أجيال في حياة أمة

من «الربابة» إلى «الممر»

بوستر فيلم «الممر»
بوستر فيلم «الممر»
TT
20

أجيال في حياة أمة

بوستر فيلم «الممر»
بوستر فيلم «الممر»

عادت لي ذكريات وقوفي في المدرسة تحية للعلم بعد انتصارات حرب أكتوبر (تشرين الأول) المجيدة، ونحن ننشد أغاني وطنية تلهب حماسة الأطفال والكبار على حد سواء، فأذكر أغنية وردة «على الربابة بغني»، وتذكرت كيف أن الأغنية والفيلم ربطاني بالوطن مبكراً، وهكذا تشكل بداخلي وبداخل جيلي رباط وطني يصعب تمزيقه مع الزمن، ولا خلاف على أن الأغنية وعوامل التعبئة المرئية، التي كانت متواضعة للغاية آنذاك مقارنة باليوم، جاءت بآثارها المحمودة، حتى أنني كنت دائماً احتفظ بشريط كاسيت عليه هذه الأغاني، حتى بعد مرور عقدين على هذه الحرب، وهو ما كان موضع بعض التهكم لدى الشباب آنذاك حتى ثورة 2011 التي أحيت هذه الأغاني مرة أخرى، وحفظها هذا الجيل نفسه الذي كان يلفظها، وهنا أدرك المغنون والملحنون وجود فجوة في الأغنية الوطنية، فبدأوا بالتحرك لسدها مواكبة للأحداث السياسية في مصر.
ولقد تذكرت كل هذا وأنا أشاهد فيلم «الممر»، الذي يُعتقد أنه يقارب أعلى الإيرادات في تاريخ السينما المصرية، إلى جانب فيلمين آخرين. والفيلم يحكي قصة عملية فدائية مصرية إبان حرب الاستنزاف خلف الخطوط الإسرائيلية، وقد لاحظت على الفور أنه يعد نقلة نوعية لصناعة السينما المصرية، بعيداً عن أفلام الحرب في السبعينات التي كانت بدائية الصنع محدودة الدقة، ولكن وجب علينا تقييمها في ظل ظروف عصرها. وقد تابعت تعليقات المشاهدين وانطباعات كثير من الشباب الذين تحدثت معهم، فكثير من الشباب لم يكن يدرك من الأساس أن هناك ما كان يسمى «حرب الاستنزاف» لسنوات بعد نكسة 1967، وآخرون غير مدركين لمعنى ومفهوم الحرب ودمارها، بينما الجميع أجمع على أن الفيلم، شكلاً وإخراجاً، قد يكون أقل مما نشاهده في هوليوود، ولكنه بكل تأكيد يمثل بداية انطلاقة للسينما المصرية في هذا المجال وجب دعمها.
وقد تفكرت كثيراً في هذه المواقف، فرأيت أن أضع ومضات من الفكر حماية لأجيالنا القادمة وأوطاننا، تشمل ما يلي:
أولاً: إن الثقافة، ممثلة في الأغنية والفيلم، هي جزء لا يتجزأ من وجدان الأمة، وأقوى وسائل الشحذ الوجداني، وهي وسيلة طبيعية انتهجتها ولا تزال تنتهجها الدول. فلو تابعنا أفلام الأربعينات والخمسينات في هوليوود، لوجدنا رصيداً كبيراً من الأفلام التي لم يكن هدفها الترفيه بقدر التعبئة العامة للشعب الأميركي إبان وبعد الحرب العالمية الثانية، حتى يشعر المواطن بوحدة الهدف وعظمة الصنع، وبالتالي وجب علينا مواجهة أي انتقادات كالتي وردت ببعض الصحف الأجنبية حول فيلم «الممر»، فهو ليس للتعبئة ضد أحد، ولكنه تعبئة لمشاعر أجيال لربطها بماضيها.
ثانياً: إن الأغنية ستظل مهمة للغاية لربط الشعب بهدفه، خصوصاً مع انتشار وسائل الاتصالات الحديثة، وانتقال السلعة الثقافية المؤثرة في تشكيل وجدان الأمة من دولة لأخرى بلا رقيب، فهي وسيلة سهلة الوصول، ثاقبة المفعول للمستمع، وهو ما ينطبق أيضاً على السينما، فهي أداة تجسيد مرئي لفكرة وقصة، ورسالة تأتي في مرتبة بعد الأغنية، لأننا لا نشاهد الفيلم عدداً من المرات مثلما نسمع الأغنية. وفي النهاية، فالأغنية والفيلم السينمائي أكثر تسلية مقارنة بالكتاب الذي يظل الطلب عليه أقل بكثير، لطول مدة القراءة وانتشار قطاع عريض في أمتنا العربية يعزف عن القراءة لأسباب مختلفة.
ثالثاً: إذا ما سلمنا بما تقدم، وأن السينما والأغنية والكتاب أعمدة الثقافة، فإننا نكون قد أصبحنا أمام مطلب ملح للغاية، وهو تفعيل دور الدولة في صناعة هذه السلع متفاوتة التكلفة، فالدولة يجب أن توسع دورها في دعم الكتاب بوسائل مختلفة، لا سيما مع التكلفة المرتفعة للطبع، وصعوبة اختراق حواجز آليات السوق أمام الكتاب، لا سيما من الشباب، والشيء نفسه ينطبق على الأغنية.
رابعاً: في التقدير أن المعضلة الأكبر هي صناعة السينما والمسرح، فهما سلعتان ثقافيتان يحتاجان لكثافة رأس المال، مقارنة بالسلع الثقافية الأخرى، بما يحتاج لخطط واضحة المعالم، انتقائية الدعم، من قبل الدولة للمساهمة في تطوير هذا القطاع بأشكال مختلفة، آخذين في الاعتبار أن التطور المذهل لانتقال الثقافي عبر ثورة الاتصالات قد أثر مباشرة في صناعة الذوق العام لشعوبنا، فكثافة رأس المال يجعل من يملكه يحتكر السوق، وهو أخطر ما يمكن أن يحدث لأنه يضع هذه الآلة القوية الفعالة في أيدي من يحكمه المكسب فقط، وهو ما يحتاج لمراجعة فورية.
حقيقة الأمر أنني لا أدعو لأن يكون تدخل الدولة لدعم صناعة السلع الثقافية هدفه «تلقين الشعوب» (Indoctrination)، فهذا زمن ولى بلا رجعة، لأسباب ناقشناها في المقالين السابقين، ولكن الهدف هنا هو المساهمة في رفع الذوق العام، وتثبيت كثير من القيم، وعلى رأسها الوطنية والانتماء، التي نسعى جميعاً لغرسها فينا وفي الأجيال الصاعدة، وتطوير هذا القطاع سيصب تلقائياً في تعظيم «القوة الناعمة» للدولة، فالأهداف متشابكة، ولكن الثقافة تعد في حقيقة الأمر خط الدفاع المتراجع الذي يحمي نواة وجوديتنا وهويتنا وقيمنا، فالثقافة تغير الشعوب من الداخل ببطء عبر الأجيال، وبالتالي تكون بالأهمية ذاتها للجيوش والاقتصاد، وغيرهما مما نصعده في سلم أولوياتنا.



فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص
TT
20

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

في روايتها «بيت الجاز» تولي الكاتبة والروائية المصرية نورا ناجي اهتماماً بإيجاد فضاء مكاني مُهمش يتسع لطرح تساؤلات محورية حول الموت المجاني، ومواجهة الواقع المرفوض، فيما يبدو السقوط وكأنه «رحلة» طويلة مُمتدة في حياة البشر، لا تنتهي بلحظة الارتطام بالأرض، أو الوقوف على الحافة، والنظر إلى الهاوية من منظور أبعد من كل التصورات عن الخوف من المجهول، بل يبدو الأمر أكثر واقعية من الواقع نفسه.

صدرت الرواية أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، وفيها يتفرع السرد إلى ثلاثة فصول ومسارات رئيسية، تمثل معاً «ضفيرة» العمل: (الكاتبة - الرِواية - الحقيقة)، تنهض على خلفية جريمة إلقاء طفل حديث الولادة من شبَّاك مستشفى في مدينة طنطا المصرية، بما يُلقي بظلاله على بطلات الرواية الرئيسيات؛ «رضوى» الكاتبة التي تبحث عن سلام مفقود، و«يمنى» الطبيبة التي تواجه واقعاً مُركباً، و«مرمر» الطفلة التي سُلبت منها طفولتها قسراً قبل أوانها.

وعبر 202 صفحة، تربط الرواية بين قصص بطلاتها عبر تقنية من التوازي بين ما هو واقع ومُتخيّل، والمساحات المهمشة والضائعة بينهما، تمهد الكاتبة لذلك على لسان «رضوى» بطلة الرواية: «ظلّت هذه الأقصوصة من صفحة الحوادث ماثلة أمام عينيّ رضوى بطلة الرواية ثلاثة عشر عاماً. تحفز الحادثة المروعة فتخوض رحلة تنقيب عن قصة أم هذا الطفل وملابسات تلك الفاجعة، لتُفجر تلك القصة (المُختبئة) آلاماً شخصية مطمورة داخلها، وتقودها إلى رحلة كتابة يتحوّل فيها الواقع إلى واقع آخر مُتخيّل، في تخليق سردي يبدو أقرب لخروج رواية من (رحِم) رواية أخرى».

