إيطاليا... أمام مفترق طرق

دعوات إلى قطع الطريق أمام زعيم اليمين المتطرف ماتيو سالفيني للوصول إلى رئاسة الحكومة

إيطاليا... أمام مفترق طرق
TT

إيطاليا... أمام مفترق طرق

إيطاليا... أمام مفترق طرق

هل انتهت التجربة الشعبوية الأولى في الاتحاد الأوروبي، التي شهدت النور في المختبر السياسي الإيطالي، مطلع الصيف الماضي، بين حركة النجوم الخمس اليسارية الميول وحزب الرابطة اليميني المتطرف؟ أو أنها توطئة لمشهد سياسي جديد على أوروبا أن تعتاد عليه من الآن فصاعداً؟
التطورات التي تسارعت على الساحة السياسية الإيطالية في الأيام الماضية تنذر بأن الصبي الأوروبي المشاكس يقف على مفترق حاسم قد يتوقف عليه مصير المشروع الأوروبي بأكمله. زعيم حزب الرابطة ماتيو سالفيني يدق ناقوس الانتخابات المبكرة على صهوة استطلاعات الرأي التي منذ ثلاث سنوات تفرز صعوداً مضطرداً في شعبيته، ولا يتردد في الذهاب إلى ما لم يجرؤ عليه سياسي أوروبي منذ موسوليني، ويناشد مواطنيه الإقبال بكثافة على صناديق الاقتراع وتفويضه بـ«كامل الصلاحيات».
كيف وصلت إيطاليا إلى هذا الشفير السياسي الذي أصبح كابوساً يقضّ مضاجع الحريصين على المشروع الأوروبي الذي يعيش أكثر مراحله اضطراباً؟
في الرابع من مارس (آذار) 2018 ذهب الإيطاليون إلى صناديق الاقتراع بعد أربع سنوات من الحكم اليساري تعاقبت عليه ثلاث حكومات مختلفة من الحزب الديمقراطي نفسه، الذي كانت تياراته الداخلية تواصل التناحر التقليدي بينها، وتفتح شهية الأحزاب اليمينية للانقضاض مجدداً على السلطة، في ظل استياء شعبي واسع، ونقمة عارمة من تداعيات الأزمة المالية وركود الوضع الاقتصادي وتفاقم أزمة المهاجرين غير الشرعيين الذين كانوا يتدفقون بعشرات الآلاف على السواحل الإيطالية القريبة من أفريقيا.
يومها فشل اليسار مرة أخرى في توحيد صفوفه أمام الانتخابات، في الوقت الذي كان حزب رابطة الشمال اليمينية المتطرفة قد تخلى عن مطالبه الانفصالية مع زعيمه الجديد ماتيو سالفيني الذي حصر كامل نشاطه السياسي وحملته الانتخابية في وعود بوقف تدفق موجات المهاجرين، وبينما كانت حركة النجوم الخمس قد بدأت تستنزف القاعدة الشعبية للأحزاب التقدمية رافعة شعارات محاربة الفساد المستشري وتطهير أجهزة الحكم من الأدران التي تراكمت عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
خسر الحزب الديمقراطي نصف شعبيته في تلك الانتخابات لصالح النجوم الخمس التي أصبحت القوة البرلمانية الأولى، فيما ارتفعت شعبية حزب الرابطة إلى 17 في المائة بعد أن كانت لا تتجاوز 9 في المائة في نهاية عام 2017. لم يكن أمام القوى السياسية الممثلة في البرلمان بعد انتخابات العام الماضي سبيل لتشكيل أغلبية حاكمة سوى خيارَين لا ثالث لهما، هما حكومة تكنوقراطية كانت الخيار المفضل عند رئيس الجمهورية سرجيو ماتاريلا، وعند المؤسسات الأوروبية، لاجتياز مرحلة المطبات المالية التي كانت تتخبط فيها إيطاليا، ولا تزال، بعد أزمة عام 2008 والركود المتواصل في نموها الاقتصادي.
وضعت رئاسة الجمهورية كامل ثقلها يومذاك لتشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الديمقراطي وحركة النجوم الخمس، وساعدتها في ذلك بعض العواصم الأوروبية التي كانت تخشى وصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم، لكن الديمقراطيين أبوا السير في ذلك الاتجاه، خشية أن تكون فيه بداية انهيارهم النهائي أمام الحركة.
هنا وجد سالفيني فرصته الذهبية للوصول إلى مركز القرار الرئيسي، هو الذي كان ينادي بانفصال المقاطعات الشمالية عن إيطاليا، ودخل في مفاوضات مكثفة لتشكيل ائتلاف حكومي مع حركة النجوم الخمس التي أبدت تجاوباً، مخافة أن يلجأ رئيس الجمهورية إلى تكليف شخصية محايدة تشكيل حكومة تكنوقراطية.
