العلماء يواصلون البحث عن حياة ذكية خارج الأرض

حظوظ رصدها تصل إلى 1 من عشرات الملايين

العلماء يواصلون البحث عن حياة ذكية خارج الأرض
TT

العلماء يواصلون البحث عن حياة ذكية خارج الأرض

العلماء يواصلون البحث عن حياة ذكية خارج الأرض

قبل 20 سنة مضت أوردت نشرة مغمورة تدعى «بايواسترونومي نيوز» أن اثنين من عمالقة العلم دخلا في نقاش حول ما إذا كان مشروع «سيتي SETI» الخاص بالبحث عن حياة ذكية خارج الأرض له حظ بالنجاح، وكان جواب كارل سيغان أحد هذين العالمين جوابا عاديا، ألا وهو، أنه ومع وجود المليارات من النجوم والكواكب في مجرتنا، فلا بد من وجود حضارات أخرى قادرة على بث الإشارات والموجات الكهرومغناطيسية، وعن طريق مسح السماء بواسطة التلسكوبات اللاسلكية، فقد ننجح في التقاط إشارة ما.
لكن خصم سيغان، وهو عالم الأحياء الشهير إرنست ماير، كان يعتقد أن حظوظ ذلك تقارب الصفر.
ولمواجهة مليارات نجوم سيغان، قام ماير بعرض وتقديم أرقامه كبيرة العدد، فمن أصل مليارات الأجناس التي عاشت وماتت منذ بداية الحياة والخليقة، فإن واحدا منها فقط، هو الإنسان العاقل، تمكن من تطوير العلوم، والتقنيات، وتمتع بالفضول وحب الاستطلاع ليكتشف النجوم، وهذا ما استغرق نحو 3.5 مليار سنة من التطور والارتقاء. إذن فوجود أو كينونة «الذكاء العالي»؛ أي المخلوقات عالية الذكاء، كما استنتج ماير، لا بد من أنه نادر جدا، سواء كان هنا، أو في أي مكان آخر.

* آثار الحياة
ومنذ تاريخ هذا النقاش مع سيغان جرى اكتشاف أكثر من 1700 كوكب فيما وراء المجموعة الشمسية، 700 منها اكتشفت العام الجاري. وقدر الفلكيون أخيرا أنه بين كل 5 نجوم على شاكلة شمسنا في درب التبانة، فإنه قد يدور حولها عالم قادر على دعم نوع من الحياة، وهذا يعني وجود 40 مليار بيئة ممكنة من هذا النوع.
لكن ماير الذي توفي في عام 2005 بعدما ناهز الـ100 من العمر، ولعل هذه الأخبار لم تسعده، فوفقا لتقديره لا تزال الاحتمالات والترجيحات ضعيفة جدا بالنسبة إلى أي موقع يتجاوز العوالم البدائية، ولم يبرز أي دليل حتى الآن ليثبت بأنه كان مخطئا.
لكن قد يبدو أننا لا ننظر ولا نبحث كما يجب، فمنذ بدء مشروع «سيتي» في أوائل الستينات، وهو يعاني للحصول على التمويل الكافي لمراقبة ورصد حتى ولو جزء من السماء. وفي مقالة في «كونفرزيشن» على الإنترنت، أبدى سيث شوستاك كبير الفلكيين في معهد «سيتي» أسفه من قلة الأموال المرصودة لهذا المشروع، الذي هو جزء صغير من ميزانية «ناسا»، وكتب: «إذا لم تقم بالمغامرة بمبلغ زهيد، فأنت لن تفوز بالجائزة الكبرى، وهذه مسألة تعود إلى الإرادة والرغبة».
وقبل 3 سنوات نفذت الأموال الخاصة بتلسكوب «ألن تيلسكوب آري» التابع لـ«سيتي» في شمال كاليفورنيا؛ مما توجب إغلاقه لفترة من الزمن، وخلال الشهر الحالي هددته حرائق الغابات وأحاطت به، وهو تذكير آخر بهشاشة هذا البحث.

