العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

شهر نشاط من جهة واشنطن... قابله صمت في بغداد

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني
TT

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

العراق بين مخاوف زعزعة الاستقرار ومخاطر التصعيد الأميركي ـ الإيراني

كان الشهر الماضي حافلاً بالنشاط من جهة الولايات المتحدة الأميركية حيال العراق، ومتسماً بالصمت من جانب الحكومة العراقية في بغداد. ففي أعقاب القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، بنحو أقل من أسبوعين، جرى الإعلان عن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» الذي ينتظر إحالته إلى مجلس الشيوخ الأميركي بعد التصويت عليه من قبل مجلس النواب. وتزامنت هذه التطورات مع تطور خطير آخر، هو ما كشفت عن تقرير نشرته صحيفة «التايمز» البريطانية، عن إقدام إسرائيل على قصف مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وأشار التقرير إلى استهداف الغارات الجوية الإسرائيلية أولاً كل منطقة آمرلي التابعة لمحافظة صلاح الدين، وثانياً معسكر أشرف في محافظة ديالى.
ولقد راح ضحية قصف هذا المعسكر طبقاً للتقرير عناصر من الحرس الثوري الإيراني، فضلاً عن كتائب «حزب الله».
الجهات الرسمية في العراق أحجمت عن الرد أو التعليق على قرار وزارة الخزانة الأميركية بإدراج أربع شخصيات عراقية على لائحة العقوبات، ومشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق». وأحجمت كذلك عن الرد على تقرير لصحيفة «التايمز» البريطانية، عن قصف إسرائيل مقرات تابعة لفصائل عراقية مسلحة في العراق موالية لإيران. وحقاً، باستثناء القرار الإجرائي الذي اتخذه البنك المركزي العراقي بتجميد الأصول المالية للشخصيات الأربع المستهدفة بالعقوبات الأميركية - وهي أحمد الجبوري (المعروف بـ«أبو مازن») ونوفل العاكوب وريّان الكلداني ووعد القدو - لم يصدر أي موقف رسمي من بغداد... لا بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق»، ولا على تقرير «التايمز» عن القصف الإسرائيلي على المواقع الإيرانية. واللافت أن النفي بشأن قصف المواقع صدر عن «هيئة الحشد الشعبي»، التي قالت إنها شكّلت لجنة للتحقيق في «حادثة» آمرلي، فاتضح (حسب الهيئة) أنه «لم يكن هناك قصف بل انفجار وقود صلب»، أما القصف على «معسكر أشرف»، فلم يُشِر إليه أحد داخل العراق.

تساؤلات وإيحاءات
ردود الفعل العراقية بشأن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» تعكس الجدل السياسي في البلاد حيال كل شيء، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان التعبير عن موقف وطني موحّد إزاء قضايا يُفترض ألا تكون موضع جدل أو خلاف بين مختلف القوى والأطراف السياسية.
ففي الوقت الذي تساءل فيه محمد شياع السوداني، عضو البرلمان العراقي عن ائتلاف «دولة القانون»، حول ما إذا كان هذا مشروع القانون هذا يعني «وصاية جديدة على العراق... أم لجعل العراق ساحة اشتباك مع دول الجوار»، فإنه أجاب على تساؤله بنفسه بالقول إن «هي إلا كلمة حقّ يراد بها باطل». وأردف السوداني أن مشروع القانون، الذي أصبح مثار جدل في الأوساط السياسية العراقية، ينصّ على أنه يحقّ للرئيس الأميركي «فرض عقوبات على أي أجنبي ينوي القيام - متعمداً - بأي شكل من أعمال العنف، له غرض أو تأثير مباشر على تهديد السلام والاستقرار في العراق، أو حكومة العراق وتقويض العملية الديمقراطية فيه، أو تقويض الجهود الكبيرة لتعزيز البناء الاقتصادي والإصلاح السياسي أو تقديم المساعدات الإنسانية إلى الشعب العراقي».
كذلك يشترط مشروع القانون على وزير الخارجية الأميركي مسؤولية «إعداد قائمة معلومات وحفظها ونشرها وتجديدها سنوياً، عن مختلف الجماعات المسلحة والميليشيات أو (القوات بالوكالة) في العراق التي تتلقى مساعدة لوجيستية أو عسكرية أو مالية من الحرس الثوري الإيراني. وهذا، فضلاً عن ممارسة الإرهاب داخل العراق، وتحديد إذا ما كان ينبغي معاقبة الأفراد المُدرَجين في القائمة، وإذا كان ينبغي عد الأشخاص المرتبطين بتنظيمات معينة إرهابيين ومعاقبتهم».
ولئن كان السوداني قد طرح تساؤلات ذات إيحاءات معينة، في إشارة إلى أن مشروع القانون هذا يأتي في وقت تزايدت فيه مخاطر التصعيد الأميركي - الإيراني، الذي لن يكون العراق في معزل عنه، فإن أكاديميين عراقيين آخرين كانت لهم حيال مشروع القانون آراء تكاد تكون متطابقة من حيث المضامين، إذ رأى الدكتور حسين علاوي، رئيس مركز «أكد» للدراسات الاستراتيجية، في حديث له مع «الشرق الأوسط» أن «القانون يأتي كالتزام من قبل الدولة الأميركية، بقيادة الكونغرس والأحزاب والرئيس ونائب الرئيس في الولايات المتحدة الأميركية، بدعم الدولة العراقية والحفاظ على الأمن والاستقرار كمسؤولية أخلاقية وتحالف سياسي مع الدولة العراقية، وكالتزام سياسي بالحفاظ على الأمن والاستقرار بعد دحر كيان (داعش) الإرهابي».
وأضاف الدكتور علاوي أن «الولايات المتحدة تريد أن يكون العراق بعيداً عن الصراع الأميركي - الإيراني وعمليات التصعيد الجارية. ولذلك هي ستقف مع الحكومة العراقية والشعب العراقي». واستطرد موضحاً أن «هناك استراتيجية أميركية جديدة في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقوم على فلسفة الارتباط الصلب، وهي لأول مرة بعد سياسة الرئيس جورج بوش (الابن) السابق، تعود بواشنطن لاتباع استراتيجية الارتباط الصلب بدل المرن التي اتُّبعت في ظل الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان قد أثّر كثيراً في مكانة دعم العراق في القرار الأميركي». وتابع علاوي مشيراً إلى أن «المصالح الأميركية كبيرة في العراق، وجزء أكبر منها هو التزام واشنطن باستقرار العراق سياسياً وأمنياً واجتماعياً».