طالت مفاوضات تشكيل الائتلاف الحاكم بين الحزبين النقيضين اللذين يجمعان الأكثرية في البرلمان، وتعثرت في مراحل عدة. لكن سالفيني كان يعرف أنها فرصة قد لا تتكرر في المشهد السياسي الإيطالي المعروف بزئبقيته وتحولاته السريعة، ووضع نصب عينيه عدداً محدوداً من الأهداف، أولها حقيبة الداخلية، وعرض على النجوم الخمس إبرام عقد تقوم على أساسه حكومة تختار الحركة رئيسها وتتولى الحقائب الأساسية الأخرى فيها... وولدت هكذا حكومة هجينة لا يجمع بين طرفيها سوى شهوة السلطة التي لم يسبق لأي منهما أن مارسها.
منذ اليوم الأول الذي تسلمت فيه الحكومة الائتلافية مهامها، مطلع الصيف الماضي، تبدى بوضوح جلي أن سالفيني هو نجمها بلا منازع، رغم أن لحزبه نصف المقاعد البرلمانية التي للحركة، وأن زمام المبادرة لا يفلت أبداً من يده. وقد حول وزارة الداخلية إلى منصة إعلامية تروج لتصريحاته وأنشطته وتحركاته، بما فيها الشخصية، ورفع لواء حرب شاملة على المهاجرين والمنظمات الإنسانية التي تساعدهم، كانت تتخللها هدنة قصيرة من حين لآخر يخصصها لتوجيه سهام سامة إلى المؤسسات الأوروبية وشركاء إيطاليا في الاتحاد، وصلت إلى حد استدعاء باريس سفيرها في روما للمرة الأولى منذ عهد موسوليني.
ولم يكن وارداً في حسابات سالفيني أن يتراجع عن مواقفه وإجراءاته التي أثارت انتقادات شديدة في الاتحاد الأوروبي لتعارضها مع الاتفاقات المعقودة وانتهاكها أحكام المعاهدات الدولية، لأنه بقدر ما كان يتمادى في هجومه ويتشدد في مواقفه، كانت شعبيته ترتفع، إلى أن بات من المرجح أن يحصد وحده الأغلبية المطلقة في البرلمان إذا دُعي الإيطاليون غداً إلى صناديق الاقتراع. في غضون ذلك كانت شعبية حركة النجوم الخمس تتراجع باطراد عند كل موعد انتخابي محلي أو أوروبي، مما جعلها رهينة استراتيجية سالفيني الذي كان يلوح باستمرار إلى الانتخابات المسبقة التي تخشاها الحركة، لكن بالتأكيد على أنه لا يريدها، وأن ما يهمه هو تنفيذ برنامج الحكومة والبنود العزيزة على قلبه وعلى رأسها قانون الهجرة والإجراءات الأمنية.
منذ مطلع هذا العام، لم تهدأ الطبول التي تعلن سقوط الحكومة بين لحظة وأخرى بسبب من الخلافات المتراكمة بين طرفي الائتلاف والانتقادات المباشرة التي يتبادلها زعيما النجوم الخمس والرابطة. لكن شهوة السلطة والخوف من المفاجآت التي تحفل بها السياسة الإيطالية عند تشكيل التحالفات، دفعا بالطرفين أكثر من مرة إلى وأد خلافات عميقة، والإبقاء على الحكومة فيما يشبه غرفة العناية الفائقة.
لكن ساعة الصفر كان لا بد أن تأتي لتضع حداً لهذه التجربة السياسية غير المسبوقة في التاريخ الإيطالي، والفريدة من نوعها في الاتحاد الأوروبي، لتشكيل حكومة بين جسمين سياسيين متناقضين في كل شيء تقريباً: حزب يميني متطرف، سيادي وعنصري، نزع عنه القناع الانفصالي الذي كان سبب تأسيسه، وآخر شعبوي مناهض للنظام القائم وحريص على البيئة. وقد أزفت الساعة يوم الجمعة من الأسبوع الماضي، عندما تقدم سالفيني، الذي يلقبه أنصاره بالقبطان، بطلب لسحب الثقة من رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي، الذي يشغل هو منصب نائبه إلى جانب حقيبة الداخلية، منهياً بذلك تجربة الحكم التي لم تدم سوى أربعة عشر شهراً.