* التطور والارتقاء
لقد مضت أكثر من 3.5 مليار سنة منذ أن برزت الخليات الحية الأولى البسيطة، لتستغرق مليارا آخر من السنوات لتتطور وترتقي وتتحد عضويا في كائن عضوي بدائي متعدد الخلايا، ومثل هذه الخلايا البيوكيميائية التي هي على شكل قفير النحل، تطورت عن طريق التحول والتمسخ العشوائي إلى مخلوقات يمكنها التذكر والتوقع، وعلى الأقل كما هو في حالة البشر، التساؤل عن الأمور.
وكانت كل خطوة هي نوع من المصادفة مثل الجمع التعسفي للأرقام 3، 12، 31، 34، 51، 24 التي أهلت الفائز بيانصيب «بأوروبول» الفوز بـ90 مليون دولار هذا الشهر في الولايات المتحدة، فقد حدث لأحدهم من غير المعروفين أن يدخل إلى أحد المتاجر في رايفل في ولاية كولورادو بأميركا، وأن يشتري بدلا من الغازولين، أو طبق طعام يحضر بالميكروويف، ورقة يانصيب قبل أن تدار العجلة وتنطق هذه الأرقام.
واستنادا إلى موقع «بأوروبول»، فإن احتمال الفوز بالجائزة الكبرى هو واحد على 175 مليونا، أما بروز الذكاء البشري فهو كما يراه ماير، كما لو أن الفائز بهذا اليانصيب، استمر في شراء التذاكر، وبقي يفوز في كل مرة بالجائزة الكبرى، فجميع الاحتمالات البعيدة تراكمت بعضها فوق بعض، مؤدية إلى حدث نادر معرض للزوال.
وأحد الكتب المفضلة لدي هو بعنوان «حياة رائعة» الذي يحتفل فيه ستيفان جاي غوولد بما يراه استبعاد ترجيح وجودنا، فهو يذهب أبعد من ماير في رؤيته بأنه لو لم يستطع مخلوق يزحف كالحية، يدعى «بكايا غراسيلينس» Pikaia gracilens، أن ينجو من الانقراض في العصر الكامبري، الذي حدث قبل نصف مليار سنة، لكانت فصيلة (شعبة) الحيوانات التي تدعى الفقريات، ومنها نحن البشر، لم توجد على هذه الأرض.
لكن علماء أحياء آخرين يخالفون استنتاج غوولد، ففي سياق التطور والارتقاء، تطورت العيون والخلايا المتعددة بصورة مستقلة في مرات متعددة، فلماذا لن تكون الفقرات، والأحبال الشوكية، والأدمغة أيضا متطورة على الشاكلة نفسها؟ فهنالك كثير من الحيل والأساليب في تصرف هذه الكائنات، وربما أفضلها هي قوة البقاء على الحياة والاستمرار.
لكن مثل هذه الفرص نادرة، فغالبية الكائنات الحية كما يصفها دانيال دينيت في كتابه «أفكار دارون الخطرة»، تقوم على حل بسيط نسبيا لمشكلات الحياة في بدايتها منذ مليارات السنوات، وليس لها علاقة كبيرة بعمل تصميمي منذ ذلك الوقت. «أما تقديرنا وإعجابنا بالتعقيد، فهو ليس أكثر من أفضلية أو خيار جمالي»، كما يقول.
وفي كتابه «خمسة مليارات سنة من الوحدة» الذي نشر في العام الماضي، قام مؤلفه لي بيلنغس بزيارة فرانك دريك، أحد رواد مشروع «سيتي»، الذي قال له: «قد تصل الآن إلى هذه الغرفة رسائل من النجوم، هذا إذا كان لدينا جهاز الاستقبال الصحيح.. ما زلت أصاب بالرعشة عند التفكير بذلك». فهو يدرك الاحتمالات الضعيفة في معرفة الترددات اللاسلكية الصحيحة، الصادرة من المكان الصحيح، بالزمن الصحيح، وهذا يعني الحاجة إلى توسيع نطاق البحث، «فنحن نمارس لعبة اليانصيب هذه باتباع أساليب وحيل قليلة»، كما قال.