عودة التأثير الأميركي
أما الخبير الأمني سعيد الجياشي، فإنه يرى أن مشروع «قانون منع زعزعة استقرار العراق» أعاد العراق إلى التأثير الأميركي المباشر في هيكلية النظام السياسي، مع قدرة محاسبة واضحة... وفق ما جاء في نص مشروع القانون الذي لم يحدد في نصوصه معايير واضحة للعمل به. ويضيف الجياشي في حواره مع «الشرق الأوسط» أنه «إذا اكتملت دورة إقراره من مجلس الشيوخ والبيت الأبيض نكون أما مع وضع جديد تماماً من خلال مراحل تنفيذه في طياتها خطورة أكثر من (قانون تحرير العراق) الذي شرّعه الكونغرس الأميركي عام 1998». ويوضح الجياشي أن «من المتوقّع أنه سيكون لهذا القانون وصلاحياته قدرة عالية على إزالة مَن تريد من الشخصيات، وتقويضها، أو تجميد الشركات والحسابات وإيقافها، ومصادرة أموال مع تقويض مستمر لما تراه يمثل تهديداً لاستقرار العراق، وفق هذا القانون الذي معاييره غير واضحة».
وينبّه الخبير الأمني إلى أنه «من المهم أن تهتم الحكومة وقنوات الدولة بمراجعة وبحث أسباب تحريك القانون حالياً، رغم مرور فترة سنتين على الشروع بتشريعه؛ إذ ربما كان هناك ربط واضح في التوتر المتصاعد بين إيران وأميركا وعلاقة العراق بهما، وإمكانية أن يكون العراق منطقة اشتباك بينهما... والقادم، وفق هذا القانون، ينذر بتصعيد متعدد الاتجاهات والمجالات».
في السياق نفسه، يقول الدكتور إحسان الشمري، رئيس «مركز التفكير السياسي» لـ«الشرق الأوسط» معلقاً إن «هذا القانون، بعد التصويت عليه من قبل مجلس الشيوخ الأميركي، في أعقاب إقراره من قبل مجلس النواب، سيفتح الباب أمام الرئيس الأميركي لاتخاذ إجراءات عقابية إضافية بحق إيران»، ثم أردف أن «هذا القانون يأتي بمثابة تحدٍّ ليس فقط للحكومة العراقية الحالية، وإنما هو تحدٍّ ماثل للقوى السياسية لاعتماد موقف يتماهى مع مصلحة العراق، ثم إنه يشكل تحدياً حقيقياً للفصائل المسلحة التي أشار لها هذا القانون، ولشكل علاقتها مع إيران».

التدخل العسكري... ممكن
ومن ثم لاحَظ الدكتور الشمري أن «القانون يتيح للرئيس الأميركي التدخل عسكرياً في العراق، لحمايته من أي مؤثرات تقوّض العملية الديمقراطية»، واستطرد شارحاً: «هذا القانون يتماشى مع الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، التي يكفل أحد بنودها الحق للقوات الأميركية في التدخل عسكرياً تجاه كل ما يزعزع أو ينوي لإسقاط الحكم الديمقراطي في العراق». وأشار إلى أن «القانون مرَّ بمراحل طويلة، حيث يبدو أن هناك قلقاً أميركياً حيال الجهات التي تمتلك السلاح في العراق. وبالتالي، فإنه سيترتب عليه أمور كثيرة، وبالأخص لجهة إعلان الجهات المقربة من إيران على لائحة الإرهاب الأميركية. وأنا لا أستبعد أن يجري تخادم ما بين هذا القانون واتفاقية الاتفاق الاستراتيجي التي تتيح للولايات المتحدة الأميركية التدخل عسكرياً إذا ما وجدت أن الديمقراطية في العراق مهددة. وهذا يعني أن احتمالية التدخل العسكري قد تكون واردة في حال حوّلت بعض الجهات العراق إلى (أرض احتكاك) أو هددت العملية السياسية، أو حاولت خرق سيادة العراق أو نظامه الديمقراطي».

