كيف تقتل «السوشيال ميديا» الحقيقة؟

كيف تقتل «السوشيال ميديا» الحقيقة؟
TT

كيف تقتل «السوشيال ميديا» الحقيقة؟

كيف تقتل «السوشيال ميديا» الحقيقة؟

عاش الفيلسوف والمنظر الثّقافي الفرنسي جان بودريار بين العامين 1929 و2007، ومع ذلك فقد استطاع أن يصف بيئتنا الاتصالية الرّاهنة بأدق وصف ممكن، حين قال: «في هذا العالم تزداد المعلومات أكثر فأكثر... بينما يصبح المعنى الحقيقي أقل فأقل».
خصص بودريار وقتاً كبيراً لإلقاء الضوء على أدوار التزييف والتشبيه والمحاكاة في سلب الواقع واقعيته، وبناء سياق مصطنع بديل، يعيش خلاله الناس مخدرين ومنومين... أسرى لاختلاقات تشبه الحقائق، لكنّها أبعد ما تكون عنها.
يقول الفيلسوف: «ستضحى التشبيهات في المجتمع المعولم أشدّ مصداقية من الواقع ذاته... ستكون واقعاً فائقاً؛ واستناداً إلى ذلك الواقع، الذي هو في حقيقته مفبرك ومصطنع، سيُشكّل الوعي والوجدان لقطاعات كبيرة من الجمهور».
لم يكن بودريار الباحث الوحيد الذي توقع هذه المآلات السوداء للواقع والحقيقة؛ فقد سبقه كثيرون؛ منهم الكاتب والصحافي والتر ليبمان، الذي رأى في عشرينات القرن الفائت أنّ ما انطوت عليه وسائل الإعلام التقليدية من «أكاذيب واختلاقات» آنذاك، كفيل بأن «يخلق عالماً زائفاً»، وانطلاقاً من هذا الاستخلاص، فقد ذهب إلى التشكيك في قدرة المواطن العادي على الحكم الذاتي العقلاني.
ستُلقي هذه المآلات المنحرفة للحالة المعلوماتية بأعباء كبيرة على قدرات الجمهور على فهم الواقع وتحليله تحليلاً صائباً، واتّخاذ القرارات الرّشيدة.
لكنّ القدرات الضخمة التي امتلكتها وسائل الإعلام التقليدية على مدى عقود طويلة، واستطاعت من خلالها أن تؤطر وعياً مصطنعاً في بعض الأحيان، وأن تدفع الجمهور إلى تبنّي خيارات محدّدة، وقبول سياسات معيّنة، ستكون اليوم مجرد بدايات خجولة إذا ما قورنت بالإبداع الخارق في مجالات الاصطناع والفبركة الذي نشهده ضمن تجليات «السوشيال ميديا».
في شهر مايو (أيار) الماضي، أعلنت «فيسبوك» إلغاء 265 حساباً مزيفاً مرتبطاً بإسرائيل، وهي حسابات استهدفت مستخدمين في جنوب شرقي آسيا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا، ونيجيريا، والسنغال، وتوغو، والنيجر، لكن ما كان لافتاً ضمن هذا الإعلان أنّ «فيسبوك» رصدت استهدافاً إسرائيلياً عبر هذه الحسابات للانتخابات التونسية.
يذكّرنا هذا بما كُشف عنه في إطار فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية التي أتت بالرئيس ترمب.
في شهر مايو الفائت نفسه، أعلنت «فيسبوك» أنّها حققت رقماً قياسياً في عدد الحسابات الزائفة التي أغلفتها خلال فترة ثلاثة شهور؛ إذ قالت: «أغلقنا 2.2 مليار حساب مزيف بين يناير (كانون الثاني) ومارس (آذار) 2019».
من جانبي، لا أعتقد أنّ «فيسبوك» تقول الحقيقة فيما يختص بإجراءاتها الاحترازية وجهودها في مجال حماية حقوق المستخدمين، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ عدد المستخدمين النّشطين على شبكتها شهرياً لا يتجاوز 2.38 مليار مستخدم.
لكنّ هذا لا يمنع أن نفهم أنّ «فيسبوك» تقول للعالم إنّها أدركت خطورة تفشي هذه الظاهرة، وإنّها تحاول أن تبذل جهداً للتقليل من آثارها الضارة، مع الأخذ بالاعتبار أنّ الإفادات الموثوقة في هذا الصّدد تقول إنّ الشركة العملاقة التي تحقق أرباحاً فائقة لا تعتني كثيراً باتخاذ التدابير اللازمة لكي يكون عملها متسقاً مع القواعد والمعايير المرعيّة، خصوصاً فيما يتعلق بحماية الخصوصية والملكية الفكرية ومحاربة خطابات الكراهية.
في يوليو (تموز) 2018، أعلنت شركة «تويتر» أنّها أغلقت في شهرين نحو 70 مليون حساب وهمي؛ وهو الأمر الذي انعكس على تراجع كبير في عدد متابعي بعض الشخصيات المشهورة؛ إذ فقد الرئيس ترمب نحو 340 ألفاً من متابعيه. وبسبب وجود الحسابات المزيفة، فإنّ الفضاء الاتصالي الذي تنشط خلاله البشرية راهناً، أصبح «واقعاً فائقاً» بلغة بودريار، وهو واقع ينطوي على سمات ثلاث:
أولاً: حجم المنصات الزائفة والمصطنعة وتأثيرها ونفاذها يقارب حجم المنصات الحقيقية.
ثانياً: المنصات الزائفة والمصطنعة تتبع أفراداً ومؤسسات ودولاً، وجماعات مصالح، وتنظيمات إرهابية، ورجال أعمال.
ثالثاً: بسبب شيوع فكرة الاصطناع، فإن حجم المعلومات الحقيقية يتضاءل، في مقابل زيادة حادة وسريعة في حجم المعلومات المفبركة والمضللة.
لقد تحوّل الفضاء الاتصالي الرئيس الذي ننشط فيه جميعاً إذن، إلى ميدان تضاغط وصراع.
يتحول الدور المعلوماتي لمواقع «التواصل الاجتماعي» شيئاً فشيئاً إلى مجال للتلاعب والفبركة؛ وهو أمر يمكن التعامل معه باستخدام آليات وتدابير احترازية محكمة، للحد من آثاره الكارثية.
لكنّ الإشكال يكمن في أنّنا لا نثق بقدرة أو رغبة شركات التكنولوجيا العملاقة في الحد من هذا الأثر المدمر، كما أنّنا لا نثق بوجود إرادة لتحرير هذا المجال من نزعة التلاعب.
أمّا الإشكال الأخطر فيتعلق بأنّنا، لأسباب عديدة، أصبحنا مرتهَنين ومستلَبين للوظيفة الإخبارية لمواقع التواصل الاجتماعي؛ وهو ارتهان سيأخذنا إلى عالم مصطنَع وزائف، قال المؤرخ سيفا فيدياناثان، إنّه «سيُقوض الحقيقة والثقة والديمقراطية».



شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.