* خدمة «نيويورك تايمز»



بين جينات الأجداد وكيمياء العصر: لماذا تُصاب بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي؟

بين جينات الأجداد وكيمياء العصر: لماذا تُصاب بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي؟
TT

بين جينات الأجداد وكيمياء العصر: لماذا تُصاب بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي؟

بين جينات الأجداد وكيمياء العصر: لماذا تُصاب بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي؟

تشير دراسة علمية جديدة أجراها باحثون من جامعة بورنموث البريطانية إلى أن مزيجاً من اختلافات جينية موروثة من أسلاف البشر القدماء، ومن التعرّض لمواد كيميائية شائعة في حياتنا اليومية، قد يفسّر سبب إصابة بعض النساء بالانتباذ البطاني الرحمي المعروف أيضاً ببطانة الرحم المهاجرة أكثر من غيرهن.

مرض شائع... وتشخيص صعب

يُعدّ الانتباذ البطاني الرحمي Endometriosis من أكثر الأمراض النسائية غموضاً وإيلاماً؛ إذ يصيب نحو واحدة من كل عشر نساء في سن الإنجاب متسبباً في آلام مزمنة واضطرابات في الدورة الشهرية، وقد يصل في الحالات الشديدة إلى العقم. ورغم ازدياد الوعي بالمرض في السنوات الأخيرة لا يزال تشخيصه المبكر صعباً، وتبقى أسبابه الدقيقة غير مفهومة بالكامل. غير أن أبحاثاً علمية حديثة بدأت تكشف خيوطاً جديدة قد تفسر لماذا تكون بعض النساء أكثر عرضة للإصابة به، ولماذا تعاني أخريات أشكالاً أكثر حدة.

وفي دراسة حديثة نُشرت في «المجلة الأوروبية لعلم الوراثة البشرية» European Journal of Human Genetics في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، أشار الباحثون إلى أن التفاعل بين متغيرات جينية موروثة من أسلاف البشر القدماء والتعرّض لمواد كيميائية حديثة قد يلعبان دوراً مهماً في تطور المرض. وقد راجع الباحثون دراسات سابقة وحددوا خمسة جينات يُحتمل ارتباطها بالانتباذ البطاني الرحمي، وهي جينات معروفة بحساسيتها لمواد كيميائية تؤثر في الهرمونات والجهاز المناعي.

البحث عن الجذور الجينية

وباستخدام بيانات من قاعدة Genomics England التابعة لهيئة الصحة البريطانية، قارن الفريق التركيب الجيني لـ19 امرأة مصابة بالمرض مع نساء غير مصابات. وأسفر التحليل عن تحديد ستة متغيرات جينية كانت أكثر شيوعاً لدى المصابات، بعضها يعود في أصله إلى إنسان النياندرتال وسلالات بشرية قديمة أخرى. ويعتقد الباحثون أن هذه المتغيرات الجينية التي ظلت جزءاً من الجينوم البشري لآلاف السنين دون ضرر واضح قد تصبح مشكلة عند تفاعلها مع بيئة كيميائية حديثة لم يعرفها أسلافنا.

وتكمن أهمية هذه النتيجة في أن الجينات المكتشفة تتفاعل مع مواد كيميائية تُستخدم اليوم على نطاق واسع وتوجد في البلاستيك ومستحضرات التجميل ومنتجات التنظيف والمواد المنزلية اليومية. ويُرجّح أن هذا التفاعل قد يُربك الجهاز المناعي ويُحفّز الالتهابات المزمنة المرتبطة بالانتباذ البطاني الرحمي.

