عودة قوية لـ«الشباب» الصومالية إلى دائرة الضوء

بعد أن اشتد عودها بسبب الدعم القطري ـ التركي ـ الإيراني

دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
TT

عودة قوية لـ«الشباب» الصومالية إلى دائرة الضوء

دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)

مرة جديدة، تعود «حركة الشباب» الصومالية إلى واجهة الإرهاب، وهي التي لم تتوارَ أبداً عن هذا الميدان المكروه، وذلك عبر تبنيها عملية إرهابية جديدة، تمثلت في تفجير أكثر من سيارة ملغمة في قاعدة عسكرية صومالية، في مدينة «اوديغلي» الزراعية الواقعة على نهر شبيلي، على بعد 70 كيلومتراً جنوب غربي مقديشو، الأسبوع الماضي.

الحركة الإرهابية الصومالية المرتبطة بتنظيم القاعدة أشارت إلى أن الانفجارين أسفرا عن سقوط نحو 50 جندياً، ومقتل اثنين من إرهابييها، وذلك بحسب المتحدث باسم العمليات العسكرية فيها، عبد العزيز أبو مصعب. وتبدو عمليات «الشباب» الصومالي متصاعدة بشكل كبير في الأيام الأخيرة، ذلك أنه إن كان الهجوم على هذا المعسكر قد جرى الشهر الحالي، فإنه في يوليو (تموز) الماضي أيضاً تبنت الحركة عينها هجوماً انتحارياً أدى إلى مقتل 26 شخصاً، وإصابة العشرات في الصومال، وذلك بعد الانقضاض على فندق كيسمايو الشهير، مع عدد من المطاعم، مستهدفين اجتماعاً للنواب وشيوخ القبائل هناك، مما أسفر عن عشرات القتلى والمصابين.
ويعن لنا أن نتساءل بداية: هل ما نراه أمر جديد بالنسبة لهذا التنظيم الإرهابي، أم أن هناك ملامح ومعالم لدعم خفي جديد يتلقاه التنظيم، ولأهداف تخفى عن أعين المراقبين السياسيين والأمنيين، عطفاً على أجهزة العالم الاستخباراتية؟
لا يمكننا الحديث عن تلك الحركة دون التأصيل لها، بمعنى إظهار عمق علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي، ومموليها عبر العالم، وهي تتبع فكرياً تنظيم القاعدة، ويصل تعدادها إلى نحو 10 آلاف عضو، ويعتقد أن المنتمين إليها يتلقون تدريبات في بعض الدول الأفريقية المجاورة للصومال.
وتقوم الحركة بالتضييق على المواطنين، وممارسة السيادة الفقهية عليهم، عبر مفاهيمها الخاصة الضيقة المتزمتة للشريعة، فيما يتهمهم الرئيس الصومالي «شريف شيخ أحمد» بتشويه الإسلام ومضايقة النساء.
التأصيل والتجذير العميقين لحركة الشباب الصومالي يوضحان لنا أنها خرجت من رحم تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين، فقد كانت التسعينات هي الفترة المؤلمة التي تهاوت فيها أركان الدولة الصومالية، ونشأت جماعات إرهابية مختلفة الأسماء والتوجهات، بل والولاءات، وعرفت الشباب بداية باسم «الاتحاد الإسلامي». ونشطت «الشباب» في تنظيم معسكرات تدريب لإرهابييها في مدينة كيسمايو، ثم تشعبت بعد ذلك إلى مناطق أخرى في الداخل الصومالي، مثل غدو ورأس كامبوني، وتغذت الحركة على تسجيلات من أفغانستان، لا سيما تلك التي خلفها من وراءه عبد الله عزام، منظر المتطرفين العرب والأفغان الأشهر في ثمانينات القرن المنصرم، والمعلم الآيديولوجي الأول والأكبر لأسامة بن لادن.
