عودة قوية لـ«الشباب» الصومالية إلى دائرة الضوء

بعد أن اشتد عودها بسبب الدعم القطري ـ التركي ـ الإيراني

دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
TT

عودة قوية لـ«الشباب» الصومالية إلى دائرة الضوء

دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)
دمار وخراب بسبب تفجير انتحاري قرب البرلمان في العاصمة مقديشو يونيو الماضي (رويترز)

مرة جديدة، تعود «حركة الشباب» الصومالية إلى واجهة الإرهاب، وهي التي لم تتوارَ أبداً عن هذا الميدان المكروه، وذلك عبر تبنيها عملية إرهابية جديدة، تمثلت في تفجير أكثر من سيارة ملغمة في قاعدة عسكرية صومالية، في مدينة «اوديغلي» الزراعية الواقعة على نهر شبيلي، على بعد 70 كيلومتراً جنوب غربي مقديشو، الأسبوع الماضي.

الحركة الإرهابية الصومالية المرتبطة بتنظيم القاعدة أشارت إلى أن الانفجارين أسفرا عن سقوط نحو 50 جندياً، ومقتل اثنين من إرهابييها، وذلك بحسب المتحدث باسم العمليات العسكرية فيها، عبد العزيز أبو مصعب. وتبدو عمليات «الشباب» الصومالي متصاعدة بشكل كبير في الأيام الأخيرة، ذلك أنه إن كان الهجوم على هذا المعسكر قد جرى الشهر الحالي، فإنه في يوليو (تموز) الماضي أيضاً تبنت الحركة عينها هجوماً انتحارياً أدى إلى مقتل 26 شخصاً، وإصابة العشرات في الصومال، وذلك بعد الانقضاض على فندق كيسمايو الشهير، مع عدد من المطاعم، مستهدفين اجتماعاً للنواب وشيوخ القبائل هناك، مما أسفر عن عشرات القتلى والمصابين.
ويعن لنا أن نتساءل بداية: هل ما نراه أمر جديد بالنسبة لهذا التنظيم الإرهابي، أم أن هناك ملامح ومعالم لدعم خفي جديد يتلقاه التنظيم، ولأهداف تخفى عن أعين المراقبين السياسيين والأمنيين، عطفاً على أجهزة العالم الاستخباراتية؟
لا يمكننا الحديث عن تلك الحركة دون التأصيل لها، بمعنى إظهار عمق علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي، ومموليها عبر العالم، وهي تتبع فكرياً تنظيم القاعدة، ويصل تعدادها إلى نحو 10 آلاف عضو، ويعتقد أن المنتمين إليها يتلقون تدريبات في بعض الدول الأفريقية المجاورة للصومال.
وتقوم الحركة بالتضييق على المواطنين، وممارسة السيادة الفقهية عليهم، عبر مفاهيمها الخاصة الضيقة المتزمتة للشريعة، فيما يتهمهم الرئيس الصومالي «شريف شيخ أحمد» بتشويه الإسلام ومضايقة النساء.
التأصيل والتجذير العميقين لحركة الشباب الصومالي يوضحان لنا أنها خرجت من رحم تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين، فقد كانت التسعينات هي الفترة المؤلمة التي تهاوت فيها أركان الدولة الصومالية، ونشأت جماعات إرهابية مختلفة الأسماء والتوجهات، بل والولاءات، وعرفت الشباب بداية باسم «الاتحاد الإسلامي». ونشطت «الشباب» في تنظيم معسكرات تدريب لإرهابييها في مدينة كيسمايو، ثم تشعبت بعد ذلك إلى مناطق أخرى في الداخل الصومالي، مثل غدو ورأس كامبوني، وتغذت الحركة على تسجيلات من أفغانستان، لا سيما تلك التي خلفها من وراءه عبد الله عزام، منظر المتطرفين العرب والأفغان الأشهر في ثمانينات القرن المنصرم، والمعلم الآيديولوجي الأول والأكبر لأسامة بن لادن.