حين تتفاعل الجينات مع البيئة

وفي سياق متصل، تعزز دراسة أخرى نُشرت في مجلة Environmental Health Perspectives في 13 أغسطس (آب) 2025 هذه الفرضية البيئية. فقد ركزت الدراسة التي أُجريت في جامعة جورج ميسون في فرجينيا بالولايات المتحدة بقيادة الدكتورة جوانا ماروكين، الباحثة في مجال الصحة العامة وعلم الأوبئة، على مجموعة من المركبات الصناعية تُعرف باسم المواد الكيميائية الأبدية (PFAS)، وهي مواد مقاومة للتحلل، وتبقى في البيئة وجسم الإنسان لفترات طويلة.

وللمرة الأولى، فحص الباحثون وجود هذه المواد مباشرة داخل أنسجة بطانة الرحم لدى النساء. وأظهرت النتائج أن تلك المواد كانت موجودة لدى نساء مصابات وغير مصابات بالانتباذ البطاني الرحمي؛ ما يشير إلى أنها لا تزيد من خطر الإصابة بالمرض بحد ذاته. إلا أن المفارقة ظهرت عند النظر إلى شدة المرض؛ إذ ارتبطت المستويات المرتفعة لبعض أنواع المواد بزيادة خطر الإصابة بمراحل متقدمة وأكثر تعقيداً من الانتباذ البطاني الرحمي لدى المصابات.

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى صورة أكثر تعقيداً للمرض؛ فالانتباذ البطاني الرحمي قد لا يكون ناتجاً من عامل واحد، بل عن تراكب الاستعداد الجيني مع التعرّض المزمن للمواد الكيميائية الحديثة؛ ما يؤثر ليس فقط على ظهور المرض، بل على تطوره وحدّته.

أمل في التشخيص المبكر

وتؤكد الباحثة أميليا وارن، التي قادت الدراسة الأولى من قسم علوم الحياة والبيئة جامعة بورنموث البريطانية، أن كثيراً من النساء يعانين لسنوات دون تشخيص؛ لأن آلام الحوض تُعدّ في كثير من الأحيان «طبيعية»، ولا تُظهر الفحوص التقليدية العلامات المبكرة للمرض. بينما ترى المشرفة على البحث الدكتورة آنا مانتزوراتاو من قسم علوم الحياة والبيئة جامعة بورنموث أيضاً، أن فهم هذا التفاعل بين الجينات والبيئة قد يفتح الباب أمام تشخيص مبكر وتحديد النساء الأكثر عرضة للخطر قبل تفاقم الأعراض.

في المحصلة، تعكس هذه الأبحاث تحولاً مهماً في فهم الانتباذ البطاني الرحمي من كونه لغزاً طبياً غامضاً إلى حالة صحية معقّدة تتأثر بتاريخنا الجيني وواقعنا البيئي المعاصر. ومع تزايد الأدلة تتعزز الدعوات إلى تقليل التعرّض للمواد الكيميائية الضارة ودعم الأبحاث التي تنصت أخيراً لمعاناة ملايين النساء، وتبحث بجدية عن إجابات طال انتظارها.


6 ثوانٍ حاسمة: الذكاء الاصطناعي لاعب جديد في الطوارئ

6 ثوانٍ حاسمة: الذكاء الاصطناعي لاعب جديد في الطوارئ
TT

6 ثوانٍ حاسمة: الذكاء الاصطناعي لاعب جديد في الطوارئ

6 ثوانٍ حاسمة: الذكاء الاصطناعي لاعب جديد في الطوارئ

في لحظات الطوارئ، لا يملك الطبّ رفاهية التفكير الطويل. فالقلب لا ينتظر، والرئتان لا تنتظران، والمريض نفسه قد لا يمنح الطبيب أكثر من ثوانٍ معدودة قبل أن ينزلق إلى منطقة رمادية بين الوعي والغياب. هنا، لا تكون المشكلة نقص المعرفة، بل ضيق الزمن. فكم من قرار صائب أُجهض لأن الإشارة ظهرت متأخرة؟ وكم من حياة فُقدت لأن التحذير جاء بعد فوات الأوان؟

لاعب جديد في غرف الطوارئ

في هذه المساحة الحرجة بين الحياة والموت، يدخل الذكاء الاصطناعي لاعباً جديداً في غرف الطوارئ — لا ليحلّ محل الطبيب، بل ليكون «عيناً زمنية» ترى ما يتشكّل قبل أن يظهر، وتلتقط ما يهمس به الجسد قبل أن يصرخ. ذكاء لا ينافس الحدس الطبي، بل يسبقه بثوانٍ... قد تكون الفارق بين إنقاذ مريض أو فقدانه.

