قصر البارون التاريخي في القاهرة يستعد لاستقبال زواره بتقنية الهولوغرام

«الآثار المصرية» تنظم معرضاً يحكي تاريخ حي مصر الجديدة

أعمال ترميم قصر البارون في مصر (أ.ف.ب)
أعمال ترميم قصر البارون في مصر (أ.ف.ب)
TT

قصر البارون التاريخي في القاهرة يستعد لاستقبال زواره بتقنية الهولوغرام

أعمال ترميم قصر البارون في مصر (أ.ف.ب)
أعمال ترميم قصر البارون في مصر (أ.ف.ب)

بتقنية الهولوغرام يستقبل البلجيكي البارون إمبان (1852-1929)، مؤسس حي مصر الجديدة (شرق القاهرة)، زوار قصره التاريخي الذي يتوسط شارع صلاح سالم، في معرض يحكي قصة إنشاء حي مصر الجديدة، وتاريخ المطرية وعين شمس، وذلك في أعقاب الانتهاء من أعمال ترميم وتطوير القصر، وإعادته إلى حالته الأصلية عند الإنشاء، تمهيداً لافتتاحه في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وقال الدكتور خالد العناني، وزير الآثار المصري، في تصريحات صحافية على هامش جولة بالقصر أمس، إن «المعرض سيحكي فكرة تأسيس مصر الجديدة، ولماذا اختار البارون إمبان هذا المكان، والدعم الذي تلقاه من شخصيات مصرية لهذا الغرض، وسيحكي المعرض تاريخ القصر، وعمليات الترميم التي تمت به».
من جانبه قال الدكتور محمود مبروك، مستشار وزارة الآثار للعرض المتحفي، لـ«الشرق الأوسط» إن «مصر الجديدة كانت واحة في الصحراء، قرر البارون إمبان تعميرها، وبناء مدينة جديدة بها، عام 1905، وصنع بها طابعا جديداً، ولذلك فإن فلسفة العرض المتحفي تتضمن استخدام تقنية الهولوغرام لتجسيد شخصية البارون إمبان، في مدخل القصر حيث يستقبل زواره، ويحكي لهم سبب اختياره لهذا الموقع وكيف أسس حي مصر الجديدة العريق».
وأضاف مبروك إن «الزائر سينتقل بعد ذلك لقاعة أخرى حيث يشاهد اسكتشات المصمم المعماري ألكساندر مارسيل، والذي كان له دور كبير في العمارة المصرية، وكيف استخدم الفكر الإسلامي في العمارة بشكل حديث، وبعد ذلك ينتقل الزائر إلى قاعة أخرى يشاهد فيها عبر شاشات تاريخ ومراحل إنشاء حي مصر الجديدة، وترام مصر الجديدة، الشهير»، مشيراً إلى أن «المعرض سيعرض للمرة الأولى وثائق تاريخية عن مصر الجديدة، وعن ترامها وشركة البارون إمبان».
وتابع مبروك إن «القصر سيستعرض المجهودات التي تمت في الترميم لإعادة القصر إلى سابق عهده»، مشيراً إلى أن «القصر تحمل الكثير من الانتهاكات على مدار سنوات، وكتب على جدرانه، لذلك من المهم إظهار المجهود الذي تم في الترميم».
ويتم ترميم القصر وإعادة توظيفه بالتعاون مع السفارة البلجيكية بالقاهرة، وجمعيات المجتمع المدني بمصر، وحتى الآن انتهت وزارة الآثار من نحو 85 في المائة من أعمال ترميم القصر، تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، بتكلفة إجمالية تصل إلى 100 مليون جنيه، حيث تم الانتهاء من أعمال التدعيم الإنشائي لأسقف القصر، وترميمها، وتشطيب الواجهات، وتنظيف وترميم العناصر الزخرفية الموجودة بها، واستكمال النواقص من الأبواب والشبابيك ونزع جميع الأسقف، والكرانيش الجصية، والانتهاء من ترميم الأعمدة الرخامية والأبواب الخشبية والشبابيك المعدنية وترميم الشبابيك الحديدية المزخرفة على الواجهات الرئيسية واللوحة الجدارية أعلى المدخل الرئيسي، والتماثيل الرخامية بالموقع العام، وجاري استكمال العمل في تنسيق الحديقة.
