شاشة الناقد: تأتون من بعيد

شاشة الناقد: تأتون من بعيد
TT

شاشة الناقد: تأتون من بعيد

شاشة الناقد: تأتون من بعيد

تأتون من بعيد
• إخراج: أمل رمسيس
• تقييم: (ممتاز)
عربي في الحرب الإسبانية
إذا لم يكن اسم نجاتي صدقي معروفاً على أي صعيد فإن هذا الأمر له مسبباته التي حالت دون ذلك ومنها أنه لم يكن سوى شاب فلسطيني عادي انتمى للحزب الشيوعي في فلسطين في النكبة ثم ترك وطنه في منتصف الثلاثينات ليلتحق بالثورة الإسبانية ويخوض الحرب الأهلية التي نشبت هناك بين الوطنيين ذوي المنهج المحافظ المنتمين إلى عهد الملك فرنكو ونظامه وبين الجمهوريين الذين شملت مفارزهم على يساريين وشيوعيين ومنضمين جاءوا من بلاد أخرى (الولايات المتحدة وبريطانيا مثلاً).
انضم نجاتي للثوار عملاً بمبادئه اليسارية (وكان استقال من الحزب الشيوعي آنذاك) وحارب مع لفيف من العرب الذين قاموا كذلك بالانضمام إلى تلك الحركة المناهضة. المصادر التي استندت إليها المخرجة المصرية أمل رمسيس تقدرهم بنحو 1000 عربي، وبحثها هذا لم ينطلق من تقديرات عامّة وسريعة بل استغرق، حسب ما تؤكده، أكثر من عشر سنوات مضنية ساعية لتكوين عناصر فيلمها التسجيلي هذا على نحو يمكنها من تحقيقه.
خلال بحثها هذا عن حياة نجاتي صدقي تبين لها أنه خلف وراءه ابنتين واحدة اسمها هند وتعيش (منذ عدة سنوات) في اليونان والأخرى اسمها دولت وتعيش في موسكو. كلاهما لا يعرفان بعضهما البعض كونهما افترقا وهما فتاتان صغيرتان. لا هند تعرف الروسية (وإن كانت لا تزال تجيد العربية) ولا دولت تعرف اليونانية (ولا العربية).
تقوم أمل رمسيس بتناولهما كشخصيتين رئيسيتين في هذا الفيلم البديع. تكشف عن حقائق مؤثرة بمجرد التفكير في هذا الوضع القائم. تتحدث كل منهما عن الأخرى كما لو كانت سراباً وبالتأكيد كنسيم من الذكريات البائدة. هذا قبل أن تقوم المخرجة بجمعهما معاً للمرة الأولى منذ عقود طويلة مانحة الفيلم بصمة إنسانية مثيرة للتقدير.
تتناول المخرجة موضوعها بأسلوب هادئ. أحياناً أكثر بقليل مما يتمنى المرء خصوصاً بعد مرور نحو ثلث ساعة من بدايته. لكن التأثير الذي تتركه، سياسياً واجتماعياً وتاريخياً على المستويين الشخصي والعام يبقى واضحاً ومنهجها في البحث سليم حين تترجمه إلى لقطات من صور حية أو وثائق.
ويترك الفيلم بصمة أخرى عندما يربط، بذكاء، بين ما حدث لفلسطين سنة 1947 وبين تجاهل الغرب للحق العربي فيها أيام النكبة وما بعد.
محور هذا الربط هو ذلك نجاتي صدقي الذي وصف ما يقوم به في كتاباته إذ قال: «أنا متطوع عربي. أتيت إلى إسبانيا لكي أدافع عن القاهرة في برشلونة وعن دمشق في توليدو وعن بغداد في مدريد». كلمات قوية ونادرة في ذلك الحين يعود فضل اكتشافها إلى هذا الفيلم ومخرجته.



أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
TT

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)
أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

بعد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك. «لا يهم»، تقول: «على الأفلام التي تعني لنا شيئاً أن تشقّ طريقاً للعروض ولو على مدى سنة أو أكثر».

فيلمها الأخير «حدود خضراء» نال 24 جائزة صغيرة وكبيرة واجتاز حدود نحو 30 دولة حول العالم. ترك تأثيراً قوياً منذ افتتاحه في المهرجان الإيطالي، حيث نال جائزةَ لجنة التحكيم الخاصة وفوقها 8 جوائز فرعية.

مردّ ذلك التأثير يعود إلى أن الفيلم (بالأبيض والأسود) تحدّث عن مهاجرين سوريين (ومهاجرة من أفغانستان) علِقوا على الحدود بين بروسيا وبولندا، وكلّ حرس حدود كان يسلبهم شيئاً ومن ثمّ يعيدهم إلى حيث أتوا. الحالة لفتت نظر جمعية بولندية أرادت مساعدة هؤلاء الذين تناقص عددهم بعدما اختفى بعضهم وسُجن آخرون. الدراما كما قدّمتها هولاند (75 سنة حالياً) نابعة من مواقف ونماذج حقيقية وأحداثٍ وقعت عالجتها المخرجة بأسلوب تقريري غير محايد.