هذا التحوّل لم يعد فكرة مستقبلية، بل واقعاً بحثياً موثّقاً. ففي دراسات حديثة قادتها فرق من جامعة هارفارد بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، طُوّرت نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل الإشارات الحيوية في أقسام الطوارئ — من تخطيط القلب، وتقلب النبض، وأنماط التنفس، وتغيّرات معدلات الأكسجين في الدم - لا لاكتشاف الخطر عند وقوعه، بل للتنبؤ بانهيارات قلبية وتنفسية قبل دقائق من حدوثها. وهي نماذج لا تبحث عن علامة واحدة صاخبة، بل عن نمط خفي يتشكّل عبر الزمن.

وفي السياق نفسه، كشفت دراسات منشورة عام 2025 في مجلات طبية متخصصة، إلى جانب تقارير بحثية من جامعة جونز هوبكنز، عن أن خوارزميات التعلّم الآلي باتت قادرة على تحديد المرضى الأكثر عرضة لتوقّف القلب المفاجئ داخل المستشفى بدقة تفوق التقييم السريري التقليدي، عبر قراءة متزامنة لآلاف البيانات في ثوانٍ — مهمة يستحيل على الإنسان إنجازها تحت ضغط الطوارئ.

هنا، لا يتعلّق الأمر بسرعة الحوسبة فقط، بل بإعادة تعريف القرار الطبي نفسه. فغرفة الطوارئ لم تعد مكاناً لردّ الفعل وحده، بل صارت ساحة للتنبؤ والاستباق. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس: هل سيُستخدم الذكاء الاصطناعي في الطوارئ؟ بل: هل يستطيع الطبّ الحديث أن يتجاهل ذكاءً يرى الخطر قبل أن يراه الزمن نفسه؟

ومع هذه القفزة، يفرض السؤال نفسه بقوة: هل نحن أمام لحظة تعيد تعريف طبّ الطوارئ؟ وهل يصبح الذكاء الاصطناعي — للمرة الأولى — قادراً على التفكير أسرع من الخطر ذاته، لا لإنقاذ البيانات، بل لإنقاذ الحياة.

اللحظة الحاسمة: حين يسبق الذكاءُ الاصطناعي الانهيار

في أروقة الطوارئ المزدحمة، يعمل الطبيب تحت ضغط لا يرحم. عشرات الوجوه، عشرات الشكاوى، وزمن يضيق مع كل نبضة قلب: ألم صدري غامض، ضيق تنفّس متسارع، اضطراب نظم مفاجئ، صدمة تحسسية، نزيف لا ينتظر. في هذه اللحظات، لا يكون التحدي في نقص المعرفة، بل في فيض الإشارات وضيق الوقت.

هنا، يتقدّم الذكاء الاصطناعي بطريقة مختلفة تماماً. فالخوارزمية — المدرَّبة على ملايين السجلات الحيوية — لا تتوتر تحت ضغط الطوارئ، ولا تُربكها الفوضى السريرية، ولا تُغفل إشارة لأن التعب غلب الانتباه.

إنها تُنصت إلى ما لا يُسمع: تذبذبات دقيقة في نبض القلب، تغيّرات طفيفة في تشبّع الأكسجين، انحرافات شبه غير مرئية في تخطيط القلب الكهربائي، أنماط تنفّس غير منتظمة لا يلتقطها النظر العابر. إشارات تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً، تكشف بداية الانهيار الصامت.

