الاندماجات الإعلامية الكبرى... بين خفض التكاليف ومخاطر الاحتكار

دعوات لوضع شروط للصفقات العملاقة تضمن حرية الرأي

من الصفقات التي هزت عالم الإعلام في بداية القرن الـ21، شراء شركة «كومكاست» لقطاع برودباند من قبل شركة «إيه تي آند تي» في عام 2001 بمبلغ 72 مليار دولار
من الصفقات التي هزت عالم الإعلام في بداية القرن الـ21، شراء شركة «كومكاست» لقطاع برودباند من قبل شركة «إيه تي آند تي» في عام 2001 بمبلغ 72 مليار دولار
TT

الاندماجات الإعلامية الكبرى... بين خفض التكاليف ومخاطر الاحتكار

من الصفقات التي هزت عالم الإعلام في بداية القرن الـ21، شراء شركة «كومكاست» لقطاع برودباند من قبل شركة «إيه تي آند تي» في عام 2001 بمبلغ 72 مليار دولار
من الصفقات التي هزت عالم الإعلام في بداية القرن الـ21، شراء شركة «كومكاست» لقطاع برودباند من قبل شركة «إيه تي آند تي» في عام 2001 بمبلغ 72 مليار دولار

أسفرت موجة الاندماجات والاقتناء التي جرت في السنوات الأخيرة عن تغير خريطة البث التلفزيوني الدولي وبالتالي على وسائل الحصول على المحتوى المفضل لدى المشاهد. وقد ينتهي الأمر بضرورة الاشتراك في أكثر من خدمة بث تلفزيوني من الشركات الكبرى للحصول على المحتوى المثالي الذي يريده المشاهد ويحصل عليه حالياً من خدمة بث واحدة، مثل «نتفليكس».
وتقليدياً كان الفارق واضحاً بين صانعي المحتوى مثل «ديزني» و«يونيفرسال» و«إم جي إم» و«سوني»، وبين موزّعي هذا المحتوى مثل «كومكاست» و«فياكوم» و«نتفليكس» و«سي بي إس».
ولكن شركات صناعة المحتوى رأت فرصة سانحة في الكسب المزدوج من إنتاج المحتوى وتوزيعه في الوقت نفسه.
ومن يتابع أفلام الفضاء «ستار وارز» سوف يكتشف قريباً أنه لن يستطيع مشاهدتها فيما بعد على قنوات مثل «نتفليكس» وإنما عليه أن يبحث عن قناة بث تتبع «ديزني» التي حصلت على حقوق البث الحصرية لسلسلة ثمانية أفلام «ستار وارز» بعد إتمام واحدة من كبرى صفقات الميديا في التاريخ بشراء ««فوكس» القرن 21» بمبلغ 71.3 مليار دولار.
تبدو مسألة الاندماجات كأنها تقليص للمنافسة في السوق. ففي العام الماضي اشترت شركة «إيه تي آند تي» للاتصالات شركة «تايم وارنر» التي تملك بدورها شركة «إتش بي أو» واستوديوهات «وارنر بروزرز».
وتنتج شركة «إتش بي أو» حلقات «غيم أوف ثرونز» الشهيرة، ولأنها شركة مملوكة الآن لشركة «إيه تي آند تي» فقد يعني أن الحلقات الجديدة من هذه السلسلة سوف تمكن متابعتها فقط على قناة «ديركت تي في» المملوكة لشركة «إتش بي أو».
ويتبع معظم الشركات استراتيجية الحصول على المحتوى المرغوب وامتلاك قنوات البث الحصري له. وبعد موجة الاندماجات الأخيرة تسيطر خمس شركات كبرى على أكبر تسع قنوات بث تلفزيوني. وبعد امتلاك «سوني» لشركة «فوكس»، تسيطر المجموعة حالياً على نصف حجم السوق الأميركية للتلفزيون المدفوع هذا الموسم. وتسعى «ديزني» حالياً إلى تحويل كل المحتوى التابع لها الذي تبثه بالاشتراك مع قنوات أخرى إلى قنوات مملوكة لها. وتقول الشركة إنها سوف تبدأ بقناة «نتفليكس» في عام 2019، وسوف يعني هذا سحب أفلام ناجحة مثل سلسلة «ستار وارز» و«ثور» من «نتفليكس» في السنوات القليلة المقبلة بعد نهاية التعاقدات الحالية.
يقول روبرت أيغور المدير التنفيذي لشركة «ديزني»، إن الاندماج مع «فوكس» سوف يتيح للمجموعة تسريع استراتيجية توصيل المحتوى مباشرةً إلى المستهلك. وأضاف أن توزيع المحتوى في جهتي الترفيه والرياضة مهم للغاية في ضمان مستقبل المجموعة.
ويتكرر الموقف نفسه مع شركة أفلام «وارنر بروزرز» التي تمتلك العديد من المحتوى والأفلام التي أنتجتها بنفسها. وهي الآن جزء من شركة «إيه تي آند تي» المتخصصة في الاتصالات والتوزيع.
من النتائج المتوقعة أن الشركات التي تتخصص في التوزيع فقط، مثل «نتفليكس»، سوف تجد نفسها في موقف ضعيف في المستقبل أمام شركات المحتوى ذات قنوات التوزيع الخاصة بها. وذلك على الرغم من إعلان «نتفليكس» أنها تنوي إنفاق مبلغ 12 مليار دولار سنوياً على شراء المحتوى. وهي تسوق الآن بعض محتواها على أنه حصري لقناة «نتفليكس» ولكنها في الواقع لا تملكه.
وتملك «ديزني» الآن شركة «هولو» لتوزيع المحتوى داخل أميركا ولديها 20 مليون مشترك. ولا تنوي «هولو» أن تنفرد فقط بالمحتوى الذي توفره لها «ديزني» بل تعلن عن أفلام من إنتاج «إتش بي أو» التي تملكها «إيه تي آند تي».