«داعش» خلف الباب
من ناحية أخرى، واصل الجيش العراقي على مدى الشهرين الماضيين حربه ضد تنظيم «داعش» الإرهابي، أمام خلفية محاولات البلاد الخروج من عنق زجاجة مشاكلها الداخلية. وللعلم، تبدأ هذه المشاكل من تعذر إكمال تشكيل الحكومة (حيث لا تزال حقيبة وزارة التربية شاغرة)، ولا تنتهي بالجدل حول مُخرجات البرنامج الحكومي، الذي تقول الحكومة إن نسب الإنجاز فيه تعدت الـ79 في المائة... بينما تقول لجنة متابعة البرنامج في البرلمان العراقي إن المنجز لم يتعد الـ36 في المائة.
العملية العسكرية الجديدة ضد هذا تنظيم «داعش» أطلق عليها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي اسم «إرادة النصر». ولقد بدأت منذ أيام صفحتها الثالثة بهدف مطاردة عناصر «داعش» داخل محافظات ديالى وكركوك ونينوى. ومع إعلان الجيش العراقي تحقيقه «انتصارات كبيرة» على هذا التنظيم، بما في ذلك اختراق منظومته الخاصة، وتجنيد عناصر منه لصالح الجهد الاستخباري العراقي، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن «(داعش) عاود ظهوره في العراق وسوريا».
التقرير الأميركي يقول إنه «رغم خسارته خلافته على المستوى الإقليمي فإن تنظيم (داعش) في العراق وسوريا عزّز قدراته في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي من السنة».

تقرير «البنتاغون»
وأضاف تقرير «البنتاغون» أن «التنظيم استطاع توحيد ودعم عمليات في كلا البلدين، والسبب في ذلك يرجع بشكل جزئي إلى كون القوات المسلحة غير قادرة على مواصلة عمليات طويلة الأجل أو شن عمليات متزامنة (في وقت واحد) أو الحفاظ على الأراضي التي استعادها». وفي هذا السياق يقول الدكتور هشام الهاشمي، الخبير المتخصّص بشؤون الجماعات المسلحة لـ«الشرق الأوسط» إنه «رغم أن شبكات فلول (داعش) عادت لتنشط بشكل فاعل في كل من مثلث غرب صلاح الدين وجنوب نينوى وشمال الأنبار، ومثلث شمال شرقي ديالى وشرق صلاح الدين وجنوب كركوك، فإن عودته في غرب العراق تختلف عن عودته في شرق العراق».
ويضيف الهاشمي شارحاً أن «بنيته في غرب العراق يغلب عليهم الطابع العشائري المحلي، على عكس شرق العراق الذي يشكل فيه الفلول من العشائر غير المحلية غالبية واضحة أو قيادة مسيطرة».
ويتابع الهاشمي إن «مقارنـة اعترافات فلول تنظيم (داعش) الذين أُلقِي القبض عليهم خلال عامي 2018 و2019. تظهـر عـلى نحـو جـلي ارتفـاع نسـبة مَن اعترفوا بأن نظرتهـم تجـاه عقيدة ومنهج (داعش) نظرة سـلبية عند فلول غرب العراق، وذلك لأن معظمهم كان انضمامهم لأسباب اقتصادية وليست عقائدية أو دينية فقهية. ويتضـح هـذا الأمـر، عـلى نحـو واضح، لدى جميـع اعترافات الموقوفين أو المسجونين من تلك المناطق». ثم يؤكد الدكتور الهاشمي أن «تطلـع فلول (داعش) إلى كسر الحـدود بين العراق وسوريا، إنمـا يمثـل قمة أهدافها المقبلة، وسـعيها لتأسيس الخلافـة المزعومة التـي تقـوم على أسـاس البيعة لأبو بكر البغدادي. عملياتهم هناك قد تمهّد إلى تخادم الولايات المتحدة كما تخادمت مع الفصائل السلفية في أفغانستان بالضد من السوفيات». ويمضي الهاشمي في شرحه قائلاً إن «العراق بحاجة إلى سـند اسـتراتيجي واضـح. ويبـدو أنـه رغم أن الحكومة العراقية لا تسـتطيع الإقـرار بذلـك صراحـة. فالسند الاسـتراتيجي والعسكري الوحيد والعملي بالنسـبة إليـها هـو التصالح مع الشعب العراقي، حيث إن النصر العسكري الذي تحقق بطــرد (داعش) مــن المناطـق ذات الغالبية الســنّية في غرب وشرق العــراق ضرورة حيويــة، لكــن مجــرد هزيمــة «داعش» عسكرياً لـن تحــدث فرقــاً جذرياً إذا لم تنفذ برامج تمكين الاستقرار وإعادة الإعمار وإنهاء ملف النازحين كما هو مخطط».



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