عبر نحو عقدين من الزمن، اشتد عود «حركة الشباب» الصومالية، كما يمكن القطع بأن هناك أنظمة مجاورة للصومال استغلت حالة التفكك والتفسخ في الداخل الصومالي لاستخدام تلك الجماعة كخنجر في خاصرة الأعداء السياسيين، لا سيما بعد أن بلورت الحركة نفسها من فصيل سياسي ينتهج العنف المسلح إلى جماعة إرهابية ترتكب العنف بشكل عشوائي تنفيذاً لأجندات خارجية، مقابل الأموال حيناً، ولإثبات وجودها في أحيان أخرى.
ويصف مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تنظيم الشباب» في الصومال بأنه «نبتة خبيثة»، ويشير بيان صدر منذ بضعة أسابيع إلى أنه حين يتحد الجهل بالإرهاب «يفرز لنا نبتة خبيثة تكبر وتترعرع على أشلاء الضعفاء، وبدماء الأبرياء، وهذا هو حال (حركة الشباب) الصومالية التي تخرج علينا يوماً بعد يوم بفتاوى تكفيرية ليس لها أصل في الدين، ولا تتناسب مع سماحة الإسلام ووسطيته، وكان آخرها أن المشاركة في الانتخابات، سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو غيرها، هي من الكفر البواح الذي يستتاب منه المرء، وإلا فالقتل مصيره وعقابه».
بيان مرصد الأزهر يلفت، كما أشرنا في مقدمة هذه السطور، إلى أنه خلال الآونة الأخيرة صعدت الحركة من وتيرة العمليات الإرهابية في الصومال بسبب الانتخابات البرلمانية. كما طالبت جميع شيوخ العشائر الذين شاركوا في الانتخابات البرلمانية والمحلية بإعلان التوبة أمام الحركة، وأمهلتهم 45 يوماً.
من يقف وراء الحركة؟ ومن يقدم لها الدعم المالي واللوجيستي؟
لا يمكن أن يخرج الإرهاب بعيداً عن ثلاثي الشر، المتمثل في تركيا وإيران وقطر دفعة واحدة، وهو الأمر الذي لفتت إليه تسريبات ويكيليكس، حيث أشارت إلى أن واشنطن طلبت رسمياً من قطر وقف تمويل الحركة الإرهابية هذه.
وتظهر بعض الوثائق التي نشرها موقع التسريبات الشهير «ويكيليكس» أن الدوحة عملت جاهدة، وعبر إغراءات متنوعة، على استقطاب ما يعرف بـ«خلية عبد القادر مؤمن» التابعة لحركة الشباب الإرهابية الصومالية، التي أعلنت مؤخراً انفصالها عن الحركة، وبايعت تنظيم داعش، واستقرت في شمال الصومال، وأصبحت تتلقى التدريبات والتمويلات بشكل مباشر من المخابرات القطرية، تحت ستار مساعدات التنمية والإغاثة الإنسانية.
ما الذي تسعى قطر تحديداً وراءه في أفريقيا؟
من الواضح جداً أن الدوحة تسعى لبناء شبكة عنكبوتية إرهابية، تستخدم فيها دورها وعلاقاتها مع جماعات التطرف السياسي، لتجد لها موطئ قدم في وسط القارة السمراء. وبحسب محللين استخباريين، فإن الصومال تعد نقطة ارتكاز رئيسية بالنسبة لقطر تنطلق منها في شكل أفقي، وتمول أكثر من تنظيم أو جماعة إرهابية تعمل في مقديشو وخارجها عبر ضباط مخابرات قطريين، وتتجمع خيوطها لدى «تنظيم الحمدين»، ويجمعهما معاً ضمان التمويل والدعم القطري.
لم يكن ما نشرته «ويكيليكس» بعيداً عما أماطت اللثام عنه صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ذائعة الصيت مؤخراً، عن مضمون اتصال هاتفي بين السفير القطري في الصومال ورجل أعمال مقرب من أمير قطر، يقول فيه الأخير إن مسلحين نفذوا تفجيراً في مدينة بوساو (شمال شرقي الصومال) خدمة للمصالح القطرية عبر طرد منافستها الإمارات.
