يوسا يعود لاستلهام تاريخ أميركا الوسطى... وشخصيات حقيقية تشتبك مع أخرى متخيّلة

ناشره يعلن عن صدور رواية جديدة له في أكتوبر المقبل

ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا
TT

يوسا يعود لاستلهام تاريخ أميركا الوسطى... وشخصيات حقيقية تشتبك مع أخرى متخيّلة

ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا

في العام الأخير من القرن الماضي صدرت إحدى أجمل روايات ماريو فارغاس يوسا «عيدُ التيس» التي تدور وقائعها في الجمهورية الدومينيكية حول اغتيال الديكتاتور الشهير رافاييل تروخيّو والأحداث التي تلته؛ من زاويتين متباعدتين في الزمن: الأولى خلال التخطيط لعملية الاغتيال والتطورات التي أعقبتها في عام 1961، والثانية بعدها بخمسة وثلاثين عاماً. ويعرض يوسا في تلك الرواية تأملاته حول صعود الأنظمة الديكتاتورية والعصر الذهبي الذي عرفته في أميركا اللاتينية إبّان خمسينات وستينات القرن الماضي.
في 8 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل تصدر في إسبانيا وأميركا اللاتينية آخر روايات يوسا عن دار «آلفاغوارا» بعنوان «أزمنة صعبة» Tiempos recios، وفيها يعود إلى تناول موضوع الاستبداد السياسي الذي يشكّل أحد الأعمدة الفقرية في معظم رواياته. فالتاريخ السياسي ما زال من الاهتمامات الرئيسية التي تشغل الكاتب البيرواني الذي، قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب، ترشّح لمنصب رئيس الجمهورية في بلاده التي غادرها بعد ذلك ليستقرّ نهائياً في إسبانيا التي منحته جنسيتها الفخرية، وحيث لا يزال ينشط سياسياً عبر محاضرات ومقال أسبوعي حول الأوضاع الأوروبية والدولية.
يستعرض يوسا في روايته الجديدة تاريخ رئيس جمهورية غواتيمالا؛ خاكوبو آربينز الذي يقول عنه إنه «سعى إلى إجراء إصلاحات كان الجميع يعدّها حيوية في ذلك الوقت، لكنه أزيح بانقلاب عسكري قاده كارلوس كاستيو آرماس الذي بدوره راح ضحية عملية اغتيال غامضة لم يعرف شيء عن تفاصيلها ومنفذيها، ويرجّح اليوم أن ديكتاتور الجمهورية الدومينيكية تروخيّو كان وراءها».
عن ولادة فكرة الرواية؛ يقول فارغاس يوسا إنه كان يتناول طعام العشاء منذ عامين ونصف العام في العاصمة الدومينيكية سانتو دومينغو مع بعض الأصدقاء «...وفيما كنت أستعدّ لمغادرة المطعم اقترب مني شخص وقال: عندي قصة أريدك أن تسمعها لتكتبها. كان ذلك الرجل يجهل أني لا أتناول في كتاباتي مطلقاً ما يُطلب مني أن اتناوله، لكنه أصرّ على سرد تلك القصة التي استحوذت على اهتمامي، ثم أمضيت العامين الماضيين منكبّاً من دون انقطاع على كتابتها».
وخلال كشفه عن صدور الرواية الجديدة قريباً، قال يوسا إنه استقى عنوانها من «كتاب الحياة» للقديسة تيريزا، التي ولدت وعاشت في مدينة آفيلا الإسبانية، ووضعت مجموعات من الأشعار والخواطر الصوفية، حيث جاء فيه: «في الأزمنة الصعبة لا بد من أصدقاء أقوياء بالله لشدّ أزر الضعفاء».
وفي بيان صدر عن الدار الناشرة؛ أن الرواية تتشابك فيها شخصيات حقيقية مع أخرى متخيَّلة، وهي من السمات التي تتكرّر عادة في روايات يوسا، ويُنتظر أن تولّد نقاشاً واسعاً حول لعبة السلطة وعلاقات الهيمنة والتبعيّة بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية، وهو موضوع يكتسي أهمية خاصة في الظروف الراهنة.
والمعروف أن يوسا اعتاد في كثير من رواياته الانطلاق من حادثة حقيقية أو واقعة تاريخية يسردها في إطار أوسع من الأحداث والوقائع المتخيلة. ويقول عن روايته الجديدة: «ثمّة إطار حقيقي تدور فيه الأحداث التي تنطلق منها الرواية، وتتعاقب عليها بعد ذلك مجموعة من الشخصيات التي حاولت أن تسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية في أميركا الوسطى خلال خمسينات وستينات القرن الماضي. وهي شخصيات تصدر عنها تصرفات من ثمرة خيال الكاتب الذي يحرص دائماً على عدم ابتداع أي شيء كان من المستبعد أن يحصل في ذلك السياق... هذا ما فعلته في (عيد التيس) وفي (حرب نهاية العالم)، والآن في (أزمنة صعبة)».
تُعيد بداية «أزمنة صعبة» إلى أواخر القرن الماضي عندما رفعت الإدارة الأميركية صفة «السريّة» عن بعض وثائق وكالة الاستخبارات المركزية CIA التي كشفت عن أن الولايات المتحدة كانت وراء تدبير الانقلاب العسكري الذي أطاح رئيس غواتيمالا خاكوبو آربينز في عام 1954 بعد أن وصل إلى السلطة إثر انتخابات ديمقراطية وعد فيها بتنفيذ برنامج إصلاحي واسع وتحقيق العدالة الاجتماعية في واحد من أفقر بلدان أميركا اللاتينية. وقد تزامن وصوله إلى الحكم مع بداية الحرب الباردة التي كانت تدور حولها السياسة الخارجية الأميركية. وتكشف الوثائق عن أن حكومة الرئيس آيزنهاور يومذاك أمرت بترويج حملة إشاعات تتهم رئيس غواتيمالا بالتواطؤ مع الشيوعيين والسوفيات، تمهيداً لإطاحته في انقلاب مولّته «شركة الفاكهة المتحدة» الأميركية التي كانت تزرع مساحات شاسعة بالموز في غواتيمالا وتخشى أن ينفّذ آربينز وعوده بإجراء الإصلاحات الزراعية.
يقول فارغاس يوسا: «...لم يعرف أحد ما الذي كان يحصل في ذلك الوقت، وسرت إشاعات تشوّه الحقائق وتوحي بأن غواتيمالا أوشكت أن تصبح قاعدة سوفياتية، رغم أنه لم يكن يوجد فيها روسي واحد على عهد آربينز. نجحت الجهات المتآمرة في فبركة واقع سياسي لا وجود له، وتحوّلت ماكينة تشويه الحقائق إلى سلاح سياسي لم يكن أحد يحلم بوجوده آنذاك».



معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
TT

معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)

ما إنْ تدخُل معرض «المجهول» للفنان التشكيلي المصري أحمد مناويشي، حتى تستوقفك وجوه لوحاته، بريشة حرّة تستكشف ملامحَ وأحداثاً غامضة. أعماله تبحث عن مشاعر عميقة وعلامات استفهام تحضّك على التحليل وفكّ الألغاز.

ينقسم معرض مناويشي في غاليري «آرت ديستريكت» بمنطقة الجميزة البيروتية إلى قسمين، من بينها ما يروي حكايات أشخاص اختبأت مشاعرهم تحت الأقنعة الواقية من جائحة «كورونا»، وأخرى رسمها حديثاً لمَن عاشوا الحرب الأخيرة في لبنان.

مع هذا المعرض، يستعيد غاليري «آرت ديستريكت» عافيته. فالحرب منعته قسرياً من إقامة نشاطات ثقافية. ومن خلال «المجهول»، يعلن صاحبه المصوّر الشهير ماهر عطّار انطلاق الموسم الفنّي في الغاليري.

الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)

في الجزء الأول من مجموعة أحمد منشاوي، تصطفُّ سلسلة لوحات صغيرة، تصوِّر جميعها وجوهاً يعتريها القلق. فالفنان المصري لفتته ملامح الإنسانية في زمن «كورونا». كان يرى الإنسان يمشي مرتدياً القناع خوفاً من الإصابة بالعدوى. وهو ما حضَّه، خلال إقامته في بروكسل، على تخيّل ملامحه الأصلية. وفي 30 لوحة يئنُّ أصحابها تحت وطأة أحاسيسهم، يُترجم أفكاره. مجموعة من النساء والرجال تصرخ بصمت، فتُخرج غضبها وقلقها وحزنها عابسةً في معظم الوقت.

تقنيته المرتكزة على الأكليريك تتدخَّل فيها أحياناً أنامل الفنان بعيداً عن ريشته (الشرق الأوسط)

يوضح مناويشي لـ«الشرق الأوسط»: «بدأتِ التجربة عندما كنتُ في بروكسل عام 2021. كانت مفاعيل الجائحة لا تزال تسيطر على حياتنا. جميعنا اعتقدنا بأنّ هذه الحقبة أبدية، كأنَّ سوادها لا حدود له. فرحتُ أتخيّل الناس الذين أراهم كأنهم خلعوا أقنعة الوقاية ورسموها. جميعهم كانوا مجهولين بالنسبة إليّ، ولا تربطني بهم أي علاقة. عندما عدتُ إلى لبنان، انتابتني الأحاسيس عينها. كانت الحرب محتدمة، وكان الناس قلقين، لا يعرفون مصيرهم. فرأيتُ بوضوح المجهول الذين يتخبَّطون فيه. حالة الترقب هذه حرّضت ريشتي على التحرُّك من جديد. ومن خلال تلك الحالتين، تناولتُ موضوع (المجهول)، إنْ من ناحية المشاعر أو المصير».