في التجارب السريرية المتقدّمة، تمكّنت هذه الخوارزميات من التنبؤ بحدوث الانهيار القلبي قبل وقوعه بست دقائق كاملة. ست دقائق لا تعني شيئاً في الزمن العادي، لكنها في الطوارئ تعني الفرق بين إنعاش ناجح... وذكرى متأخرة.

هنا، لا «يحلّ» الذكاء الاصطناعي محل الطبيب، بل يمنحه أثمن ما يمكن أن يُعطى في الطوارئ: الزمن. زمن إضافي لاتخاذ القرار، لتجهيز الفريق، ولمنح المريض فرصة لم يكن ليحصل عليها لولا أن الخوارزمية سبقت الخطر بخطوة.

من استجابة الطوارئ... إلى طوارئ تتنبّأ بنفسها

ستّ دقائق... قد تبدو قصيرة، لكنها في لغة الطوارئ تُعادل عمراً كاملاً.

لطالما كانت أقسام الطوارئ ساحات «ردّ فعل». يدخل المريض، فتبدأ عملية الفرز، ثم الفحص، ثم العلاج. لكن الذكاء الاصطناعي يغيّر قواعد اللعبة:الطوارئ لم تعد تنتظر الخطر... بل تتوقّعه.

وأظهر البحث أنّ النظام قادر على:

• التنبؤ بنوبة الربو قبل تفاقمها بـ15 دقيقة

• رصد انخفاض ضغط الدم قبل الوصول إلى مرحلة الصدمة

• اكتشاف تدهور التنفّس لدى مرضى الالتهاب الرئوي بدقّة أعلى من الطبيب بنسبة 30 في المائة

ليس لأن الطبيب أقل مهارة، بل لأن العقل البشري محدود بالزمن والانتباه، بينما الخوارزمية تمتلك انتباهاً لا ينام.

الذكاء الاصطناعي لا يهدف إلى إقصاء الطبيب... بل حمايته

يشير تقرير صادر عن «هارفارد غازيت» (Harvard Gazette – الجريدة الرسمية لجامعة هارفارد) عام 2025 إلى أن معظم الأخطاء في أقسام الطوارئ لا تنبع من نقص المعرفة الطبية، بل من تزاحم القرارات في اللحظات الحرجة.

فالطبيب يمتلك الخبرة، لكنه يواجه في الثانية الواحدة عشرات الإشارات المتغيّرة التي تتطلب قراراً فورياً. وحين تتدفق البيانات بلا توقف، يصبح الذكاء الاصطناعي — كما وصفه باحثو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «عيناً ثالثة لا تتعب، وأذناً لا تغفل، وذاكرة لا تنسى».

تجربة ميدانية تغيّر قواعد اللعبة

في تجربة سريرية داخل وحدة طوارئ ذكي تضم 24 سريراً في «عيادة مايو» (Mayo Clinic)، حقق النظام نتائج لافتة:

• انخفاض حالات التدهور المفاجئ بنسبة 22 في المائة

• تسريع الاستجابة لنداء «الإنعاش القلبي الرئوي» (Code Blue) بمقدار 18 ثانية

• تقليل الحاجة إلى الإنعاش الكامل بنسبة 12 في المائة

• ارتفاع دقة تقدير خطورة الحالة من 78 في المائة إلى 92 في المائة

ومن أصل 126 حالة انهيار قلبي محتمل، نجحت الخوارزمية في اكتشاف 119 حالة قبل وقوعها.