وجرى التفجير المشار إليه في الاتصال الهاتفي في شهر مايو (أيار) الماضي، واستهدف سيارة رئيس المحكمة العليا في المدينة، وأدى إلى إصابة 8 أشخاص بجروح. وفي الاتصال المسجل، الذي حصلت «نيويورك تايمز» على نسخة منه، وجرى في 18 مايو (أيار)، يقول رجل الأعمال خليفة قايد المهندي إن «التفجيرات والاغتيالات نحن نعرف من يقف وراءها»، ويضيف أن العنف «يهدف إلى دفع جماعة دبي إلى الهرب بعيداً».
بقية الحديث الصوتي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الدور القطري في داخل الصومال، فوفق «نيويورك تايمز»، فإن السفير القطري حسن بن حمزة هاشم لم يبدِ أي احتجاج أو انزعاج من فكرة تأدية القطريين دوراً في هذه التفجيرات، إذ يقول على الهاتف لرجل الأعمال القطري: «إذن لهذا السبب نفذوا الهجوم هناك، ليدفعوهم إلى الهرب»، فيؤكد له رجل الأعمال «أصدقاؤنا كانوا وراء التفجيرات الإرهابية».
اين تركيا من المشهد الصومالي المشتعل عبر إرهاب «حركة الشباب»؟
يكشف تقريراً دولياً صدر في السويد، وأشار إليه موقع «نورديك مونيتور»، أن الاستخبارات التركية مولت حركة الشباب الصومالية عبر عميل كان سجيناً سابقاً في غوانتانامو، أي من خلال أحد رجالات «القاعدة» سابقاً.
المثير أن تركيا التي لديها قاعدة عسكرية في الصومال، تتذرع بأنها وجدت لدعم الدولة الصومالية، يقوم أحد عملائها، ويدعى إبراهيم سين، البالغ من العمر نحو 37 سنه، بنقل 600 ألف دولار إلى حركة الشباب في سبتمبر (أيلول) وديسمبر (كانون الأول) عام 2012.
والشاهد أن وزارة الخزانة الأميركية، التي اكتشفت الأمر وأرسلت إلى إردوغان رسالة مباشرة لفتح تحقيق حول الدعم التركي للإرهاب هناك، لم تتلقَ أي رد من أنقرة، بل التصرف الوحيد الذي قام عليه إردوغان هو أنه أمر بوقف التحقيقات، وإغلاق القضية الخاصة بالمواطن سين الذي عمل لصالح المخابرات التركية في نقل المقاتلين من وإلى سوريا، بحسب ملف التحقيقات الذي رفعت عنه السرية في يناير (كانون الثاني) 2014. وكان سين قد تم اعتقاله في باكستان لصلته بتنظيم القاعدة، واحتجز في غوانتانامو حتى عام 2005.
ولا يكتمل مثلث الإرهاب في الصومال بعد قطر وتركيا من دون إيران، وقد أشارت تقارير استخباراتية متعددة، عطفاً على قراءات لمراكز دراسات موثوقة، إلى أن إيران تتغلغل في غرب ووسط أفريقيا، لنشر مبدأ التشيع من جهة، وللحصول على أهم سلعة يقوم عليها مشروعها النووي في الوقت الحاضر، أي اليورانيوم الموجود في الصومال، وبكميات كبيرة، لا سيما في منطقة تسمى جالمودغ.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن شرح ما تفعله إيران بدورها في الصومال، إنما المؤكد، وبحسب تقرير لفريق الرصد الدولي الخاص بالأمم المتحدة عن الصومال، أن طهران سعت - ولا تزال - للحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من الصومال، مقابل توريد أسلحة لمتطرفي «تنظيم الشباب».


مقالات ذات صلة

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».