انهيار الائتلاف الحاكم أعاد تفعيل المختبر السياسي الإيطالي لاحتواء الأزمة التي كانت قد تحولت منذ أشهر إلى وقائع طلاق معلن، والتركيز في المرحلة الأولى على خيار من اثنين: تشكيل أغلبية برلمانية جديدة تسمح لكونتي الاستمرار حتى نهاية الولاية التشريعية، أو الذهاب إلى الانتخابات المبكرة التي يطالب بها زعيم اليمنين المتطرف سالفيني. وليس في ذلك أي مفاجأة في بلد سبق أن غير 6 حكومات خلال ولاية تشريعية واحدة، وتعاقبت عليه 71 حكومة، منذ عام 1943.
يدرك سالفيني أنه إذا كانت الحكومة الائتلافية قد شكلت فرصته الذهبية للوصول إلى الحكم والانطلاق من منصته لحشد هذه الشعبية الواسعة التي تأكدت في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فإن الانتخابات المقبلة قد تكرسه زعيماً بلا منازع على القوة الاقتصادية الثالثة في الاتحاد الأوروبي، والوحيدة التي تغازل واشنطن وموسكو في كل ما يتعلق بالأجندة اليمينية المتطرفة.
ويعرف زعيم الرابطة أن كلمته ستكون مسموعة عندئذ في المؤسسات الأوروبية التي لم تبخل عليه بالانتقاد والتحذير بقدر ما تعمدت تجاهله عند توزيع مناصب القيادة والمسؤولية العليا مؤخراً.
لكن نظيره، وشريكه في الائتلاف الحاكم حتى الآن، زعيم حركة النجوم الخمس لويجي دي مايو (أيار)، يشهد تراجعاً مستمراً في شعبيته منذ تشكيل الائتلاف الحاكم، لا يُقاس إلا بارتفاع شعبية سالفيني الذي هيمن بشخصيته وأسلوبه على الحكومة منذ اليوم الأول.
وإذا كانت زعامة دي مايو للحركة قد اهتزت بقوة بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي خسرت فيها النجوم الخمس نصف شعبيتها تقريباً، فإنها قد تصبح في حكم المنتهية إذا تقرر إجراء انتخابات مبكرة بات من المؤكد أن الحركة تحتاج لزعامة جديدة لخوضها.
بعد ساعات من تقديمه طلب سحب الثقة من رئيس الحكومة دعا سالفيني إلى مناقشته والتصويت عليه، قبل منتصف الشهر الحالي، لكن الكتل البرلمانية رفضت طلب سالفيني وقررت عقد جلسة طرح الثقة يوم الثلاثاء المقبل في مجلس الشيوخ، مما يؤشر على أن المساعي للبحث عن أغلبية برلمانية جديدة تقطع على سالفيني طريق الانتخابات المبكرة قد بدأت في كواليس السياسة الإيطالية السحيقة.
الخيار الوحيد المتاح لتشكيل أغلبية برلمانية جديدة يمر عبر التحالف بين حركة النجوم الخمس والحزب الديمقراطي، لكن هذا التحالف دونه عقبات كثيرة لا يتسع الوقت للمفاوضات التي قد تؤدي إلى تذليلها. في غضون ذلك، وبينما تضرب الكتل البرلمانية أخماسها بأسداسها، دعا سالفيني نواب حزبه إلى روما والبقاء فيها بحالة جهوزية تامة، فيما يواصل هو الضغط لإجراء الانتخابات في أقرب فرصة، ويجول على الشواطئ الإيطالية في حملة انتخابية اختار أن يركز فيها على المناطق التي تشكل معاقل حركة النجوم الخمس، وتراجعت فيها شعبيتها لصالح حزب الرابطة.
لكن ارتفاع شعبية سالفيني في الأشهر الأخيرة تزامن أيضاً مع تنامي ظاهرة جديدة غير مألوفة في المشهد السياسي الإيطالي، وهي الرفض المتزايد لسياسته حيث صارت المظاهرات المرحبة بتحركاته والمؤيدة لمواقفه تتواجه، وأحياناً تتصادم، مع مظاهرات ضده تصفه بالعنصري، وتعيب عليه دفاعه عن الشركات الكبرى، والطبقة الميسورة.
رئيس الحكومة جيوزيبي كونتي من جهته لم يبادر إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية كما كان متوقعاً، وكما كان يتمنى سالفيني، بل شن هجوماً قاسياً على زعيم الرابطة واتهمه بأنه المسؤول الوحيد عن الأزمة التي «افتعلها من باب الأنانية وسعياً لتحقيق مآرب شخصية بعيدة كل البعد عن المصلحة العامة»، وأضاف رداً على مطالبة زعيم الرابطة بمناقشة طلب سحب الثقة فوراً في البرلمان: «ليس سالفيني مَن يحدد مواقيت المناقشات في البرلمان... كفى غطرسة!».