مستقبل غرف الطوارئ: نظام ذكي يستيقظ قبل أن يستيقظ الألم

يتصوّر الفريق البحثي بيئة طوارئ مختلفة جذرياً:

• شبكة استشعار ذكية تراقب المرضى لحظة بلحظة

• لوحة توقّعات آنية تُعيد ترتيب أولويات العلاج

• مساعد معرفي رقمي يراجع الأدوية والتداخلات

• إنذار مبكر يخفّض 30 – 40 في المائة من حالات التدهور الحاد

فرصة ذهبية للشرق الأوسط

تُظهر البنى الرقمية المتسارعة في المملكة العربية السعودية، من الملفات الصحية الموحّدة، إلى سحابة الصحة الوطنية، ومشاريع الذكاء الاصطناعي السيادية، أن المنطقة لا تلاحق المستقبل... بل تتهيأ لصناعته. فهنا تتوافر الشروط لبناء أول نظام عربي متكامل للطوارئ الذكية، نظام لا ينتظر الخطر حتى يقع، بل يرصده وهو في طريقه إلى الظهور.

حين ينتصر الطب على الزمن

يكتب فريق البحث في ختام دراسته: «الذكاء الاصطناعي لا يمنع الموت... لكنه يمنح الحياة وقتاً أطول». وفي غرف الطوارئ، حيث تُقاس القرارات بالثواني، وحيث يفصل الخطأ الواحد بين النجاة والفقد، يصبح هذا الوقت الإضافي أثمن ما يمكن تقديمه للمريض.

وحين يتخذ الذكاء الاصطناعي قراراً قبل ستّ ثوانٍ من انهيار الجسد، فإنه لا يحلّ محل الطبيب، ولا يسلبه إنسانيته، بل يحميه من قسوة الزمن... ويمنحه فرصة أن يفعل ما يجيده أكثر من أي خوارزمية: إنقاذ حياة إنسان ينتظره من يحبّ.


قطرات العين... بدلاً من نظارات القراءة

قطرات العين... بدلاً من نظارات القراءة
TT

قطرات العين... بدلاً من نظارات القراءة

قطرات العين... بدلاً من نظارات القراءة

القراءة، الخياطة، مطالعة هاتفك الذكي؛ بمرور الوقت تزداد هذه الأنشطة وغيرها صعوبة عندما تتراجع قدرتك على الرؤية عن قرب في منتصف العمر. ويطلق على هذه الحالة طول النظر الشيخوخي، حالة تصيبنا جميعاً، ويمكن علاجها بسهولة بارتداء نظارات القراءة، من تلك التي تُصرف دون وصفة طبية، أو النظارات الطبية، أو العدسات اللاصقة.

اليوم، يتوفر خيار آخر، وهي «قطرات العين الطبية»، للمساعدة على تحسين الرؤية الضبابية عن قرب.

إليك ما تحتاج إلى معرفته حول «طول النظر الشيخوخي» (presbyopia) والأدوية الجديدة المتاحة لعلاجه.

قطرات عين جديدة

- لماذا نفقد الرؤية عن قرب؟ تعتمد قدرتنا على التركيز على الأشياء القريبة أو البعيدة، على عدسة العين. ونظراً لأن العدسة لينة ومرنة، فإن هذا يتيح لها تغيير شكلها، وثني الضوء بطرق معينة على شبكية العين؛ النسيج الموجود في الجزء الخلفي من العين الذي يرسل إشارات الضوء إلى الدماغ.

ومع تقدمنا في العمر، تتضاءل مرونة العدسة. وهنا، أوضح الدكتور ماثيو غاردينر، طبيب العيون ومساعد رئيس الشؤون السريرية في مستشفى ماساتشوستس للعين والأذن، التابع لجامعة هارفارد: «بعد سن الخامسة والأربعين، تزداد عدسة العين صلابة، ولا تستطيع تغيير شكلها لاستيعاب الأجسام القريبة من العين. والنتيجة العجز عن رؤية الأشياء عن قرب بوضوح».

- قطرات العين للرؤية عن قرب: حديثاً، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية على كثير من أدوية العين الموصوفة طبياً التي تساعد في تخفيف حدة حالة طول النظر الشيخوخي مؤقتاً. وتتضمن قطرات العين «هيدروكلوريد بيلوكاربين» pilocarpine hydrochloride (Vuity, Qolsi)، و«أسيكليدين» (VIZZ) aceclidine.