صفقات هائلة
ما زال الرقم القياسي لصفقات الاستحواذ في عالم الميديا تحتفظ به شركة «أميركا أونلاين» التي اشترت من خلالها شركة «تايم وارنر» في عام 2000 بسعر قياسي وصل إلى 162 مليار دولار. وتم التعاقد على الصفقة في أوج فقاعة الإنترنت والتي كانت «أميركا أونلاين» رائدة في تقديم خدمات الإنترنت وقتها. وبعد الصفقة بعدة أشهر انفجرت الفقاعة. ولم تصل الشركتان إلى تفاهم حول العمل المشترك واستمر الوضع على ما هو عليه حتى عام 2009 حيث جرى الانفصال وتحولت ملكية «أميركا أونلاين» إلى ملكية شركة «فيريزون» في صفقة قيمتها 4.2 مليار دولار.
في عام 2000 أيضاً تم استكمال صفقة شراء «فياكوم» لمؤسسة «سي بي إس» بمبلغ 35.6 مليار دولار. وجرت الصفقة في ذروة انتعاش البورصة وشركات الدوت كوم، ولكن الانفصال وقع بين الشركتين بعد سبع سنوات. وتتردد دعوات عودة الاندماج بين الشركتين، ولكن يبدو أن رئيس مجلس الإدارة في «فياكوم» البالغ من العمر 94 عاماً لا يتحمس لصفقات كبرى قريباً.
من الصفقات التي هزت عالم الميديا في بداية القرن الـ21 كانت شراء شركة «كومكاست» لقطاع برودباند من شركة «إيه تي آند تي» في عام 2001 بمبلغ 72 مليار دولار. ومنحت الصفقة المجموعة المشتركة نحو 22 مليون مشترك في 41 ولاية عبر الكيبل والإنترنت.
وفي عام 2016 تم الإعلان عن صفقة استحواذ «إيه تي آند تي» على «تايم وارنر» بحجم 85 مليار دولار. وحاولت وزارة العدل الأميركية الاعتراض القضائي على الصفقة على أساس أنه نوع من الاحتكار ولكن المحاولة فشلت لوجود سوابق لصفقات مماثلة لم تؤثر على السوق.
وفي العام نفسه 2016 جاءت صفقة الاستحواذ التالية التي جمعت بين شركات «تشارتر» و«تايم وارنر» و«كيبل برايت هاوس» بحجم 65.5 مليار دولار. ونتج عن الصفقة ثاني أكبر مجموعة كيبل. وكانت إحدى نتائج الصفقة أيضاً حصول جيمس دولان أحد مديري شركة «تشارتر» على 98.5 مليون دولار من الحوافز، مما جعله أعلى مدير عام أميركي أجراً خلال هذا العام.
ورغم عقد كل هذه الصفقات الكبرى فإن النقاش ما زال دائراً حول ما إذا كان المحتوى أو التوزيع هو الأهم في شبكات الميديا في المستقبل. ويقول جون كودي رئيس شبكة «أو تي تي» الأميركية، إن الشركات الناجحة عليها أن تمتلك قنوات التواصل المباشر مع المستهلك، وأن يكون التنافس على مستوى عالمي وبمحتوى جيد. وأشار كودي إلى نجاح «نتفليكس» في الفترة الأخيرة على أنه مثال يحتذى.
كما أن المنافسة في المستقبل سوف تعتمد على الحجم أيضاً، فكلما زاد حجم المشتركين انخفضت التكلفة على الشركة الموزّعة. وأحد أمثلة ذلك شركة «إيه تي آند تي» التي توفر خدمات لأكثر من 100 مليون مشترك. وتمتلك الشركة محتوى جيداً من شركة «إتش بي أو» التي تتبعها منها مسلسلات «غيم أوف ثرونز» و«وست ورلد» وأفلام «هاري بوتر».
وتستخدم شركات أخرى مثل «نتفليكس» و«أمازون» استراتيجية الحجم في الإنفاق الهائل على المحتوى لإغراء المستهلك. وتعرف الشركات الأصغر حجماً مثل «تايم وارنر» أن عليها أن تنفق بمعدلات كبيرة لكي تبقى في السوق. وعند نقطة معينة لا يعود للإنفاق منفعة حدية لأنه يأتي على حساب الأرباح.
وتلجأ الشركات الكبرى إلى حيلة أخرى هي خفض قيمة الاشتراك لكسب المزيد من المشتركين. وتعتمد هذه الخطة على امتلاك الشركة لاقتصاديات الحجم في مجال معين لاستغلاله لبيع باقات في مجال آخر. ودشنت شركة «إيه تي آند تي» مؤخراً خدمة اشتراك رخيصة بتكلفة 15 دولاراً فقط شهرياً توفر من خلالها 30 قناة تلفزيونية بما فيها «سي إن إن» مع باقة هاتف جوال غير محدودة.