نقطة حياة: «حدود خضراء» (مترو فيلمز)

لحظات إنسانية

> حال مشاهدتي لفيلم «حدود خضراء» في «مهرجان ڤينيسيا» خطر لي أنه يلتقي مع أفلام سابقة لكِ تناولت قضايا مهمّة وحادّة مثل «يوروبا، يوروبا» و«الحديقة السّرية» و«أثر» (Spoor) الذي عُرض في «برلين». كيف تُصنّفين أفلامك؟ وكيف تختارين قضاياها؟

- أفلامي السابقة تنوّعت كثيراً في موضوعاتها باستثناء أنني قصدت دوماً تناول ما اعتقدت أنه أجدى للمعالجة. والأفلام التي ذكرتها هي بالنسبة لي من بين أهم ما أخرجته. اخترتها لجانبها الإنساني أو، أُصحّح، لقضاياها الإنسانية. اخترتها لأن الأحداث وقعت في لحظات تاريخية ليست فقط مهمّة، بل هي لحظاتٌ بدت فيها الإنسانية بمنحدرٍ. هناك كثيرٌ ممّا يحدث في هذا العالم، وما حدث سابقاً يشكّل صدمة لي ولملايين الناس والفيلم هو صلتي مع هذه الأحداث. رأيي فيها.

«حدود خضراء» الفرار صوب المجهول (مترو فيلمز)

> «حدودٌ خضراء» هو واحد من أفلام أوروبية تناولت موضوع المهاجرين، لكن القليل منها انتقد السّلطات على النحو الذي ورد في فيلمك.

- أنا لست في وارد تجميل الأحداث. ولا أريد الكذب على المشاهد وأقول له إن ما تعرّض له مهاجرون مساكين على الحدود التي لجأوا إليها بحثاً عن الأمان غير صحيح، أو أنه حدث في شكل محصور. ومهنتي هذه استخدمها لقول الحقيقة، ولأفيد المشاهد بما أصوّره ولا يمكنني الكذّب عليه أو خداعه. ما شاهدته أنتَ على الشّاشة حصل وربما لا يزال يحصل في دول أوروبية أخرى.

نحو المجهول

> كيف كان رد فعل الجمهور البولندي حيال فيلمك؟

- إنها تجربة مهمّة جداً بالنسبة لي. سابقاً كان هناك حذرٌ من قبول ما أقدّمه لهم من حكايات. كثيرون قالوا إن هذا لا يمكن أن يحدث. نحن في أوروبا والعالم تغيّر عمّا كان عليه. والآن، مع هذا الفيلم، وجدتُ أن غالبية النّقاد وقراء «السوشيال ميديا» يوافقون على أن هذا يحدث. هناك من يأسف وهناك من يستنكر.

> نقدُك لحرس الحدود البولندي والبروسي في هذا الفيلم يؤكّد أن المعاملة العنصرية لا تزال حاضرة وربما نشطة. اليمين في أوروبا يجد أن طرد اللاجئين الشرعيين أو غير الشرعيين بات أولوية. صحيح؟

- نعم صحيح، لكن الاكتفاء بالقول إنه موقف عنصريّ ليس دقيقاً. نعم العنصرية موجودة ولطالما كانت، وعانت منها شعوب كثيرة في كل مكان، ولكن العنصرية هنا هي نتاج رفض بعضهم لقاء غريبٍ على أرض واحدة، هذا رفض للإنسانية التي تجمعنا. للأسف معظمنا لا يستطيع أن يمدّ يده إلى الآخر في معاملة متساوية. الحروب تقع وتزيد من انفصال البشر عن بعضهم بعضاً. ثم لديك هذا العالم الذي يسير بخطوات سريعة نحو المجهول في كل مجالاته.

> هل تقصدين بذلك التقدم العلمي؟

- بالتأكيد، لكني لست واثقة من أنه تقدّمَ حقاً. الذكاء الاصطناعي؟ هذا وحده قد يذهب بما بقي من ضوابط أخلاقية ومجتمعية. أعتقد أن التأثير الأول لذلك أننا نعيش في زمن نعجِز عن فهم تغيّراته، والنتيجة أننا بتنا نهرب إلى حيث نعتقده ملجأً آمناً لنا. نهرب من التّحديات ونصبح أكثر تقوقعاً معتقدين أن ذلك خير وسيلة للدفاع عن مجتمعاتنا.

ضحايا

> عمَدتِ في «حدود خضراء» إلى تقسيم الفيلم إلى فصول. هذا ليس جديداً لكنه يطرح هنا وضعاً مختلفاً لأننا ننتقل من وضع ماثلٍ ومن ثَمّ نعود إليه لنجده ما زال على حاله. ما الذي حاولتِ تحقيقه من خلال ذلك؟

- هذه ملاحظة مهمّة. في الواقع هناك قصصٌ عدة في هذا الفيلم، وكل شخصية تقريباً هي قصّة قابلة للتطوّر أو التوقف. وهناك 3 فرقاء هم الضحايا والمسعفون ورجال السُّلطة. بعضُ هذا الأسلوب المطروح في الفيلم مشتقٌ من العمل الذي مارسته للتلفزيون وهو يختلف عن أسلوب السّرد السينمائي، وقد اعتمدت عليه هنا لأنني وجدته مناسباً لفيلمٍ يريد تقديم الأحداث في شكلٍ ليس بعيداً عن التقريرية.

> هناك أيضاً حربٌ أوروبية دائرة على حدود بولندا في أوكرانيا. هل يختلف الوضع فيما لو كان أبطال فيلمك أوكرانيين هاربين؟

- نعم. يختلف لأنّ الرموز السياسية للوضع مختلفة. البولنديون يشعرون بالعاطفة حيال الأوكرانيين. السلطات لديها أوامر بحسن المعاملة. لكن هذا لم يكن متوفراً وليس متوفراً الآن للاجئين غير أوروبيين.