الإحساس بالتأرجُح في طريق لا رؤية واضحة لنهايتها، يُترجمه أحمد مناويشي. ويعترف من خلال ريشته بأنّ الانتظار مخيف، فكيف إذا كانت الأجواء التي يعيشها الناس غامضة؟

تحمل وجوه لوحات مناويشي أسئلة مختلفة تتعلّق بقلق المصير (الشرق الأوسط)

في واحدة من لوحاته، يشير إلى شخصيات مجموعة «أنونيموس» العاملة في مجال «النضال» عبر الاختراق البرمجي. راجت أعمالها المثيرة للجدل عام 2003، فمثَّلت مفهوماً لمستخدمي الإنترنت المجهولين. حينها، عَبَروا من العالم الواقعي إلى الوهمي في أعمال تتعارض مع الرقابة. اخترقوا مواقع حكومية عدّة، وأنظمة كومبيوتر أهم شركات الحماية. وولَّدوا «بلبلة» على أصعدة مختلفة، وهم يرتدون أقنعة تُعرَف بـ«جاي فوكس».

يتابع الرسام المصري: «قناع (الأنونيموس) كان الأشهر في القرن الحالي، فرغبتُ بالربط بينه وبين عنوان معرضي، لتُولد هذه اللوحة الوحيدة عن تلك المجموعة. مبدأ هؤلاء يرتكز على الثورة ورفض حُكم الدولة العميقة والسلطات العليا».

لم يعنون مناويشي لوحاته بأسماء معيّنة، فتركها مجهولةً. يقول: «رغبتُ في أن يسمّيها ناظرها كما يشتهي. أرنو إلى هذا التفاعل المباشر بين المُشاهد واللوحة». وهو يميل إلى المدرسة التعبيرية في الفنّ التشكيلي: «أحبُّ حالة الحركة في لمسات اللوحة وموضوعها، وأرغب في التواصل معها القائم على الشعور بأنها حيّة، فلا تكون باهتة تمرّ من دون تَرْك أثرها على ناظرها. لذلك، تسير ريشتي بشكل غير مُنتظم باحثةً عن نَفَس لا ينقطع؛ ومرات تتدخَّل أناملي مباشرة، فأبتعدُ عن ريشتي لتخرُج أعمالي من رتابتها، وتكسر تلك القدرة على التحكُّم التقليدي بمشاعر مُشاهدها».

تؤلّف الألوان التي يستعملها مناويشي حالةً بذاتها. فهو جريء باختيارها زاهيةً مرّات؛ ودافئة أخرى. يُحدِث زوبعة بألوان تبدو ثائرة، فتُعبّر عن الظلم والقلق والعنف: «مشاعر الإنسانية لا يمكن حصرها في بوتقة واحدة. وهذه الألوان تعبّر عن المشهدية المدفونة في أعماقنا، فتُبرز التنوّع في أحاسيس تنتابنا وفيها كلّ الاحتمالات. وهنا يأتي دور المتلقّي الذي يرى اللوحة من وُجهة نظره، ويُلاقي ما يمثّل تفكيره ومشاعره في أحد هذه الألوان».

ينقسم «المجهول» إلى قسمين من الأعمال التعبيرية (الشرق الأوسط)

في قسم لوحات الحرب، تأخُذ أعمال الرسام أحمد مناويشي منحى آخر، فيكبُر حجمها بشكل ملحوظ لتضع تفاصيل الوجه تحت المجهر. يعلّق: «هذه المساحات الكبيرة تزوّدنا بفرصة للتوضيح بشكل أفضل. فالعبور من زمن (كورونا) إلى زمن الحرب، كان لا بدَّ أن يحمل التطوّر. واعتمدتُ هذا التغيير؛ لئلا أقع في التكرار والتشابُه».

وأنت تتجوَّل بين أقسام معرض «المجهول»، تستوقفك ملامح وجه رجل حائر، ووجه امرأة تنظر إلى الغد بعتب. وأحياناً تلمس صلابة وجه آخر على شفير هاوية. وفي أخرى، تحملك ملامح رجل تلقّى صفعات الحياة بعينين حزينتين. لكنَّ جميع الشخصيات لا تبدو مستسلمة لقدرها، كأنها تقول: «وماذا بعد؟» على طريقتها.

يبرُز العنصر الأنثوي بوضوح في مجموعة «المجهول». وهنا كان لا بدَّ للرسام التشكيلي أن يعترف: «النساء لا يعرفن إخفاء أحاسيسهن ببراعة. مشاعرهن تخرج بقوة. لذلك نكتشفها بصورة أسهل من تلك الموجودة عند الرجل. فالأخير يحاول أن يُظهر صموداً تجاه مشاعره. ويفضّل ألا تُقرأ بسهولة».

يؤكد أحمد مناويشي أنه لا يحبّ تقييد نفسه بأسلوب رسم واحد. ويختم: «أفضّل التنويع دائماً، وعدم طَبْع لوحاتي بهوية واحدة كما يحبّ بعضهم. أُشبّه نفسي بروائي يؤلّف القصص ليستمتع بها القارئ، فلا يكرّر نفسه أو يقدّم ما يتشابه. ما أنجزه اليوم في عالم فنّ (البورتريه)، لم أقاربه مِن قبل. هو نافذة للتعبير. وهذا الاختلاف في الأسلوب يُحفزّني على دخول مدارس فنّية مختلفة. ما يهمّني هو تقديمي للناس أعمالاً يستمتعون بها فتولّد عندهم حبَّ الاكتشاف».