تلتف هذه الأدوية على مشكلة تصلب عدسة العين، عبر تحفيز أجزاء أخرى من العين للمساعدة في تركيز الضوء بشكل أكثر وضوحاً. هنا، قال الدكتور غاردينر: «تعمل قطرات العين على شد العضلة العاصرة للقزحية، ما يؤدي إلى انكماش الحدقة في مركز العين، الأمر الذي يتيح دخول كمية أقل من الضوء. ويسمى هذا بتأثير الثقب الدبوسي pinhole effect (مثل النظر المركز من خلال ثقب دبوس)، ويشبه عملية التحديق المركز».

- استخدام القطرات. لقطرات العين جدول جرعات مرن، يمكنك استخدامه يومياً أو كلما رغبتَ في الاستغناء عن النظارات. وشرح الدكتور غاردينر: «الغرض منها الشعور بالراحة فقط. يمكنك استخدامها عدة أيام متتالية، ثم العودة إلى نظارتك، أو استخدام قطرات العين في المناسبات الخاصة. لا مشكلة في التبديل بينها».

تُوضع قطرات «بيلوكاربين» (Pilocarpine) في العين مرة أو مرتين يومياً، ويستمر مفعولها حتى 8 ساعات، حسب المنتج الذي يصفه الطبيب. أما قطرات «أسيكليدين» (Aceclidine) فتُوضع مرة واحدة فقط يومياً، ويستمر مفعولها نحو 10 ساعات.

ويستغرق الأمر نحو 30 دقيقة حتى يبدأ مفعول قطرات العين.

المخاطر والاعتبارات

- المخاطر: مثل أي دواء، قد يكون لقطرات العين المخصصة لطول النظر الشيخوخي آثار جانبية محتملة. وقد تتضمن هذه الآثار عدم وضوح الرؤية، والصداع، وضعف الرؤية. هنا، شرح الدكتور غاردينر: «بالنظر إلى أن حدقة العين تضيق ولا يدخل قدر كافٍ من الضوء إلى العينين، فقد تبدو الأشياء باهتة أو داكنة. لذلك، في بيئة شديدة الظلام، مثل القيادة ليلاً، ربما تواجه صعوبة أكبر في التنقل».

في حالات نادرة، يُصاب الأشخاص الذين يتناولون «بيلوكاربين» بتمزق أو انفصال في الشبكية، ما قد يؤدي إلى الإصابة بالعمى. لم تُسجل أي حالات تمزق أو انفصال في الشبكية في دراسات (لم تُنشر بعد) أجريت على قطرات العين «الأسيكليدين» لعلاج طول النظر الشيخوخي. ومع ذلك، يُحذر ملصق الدواء من هذا الخطر.

- الاعتبارات: ينبغي الانتباه إلى أن قطرات العين لتحسين الرؤية عن قرب لا تناسب الجميع. وعن ذلك، قال الدكتور غاردينر إنه قد ينصح الطبيب بالتوقف عن استخدامها، إذا كان لديك تاريخ عائلي قوي لانفصال الشبكية، أو إذا كنت تعاني من قصر نظر شديد، أو إذا كنت تعاني من حالة تُسمى التهاب القزحية (iritis).

ومن بين الأمور الأخرى الواجب مراعاتها: التكلفة. بوجه عام، تُعتبر قطرات العين تجميلية، ولا يغطيها التأمين، وتصل أسعارها إلى 80 دولاراً أميركياً لجرعة شهرية واحدة.

إلا أنه إن كنت ترغب في الراحة، وإذا سمحت ميزانيتك بذلك، فقد تُفكر في تجربة قطرات العين. وهنا، أوضح الدكتور غاردينر: «لن تعمل هذه الأدوية على استعادة قدرتك على الرؤية القريبة بشكل دائم، ولكنها قد تقلل من اعتمادك على نظارات القراءة في أثناء استخدامها».

* رسالة هارفارد الصحية، خدمات «تريبيون ميديا».