عبر نحو عقدين من الزمن، اشتد عود «حركة الشباب» الصومالية، كما يمكن القطع بأن هناك أنظمة مجاورة للصومال استغلت حالة التفكك والتفسخ في الداخل الصومالي لاستخدام تلك الجماعة كخنجر في خاصرة الأعداء السياسيين، لا سيما بعد أن بلورت الحركة نفسها من فصيل سياسي ينتهج العنف المسلح إلى جماعة إرهابية ترتكب العنف بشكل عشوائي تنفيذاً لأجندات خارجية، مقابل الأموال حيناً، ولإثبات وجودها في أحيان أخرى.
ويصف مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تنظيم الشباب» في الصومال بأنه «نبتة خبيثة»، ويشير بيان صدر منذ بضعة أسابيع إلى أنه حين يتحد الجهل بالإرهاب «يفرز لنا نبتة خبيثة تكبر وتترعرع على أشلاء الضعفاء، وبدماء الأبرياء، وهذا هو حال (حركة الشباب) الصومالية التي تخرج علينا يوماً بعد يوم بفتاوى تكفيرية ليس لها أصل في الدين، ولا تتناسب مع سماحة الإسلام ووسطيته، وكان آخرها أن المشاركة في الانتخابات، سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو غيرها، هي من الكفر البواح الذي يستتاب منه المرء، وإلا فالقتل مصيره وعقابه».
بيان مرصد الأزهر يلفت، كما أشرنا في مقدمة هذه السطور، إلى أنه خلال الآونة الأخيرة صعدت الحركة من وتيرة العمليات الإرهابية في الصومال بسبب الانتخابات البرلمانية. كما طالبت جميع شيوخ العشائر الذين شاركوا في الانتخابات البرلمانية والمحلية بإعلان التوبة أمام الحركة، وأمهلتهم 45 يوماً.
من يقف وراء الحركة؟ ومن يقدم لها الدعم المالي واللوجيستي؟
لا يمكن أن يخرج الإرهاب بعيداً عن ثلاثي الشر، المتمثل في تركيا وإيران وقطر دفعة واحدة، وهو الأمر الذي لفتت إليه تسريبات ويكيليكس، حيث أشارت إلى أن واشنطن طلبت رسمياً من قطر وقف تمويل الحركة الإرهابية هذه.
وتظهر بعض الوثائق التي نشرها موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس» أن الدوحة عملت جاهدة، وعبر إغراءات متنوعة، على استقطاب ما يعرف بـ«خلية عبد القادر مؤمن» التابعة لحركة الشباب الإرهابية الصومالية، التي أعلنت مؤخراً انفصالها عن الحركة، وبايعت تنظيم داعش، واستقرت في شمال الصومال، وأصبحت تتلقى التدريبات والتمويلات بشكل مباشر من المخابرات القطرية، تحت ستار مساعدات التنمية والإغاثة الإنسانية.
ما الذي تسعى قطر تحديداً وراءه في أفريقيا؟
من الواضح جداً أن الدوحة تسعى لبناء شبكة عنكبوتية إرهابية، تستخدم فيها دورها وعلاقاتها مع جماعات التطرف السياسي، لتجد لها موطئ قدم في وسط القارة السمراء. وبحسب محللين استخباريين، فإن الصومال تعد نقطة ارتكاز رئيسية بالنسبة لقطر تنطلق منها في شكل أفقي، وتمول أكثر من تنظيم أو جماعة إرهابية تعمل في مقديشو وخارجها عبر ضباط مخابرات قطريين، وتتجمع خيوطها لدى «تنظيم الحمدين»، ويجمعهما معاً ضمان التمويل والدعم القطري.
لم يكن ما نشرته «ويكيليكس» بعيداً عما أماطت اللثام عنه صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت مؤخراً، عن مضمون اتصال هاتفي بين السفير القطري في الصومال ورجل أعمال مقرب من أمير قطر، يقول فيه الأخير إن مسلحين نفذوا تفجيراً في مدينة بوساو (شمال شرقي الصومال) خدمة للمصالح القطرية عبر طرد منافستها الإمارات.
