتقاط صورة تذكارية وأنت ترتديها، ذكرى من هذه الزيارة التي لا تتكرر. في هذه الزاوية «الأندلس المجد الضائع»، وهناك تعثر على ملابس أبطال «بليلة قمر»، وليس بعيداً معلّقة أزياء «اليسار ملكة قرطاج». جنون كركلا بالأقمشة والتخاريج والإكسسوارت جعله يخصص ركناً لها. لديه من الأقمشة الفاخرة ما يضاهي أفخم محل للأقمشة. لديه في وسط هذه الأثواب المكدسة ما يكفي لعشر مسرحيات مقبلة على الأقل، طاولة كبيرة يجلس إليها ويفكر، كيف يركّب الألوان، وماذا يلبس السلطان، وكيف يبرز شخصية الشرير. لا بد أنه يقضي هنا ساعات طوالاً ليعد لكل مسرحية مئات القطع.
شيء من الجنون أن يكون لديك كل هذه الأزياء، لكنك لا تستخدم أياً منها مرتين، وتجهد لتصميم المزيد. «يريد الأستاذ دائماً أن يرى الجمهور شيئاً جديداً. لا يعيد استخدام الملابس. كما أنه لا يحب أن ترى القطعة لمدة طويلة على المسرح، كي يغني نظر المتفرج»، يقول خليل وهو يجوب معنا عالماً بمزاج المايسترو لأنه يرافقه عند عرض مسرحياته حتى في الخارج. تلحظ أن التهوية لا تتوقف. درجة الحرارة يجب أن تبقى بما يضمن لكل هذا الأرشيف الحي حياته واستمراريته.
تستغرب أيضاً حين تعرف أن كل شيء يتعلق بأعمال كركلا ينفّذ هنا، في هذا المكان. هنا تغسل الملابس وتكوى عند استعمالها. وهنا أيضاً يقص الخشب والحديد، وتحضّر الديكورات. وثمة قسم كامل وفسيح للخياطة مع كامل تجهيزاته، حيث تخاط كل ملابس الفرقة. لا تكفي زيارة واحدة لتدرك كيف يعمل كركلا. عالم كامل يكتفي بذاته. وحين يتعب تجده قد حضّر ركناً بسيطاً، لكنه اتسع لكنبات وطاولة طعام حولها كراسي، كما لو أنك في صالون أعد لاستراحة محارب. محق كركلا حين يقول «إن اللبنانيين لا يعرفونني، ولا يعرفون ما فعلت في حياتي وماذا أفعل».
يمكنك أن تكتب صفحات عن هذه الحياة المجهولة لفرقة كركلا. عن هذا التنظيم المهني النادر في العالم العربي. عن شغف هذا الفنان بالأرشفة، عن قدرته على القيام بكل الأدوار في وقت واحد. وإن كان إيفان كركلا قد أخذ عن والده عبء الإخراج وابنته اليسار مهمة تصميم الرقص بعد أن تعلما في أهم الجامعات الأميركية اختصاصيهما وأثبتا جدارتهما، إلا أن الأب المؤسس لا يزال يشعر بأن على عاتقه تقع إدارة هذا الفضاء الذي شيّده من الصفر.
المستودع الكبير يحتضن الملابس والديكورات وتوابعها الغالية جداً على قلب كركلا. لكن هذا ليس كل الأرشيف. ثمة للمايسترو مكتبة موسيقية يقول «إن أحداً ليس لديه مثيلها». ذهب وجمع الألحان العربية والفولكلورية من كل بلد، من الجزائر وتونس والخليج ومصر، وغيرها. لم يترك موسيقى يمكن أن ترفد أعماله أو روحه إلا وجمعها. في هذه المكتبة الصوتية التي رتّبها في أدراج وكتب على كل منها محتواه، ثم نقلها وجددها مع تحول التكنولوجيات؛ ما يجعلك لا تصدق ما ترى. هناك أيضاً مكتبة أشرطة الفيديو. وهنا كنز آخر، فيه مفاجآت ليست بالحسبان. كل جلسات العمل والتحضير مع سعيد عقل. حتى الجلسات الأولى التي كان خلالها مارسيل خليفة يسمعه الألحان على قرع الطناجر مسجلة ومحفوظة. لديه ما يقارب 150 ساعة حوارات مع الشاعر أنسي الحاج. اللائحة تطول وتطول. من لم يعمل مع كركلا؟ تكاد لا تذكر اسماً كبيراً مرّ إلا وكان قد عمل معه. له رحلة طويلة مع هدى حداد، وعصام رجي. عمل معه برج فازيليان، أنطوان كرباج، جوزيف عازار، وديع الصافي. من الصعب أن نذكر هنا كل ما قاله المايسترو في هؤلاء وغيرهم. من المستحيل أيضاً أن تحصي كل الكنوز الدفينة التي ينام عليها، نذكر منها تلك المخطوطات الكثيرة التي كتبها له سعيد عقل. المسرحية التي يخبئها ليوم يستطيع تقديمها مع فيروز. مسرحية مملكة سبأ التي كتبها أنسي الحاج ولم تقدم على المسرح. كل القصائد التي كتبها له كبار الشعراء الذين تعامل معهم لمسرحياته ولم يستخدمها، ويعتقد أنها قد تصلح لعمل مقبل. وهناك الألحان التي لم تقدم على المسرح أيضاً، لكبار الملحنين، وبقيت في حوزته. ثروة ثقافية يتربع عليها المايسترو كركلا.
مشوار ليس ككل المشاوير، لأشهر مصمم رقص في العالم العربي اليوم، والذي لم نره يرقص مرة واحدة. وإذا سألته عن السبب أجاب: «لم أرقص في حياتي في أي مكان. لا أرقص إلا لنفسي، ولا أدري لماذا؟ أرقص حين أضع الخطوات والتصميم، وهمي أن أجعل راقصي يتحركون بحسابات دقيقة على المسرح ويطيرون كالنجوم. لا أرقص إلا أمام روحي».