مخاطر الاندماج
مع تعدد الصفقات الكبرى وسهولة الحصول على التراخيص من الوزارات المعنية التي يبدو أنها لم تعد تهتم بعواقب الاحتكار في أسواق يسيطر عليها العمالقة بالفعل، فإن هناك بعض المخاطر التي يعددها الخبراء المستقلون في أسواق الميديا. رئيسة شركة المحاماة «رامو لو»، أيلسا رامو، تقول إن هناك مخاطر على قيمة المحتوى مع تكرار الاندماجات، ومنها أن تفقد الشركات التي تنضم إلى مجموعات أكبر انفرادها الذي كانت تتميز به في فترة استقلالها.
وعبّر خبراء آخرون عن مصير الشركات الصغيرة التي تعتمد على الابتكار والمهارة في إنتاج مصنفات فنية جديرة بالمشاهدة، بأن مثل هذه الشركات مهددة بالاندثار تحت وطأة منافسة الكبار وقد ينتهي بها الأمر إلى الانضمام إلى المجموعات الأكبر حجماً.
ولا شك أن الخطر الظاهر من تقلص المنافسة في عالم الميديا أن المصير المحتمل هو الوقوع في فخ الاحتكارات في السوق. ومثل هذه الاحتكارات لها أخطارها التي تفوق مجرد رفع الثمن على المستهلك. فهناك مسألة حرية الرأي التي يمكن لاحتكارات الميديا أن تتحكم فيها وأن تمنع الآراء السياسية المخالفة لتوجهات مالكي ومديري هذه الاحتكارات. وهناك شبهة من هذا النوع في بريطانيا إزاء وسائل الميديا التي يملكها روبرت مردوخ في أثناء فترات الانتخابات من حيث تشجيع أحزاب على حساب أحزاب أخرى.
ومع استمرار وجود عمالقة السوق، فإن أحد الحلول المطروحة هو وضع شروط على أي اندماجات جديدة تضمن حرية الرأي وتمنع رفع الأسعار أو خفضها بنسب كبيرة يمكنها أن تؤثر على المنافسين في السوق. والأهم من هذه الشروط هي متابعة تطبيقها وتوقيع غرامات باهظة على المخالفين. وعلى الدول التي تسمح بدخول خدمات بث هذه الشركات أن تُلزمها أيضاً بقواعد العمل في السوق المحلية التابعة لها.

اندماج أكبر سلسلتي صحف في أميركا
أعلنت أكبر سلسلتي صحف في الولايات المتحدة مطلع شهر أغسطس (آب) الجاري، اندماجهما، في محاولة لخفض النفقات والتحرك ككيان واحد نحو مجال الإعلام الرقمي.
ووفقاً للإعلان ستندمج سلسلة «غيت هاوس» التابعة لشركة «نيو ميديا إنفستمنت غروب» مع سلسلة «جانيت». وتقدر قيمة الصفقة بنحو 1.4 مليار دولار وستؤدي إلى قيام مجموعة صحافية تُصدر 263 صحيفة يومية في 47 ولاية أميركية إلى جانب جزيرة غوام التابعة للولايات المتحدة.
وبعد إتمام الصفقة سيحصل مساهمو «جانيت» على نحو 49.5% من أسهم الكيان الجديد في حين ستمتلك شركة «نيو ميديا» نحو 50.5% من أسهمه.
وتأمل السلسلتان في جعل صحفهما أكثر جاذبية للمعلنين في ظل تراجع إيرادات الإعلانات في صناعة الصحافة المطبوعة ككل. في الوقت نفسه، من المتوقع أن يؤدي الاندماج إلى خفض النفقات بما يصل إلى 300 مليون دولار سنوياً للسلسلتين.



كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».