تقمص روائي

أيضاً يبدو «الرحِم» أحد مفاتيح الاقتراب من العالم النفسي للرواية، بداية من توظيفه كمجاز لفكرة المهد الأول أو «البيت» الذي يشهد على مناخات طفولة غائمة وسنوات نشأة مُعقدة لبطلات الرواية الثلاث بطرق مختلفة، وصولاً لصورته المادية حيث تقترب الرواية من مأساوية واقع الإجهاض، بما يحمله من لحظات انكسار مضنية لا تتجاوزها النساء بسهولة، ولعل المشهد الرئيسي الصادم لسقوط جنين من شباك مستشفى جامعي على رأس رجل، يظل شبحاً يُلاحق بطلة الرواية «رضوى»، التي بدا لها هذا الحادث أعمق من مجرد «مادة» روائية جذابة، حيث يُعيد تعريفها على عالمها المُظلم وهي تتقمص مشاعر بطلاتها اللاتي استلهمتهن من تتبع هذا الحادث، فتقترب من تلك المشاعر التي كانت تتحاشاها بتناسيها عمداً، بما يلقي الضوء على «الكتابة» بوصفها فعل تحرير وتطهير، وكذلك فعل مُكاشفة مرأوي، حيث تبدو الكاتبة وكأنها مُتورطة في مأساة شخصيات روايتها، وكأنها جزء من تركيبة زمنها الروائي الذي تخلقه، دون أن تتخذ مسافة آمنة من عالمها الموحش.

تُسيّج نورا ناجي عالم روايتها بمحيط منطقة «بيت الجاز» بروائحه النفاذة، يعززها مجاورته للمقابر، ومستشفى «الجذام» القديمة، وهي بؤرة لا تكف عن بث مشاعر عارمة من الانقباض على مدار العمل: «بين الفقر والمرض والجلود الذائبة أو المتغضنة أو المجذومين الصامتين، في الشوارع المتربة والنساء اللاتي يرتدين السواد، وعربات الكارو وأكوام القمامة والشجر المصفر على جانبي الطريق»، هكذا تلقي الرواية بظلالها على العالم الذي تخرج منه «يمنى» الطبيبة التي تعمل بالنهار في مستشفى الجذام، وفي عيادة تجميل بالليزر ليلاً، لتبدو حياتها سلسلة من التناقض والانفصال، والبطلة الثانية «مرمر» ابنة «بيت الجاز»، التي ما إن تفتّح جسدها من مكمن الطفولة إلى عتبات الأنوثة حتى تلفها دوائر من الحيرة، فتبدو البطلتان وكأنهما تشاطران معاً رحلتهما صوب «السقوط»، الذي دعم السرد تقديمه بصورة فنية وكأنهما ظِل لامرأة واحدة حتى في مآلات مصيرهما، إنه السقوط الذي كانت تتقمصه بطلة الرواية «رضوى» خلال كتابتها لقصة بطلتيها: «كلما أغمضت عينيها ترى العالم يهوى. ليست هي من تسقط في رؤاها المُتخيلة، بل العالم من حولها».

أزمنة مشتركة

تتبنى الرواية منظوراً يُوسّع من تأمل الحكاية وعدم إغلاقها على بطلاتها، بما يجعل فعل الكتابة نفسه شريكاً في فهم الدراما النفسية والاجتماعية وراء هذا الحادث: «الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية، عن الجذر المُتخفي داخل الأرض، عن القسوة التي أدت للفعل، عن البطن التي لفظت، واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يُغلّف العالم مثل غلالة رقيقة. شر البشر يدفعها للتعاطف، الشر يخفي كل اليأس».

ويتسلل من خلال صوت «رضوى» خيط خفي يصل بين أصوات الكاتبات عبر أزمنة وعوالم مختلفة، كأنه تحية روائية لتلك الآصرة النِسوية، فالبطلة تتلمس على امتداد حياتها طيف الكاتبة «رضوى عاشور»، وتُلّمِح إلى «فيرجينيا وولف» التي تتحدث عنها بلسان حفيدة صارت «تملك غرفة تخصها للكتابة» بعد سنوات طويلة من الكفاح، وتسرد «قائمة الخسارات» المُشتركة لدى الكاتبات، وذلك الجانب المُعتم في حياتهن حيث «الكتابة هي الألم»، فتصفها بأنها: «حُمى راسكولنيكوف بعد قتله للمرابية العجوز، وهي دموع السيد أحمد عبد الجواد بعد موت ابنه، وهي خوف شهرزاد كل ليلة، وهي السماء التي تحتوي قمرين».