المواجهة الأخيرة بين الرابطة والنجوم الخمس كانت حول استئناف العمل بمشروع شق نفق عريض للمواصلات السريعة بين إيطاليا وفرنسا جمدت الحركة تنفيذه لأسباب بيئية وتصر الرابطة على إكماله. وكانت الحركة قد تقدمت باقتراح في مجلس الشيوخ لوقف العمل نهائياً بالمشروع، لكن الرابطة قررت التخلي عن حليفتها، وصوتت إلى جانب الأحزاب الأخرى التي يؤيد معظمها مواصلة تنفيذه. وقد جاءت خطوة سالفيني بتفجير الأزمة الحكومية بعد 48 ساعة من الموافقة النهائية في مجلس الشيوخ على قانون مكافحة الهجرة المثير للجدل، الذي كان لا بد لإقراره من أصوات النجوم الخمس.
رئيس الجمهورية من ناحيته هو الوحيد المخول بموجب الدستور حل البرلمان والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، يميل إلى إبقاء الحكومة في مهامها حتى الخريف المقبل لإنجاز قانون الموازنة العامة الذي يفترض أن تقدم نسخته الأولى إلى المفوضية الأوروبية، قبل نهاية الشهر المقبل، وكان موضع خلاف عميق وتجاذبات بين روما بروكسل، بسبب مستوى العجز العام الذي يتجاوز المعدلات القصوى المحددة في الضوابط المالية الأوروبية، الذي يشكل استمراره في إيطاليا للعام الخامس على التوالي خطراً على القطاع المصرفي، ويهدد الاستقرار المالي في منطقة اليورو بكاملها.
وتنصب جهود رئاسة الجمهورية في الوقت الراهن على تأمين أغلبية برلمانية مختلفة تمكن كونتي من الاستمرار في موقعه لفترة كافية تسمح بتجاوز استحقاق الموازنة، وتنفيس الاحتقان السياسي الذي يناسب أسلوب سالفيني، وترتفع فيه شعبيته.
ومنذ أن أطلق سالفيني رصاصة الرحمة على الحكومة مطالباً بإجراء انتخابات مبكرة، ظهرت مجموعة مـؤشرات توحي بأن ثمة «جبهة جمهورية» تتشكل بين الحزب الديمقراطي والنجوم الخمس لصد هجوم زعيم الرابطة عبر تحالف برلماني أبدت عدة أحزاب صغيرة استعدادها أيضاً للانضمام إليه. وكان الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي، والرئيس الأسبق للحكومة، ماتيو رنزي الذي يتزعم تياراً واسعاً داخل الحزب كان يستعد للانشقاق عنه وتأسيس حزب بيئي جديد، قد سارع فور مبادرة سالفيني إلى دعوة حزبه للتحالف مع حركة النجوم الخمس لتشكيل حكومة جديدة والحيلولة دون العودة مجدداً إلى صناديق الاقتراع.
أما زعيم الرابطة الواثق من أن لا مفر من الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، فقد باشر البحث مع الحلفاء المحتملين في الأوساط اليمينية، تحسباً لعدم حصوله على الأغلبية الكافية التي تسمح له بتشكيل الحكومة منفرداً في حال تجاوزه حاجز الأربعين في المائة. وكان اتصاله الأول مع زعيم «فورزا إيطاليا» سيلفيو برلسكوني الذي يحكم بالتحالف معه عدداً من الأقاليم والمجالس البلدية بعد أن خاض كلاهما الانتخابات العامة الماضية على لائحة واحدة. لكن برلسكوني رفض اقتراح سالفيني خوض الانتخابات المقبلة ضمن لائحة الرابطة، وقال: «ما زلنا نطالب بتشكيل تحالف عريض يجمع أحزاب الوسط واليمين، لكننا لسنا على استعداد للتخلي عن تاريخنا وشعارنا، ولا عن لوائحنا الخاصة في الانتخابات المقبلة».
وفيما تمارس جهات عدة، إيطالية وأوروبية، ضغوطاً متزايدة على الحزب الديمقراطي للتحالف مع النجوم الخمس وقطع طريق الانتخابات أمام زعيم الرابطة، دعا ماتيو رنزي «جميع الأحزاب والقوى اليسارية والتقدمية إلى بذل قصارى جهدها لمنع وصول سالفيني إلى رئاسة الحكومة، مهما كلف الأمر». وقال رنزي إنه الذي تعرض أكثر من أي شخص آخر لانتقادات حركة النجوم الخمس «لكن لا مجال هنا للمشاعر الشخصية، وعلينا جميعاً أن ننقذ إيطاليا».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.