وقالت الدكتورة نيفين نزار، معاون وزير الآثار للمتاحف، لـ«الشرق الأوسط» إنه «تم التعاون مع المجتمع المدني في مصر الجديدة، لجمع بعض مقتنياتهم الخاصة بالحي، وعرضها بالمعرض»، مشددة على «أهمية المشاركة المجتمعية حيث يشعر سكان مصر الجديدة بأن القصر ملك لهم، وجزء من تاريخهم»، مشيرة إلى أن «المعرض الذي سيقام بالقصر سيضم مجموعة من الصور والرسومات والخرائط الخاصة بحي مصر الجديدة، والمطرية، وأهم معالمها الأثرية، إضافة إلى بعض مقتنيات سكان حي مصر الجديدة». وبالنسبة لحديقة القصر أوضح العناني أنه «سيتم عرض ترام مصر الجديدة الذي توقف العمل به في حديقة القصر، ليحكي القصر تاريخ مصر الجديدة، ويشعر زائر القصر أنه عاد 100 عام للوراء»، مشيراً إلى أنه «سيسمح باستغلال الحديقة في أنشطة فنية واجتماعية، لكن لن يسمح بأي استغلال تجاري داخل القصر».
وأشار مبروك إلى أن «ترام مصر الجديدة سيوضع في الحديقة كأقدم مثال للترام في مصر، والذي تسبب في تحقيق نقلة حضارية للمكان»، وقال إنه «سيتم وضع شاشات داخل الترام يمكن للطفل من خلالها مشاهدة مصر الجديدة وكأنه يتجول فيها بالترام». وأثار مشروع ترميم قصر البارون حالة من الجدل أخيراً، على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب تغيير لون القصر عن اللون الذي اعتاده الناس على مدار سنوات، وإزالة السور الحديدي المحيط بالقصر، وأكدت وزارة الآثار من خلال الجولة أنها «لن تمس أي مبانٍ أثرية، ولن تغير معالم القصر التاريخية».
وقال العناني «مشروع ترميم القصر سينتهي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو أول مشروع ترميم للقصر بعد أكثر من 100 عام»، مشيراً إلى أن «المبنى تراكمت عليه الأتربة التي حولت لونه إلى اللون الرمادي، وبمجرد إزالة هذه الأتربة ظهر اللون الأصلي للقصر، وهو اللون البني المحروق، وحالة الجدل ناتجة عن عدم تعود الناس على اللون الأصلي للقصر»، مشدداً على أن «الوزارة ملتزمة بالرسومات الهندسية والألوان الأصلية للقصر». وأوضح العميد هشام سمير، مساعد وزير الآثار للشؤون الهندسية والمشرف العام على مشروع تطوير القاهرة التاريخية، أن «عمليات الترميم والدراسات التي أجرتها وزارة الآثار، أظهرت الألوان الأصلية للقصر، والتي تغيرت بفعل عوامل الزمن»، مشيرا إلى أن «هذه الألوان سبق ذكرها في الوثائق التاريخية التي تحدثت عن قصر البارون.
وأوضح سمير أنه «تمت الاستعانة بالرسومات الأصلية للقصر للمهندس ألكسندر مارسيل، لإنشاء أسوار بنفس تصميم الأسوار الأثرية القديمة، وهي عبارة عن قاعدة طولية خرسانية أسفل منسوب سطح الأرض، يعلوها أعمدة بانوهات حديدية بطول الواجهات، مع وجود أعمدة حجرية بقطاع صغير موزعة على مسافات لتثبيت البانوهات الحديدية للأسوار».
بني قصر البارون عام 1911. وتصميمه مستوحى من معبد أنكور وات في كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية، وتبلغ مساحته 12.5 ألف متر، ويتكون من طابقين وبدروم.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)