وجرى التفجير المشار إليه في الاتصال الهاتفي في شهر مايو (أيار) الماضي، واستهدف سيارة رئيس المحكمة العليا في المدينة، وأدى إلى إصابة 8 أشخاص بجروح. وفي الاتصال المسجل، الذي حصلت «نيويورك تايمز» على نسخة منه، وجرى في 18 مايو (أيار)، يقول رجل الأعمال خليفة قايد المهندي إن «التفجيرات والاغتيالات نحن نعرف من يقف وراءها»، ويضيف أن العنف «يهدف إلى دفع جماعة دبي إلى الهرب بعيداً».
بقية الحديث الصوتي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الدور القطري في داخل الصومال، فوفق «نيويورك تايمز»، فإن السفير القطري حسن بن حمزة هاشم لم يبدِ أي احتجاج أو انزعاج من فكرة تأدية القطريين دوراً في هذه التفجيرات، إذ يقول على الهاتف لرجل الأعمال القطري: «إذن لهذا السبب نفذوا الهجوم هناك، ليدفعوهم إلى الهرب»، فيؤكد له رجل الأعمال «أصدقاؤنا كانوا وراء التفجيرات الإرهابية».
اين تركيا من المشهد الصومالي المشتعل عبر إرهاب «حركة الشباب»؟
يكشف تقريراً دولياً صدر في السويد، وأشار إليه موقع «نورديك مونيتور»، أن الاستخبارات التركية مولت حركة الشباب الصومالية عبر عميل كان سجيناً سابقاً في غوانتانامو، أي من خلال أحد رجالات «القاعدة» سابقاً.
المثير أن تركيا التي لديها قاعدة عسكرية في الصومال، تتذرع بأنها وجدت لدعم الدولة الصومالية، يقوم أحد عملائها، ويدعى إبراهيم سين، البالغ من العمر نحو 37 سنه، بنقل 600 ألف دولار إلى حركة الشباب في سبتمبر (أيلول) وديسمبر (كانون الأول) عام 2012.
والشاهد أن وزارة الخزانة الأميركية، التي اكتشفت الأمر وأرسلت إلى إردوغان رسالة مباشرة لفتح تحقيق حول الدعم التركي للإرهاب هناك، لم تتلقَ أي رد من أنقرة، بل التصرف الوحيد الذي قام عليه إردوغان هو أنه أمر بوقف التحقيقات، وإغلاق القضية الخاصة بالمواطن سين الذي عمل لصالح المخابرات التركية في نقل المقاتلين من وإلى سوريا، بحسب ملف التحقيقات الذي رفعت عنه السرية في يناير (كانون الثاني) 2014. وكان سين قد تم اعتقاله في باكستان لصلته بتنظيم القاعدة، واحتجز في غوانتانامو حتى عام 2005.
ولا يكتمل مثلث الإرهاب في الصومال بعد قطر وتركيا من دون إيران، وقد أشارت تقارير استخباراتية متعددة، عطفاً على قراءات لمراكز دراسات موثوقة، إلى أن إيران تتغلغل في غرب ووسط أفريقيا، لنشر مبدأ التشيع من جهة، وللحصول على أهم سلعة يقوم عليها مشروعها النووي في الوقت الحاضر، أي اليورانيوم الموجود في الصومال، وبكميات كبيرة، لا سيما في منطقة تسمى جالمودغ.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن شرح ما تفعله إيران بدورها في الصومال، إنما المؤكد، وبحسب تقرير لفريق الرصد الدولي الخاص بالأمم المتحدة عن الصومال، أن طهران سعت - ولا تزال - للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من الصومال، مقابل توريد أسلحة لمتطرفي «تنظيم الشباب».


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.