ثقافتنا على المحك

كثير من النخب غير قادرة على التخلي عن الموروث الفكري الخارجي

TT

ثقافتنا على المحك

إننا أمام ظاهرة تنامي «صورة نمطية» سلبية ممتدة، تزامنت مع الحركات الاستعمارية، وتساهم في تقييم ثقافتنا وطريقة حياتنا بشكل غير موضوعي، ارتباطاً برؤيتها لمجتمعاتهم وتطوراتها على مر التاريخ، أوصلنا اليوم لأن يكون حكم بعضنا نحن على تراثنا وفكرنا مرتبطاً ارتباطاً شديداً ومقارناً بوجهة نظر الغير فينا، لا سيما الغرب، حتى أصبحنا متأثرين برؤيتهم لنا، وبفكرهم وبنظرتهم إلينا.
وإذا كنا عالجنا مصادر هذه الرؤية النمطية في المقال السابق، فاليوم نتناول المشكلات المرتبطة بنا كمجتمعات مُستقبلة لهذه الرؤية السلبية، ضمن حركة العولمة الواسعة، ودورنا نحن لحماية ثقافتنا وثوابتها. فلو نظر إلينا آخرون بهذه الصورة النمطية السلبية استناداً على استدلال تحكمه «الشوفينية الثقافية والسياسية» أو ضعف المقاصد البحثية، فإننا ملومون بالقدر الأكبر، لعدم قدرتنا على حماية ثقافتنا من التآكل التدريجي والتسرب البطيء لهذه الرؤى إلينا. وهنا أشير صراحة إلى أن خطوط دفاعاتنا أصبحت مهتزة، وتحتاج إلى تنظيم للحفاظ على هويتنا، وذلك على النحو التالي:
أولاً: أن التعليم الذي هو الوعاء والوسيلة الأولى لنقل القيم الفكرية والثقافية والتراثية وترسيخها، مهتز بدرجات متفاوتة، وهذا الاهتزاز لعب دوره الأول في تشكك الأجيال الصاعدة في موروثها الثقافي والحضاري والتاريخي، فالأجيال الحالية لم تتجرع هذه القيم بالقدر الكافي، وإن تجرعتها فهي لم تُثبت في وجدانها بالقدر الكافي لأسباب مختلفة، سواء لضعف المناهج أو عدم مجاراتها للواقع الذي يعيشه الطالب، أو أن أدوات نقلها للأطفال والشباب باتت عقيمة أمام ثورة العلم والاتصالات. والأمثلة متعددة ولا مجال لحصرها، ولكن تحضرني تجربتي مع الشعر العربي على سبيل المثال، فالشعر العربي حتى قرن مضى كان رونق الثقافة العربية، لكونه ناقلاً للقيمة الثقافية بشكل لغوي وفني وبلاغي وموسيقي عظيم، أما اليوم فالشعر في تقهقر شديد لضعف الطلب عليه، وذلك لصالح وسائل أخرى بين الشباب، على رأسها «الراب» على سبيل المثال.
ثانياً: إن ثورة الاتصالات زادت، ليس فقط من وتيرة التواصل بين الشعوب والأمم، ولكنها بدأت أيضاً في التأثير المباشر على تحديد القيم الثقافية لمجتمعاتنا، وأنا هنا لست من المطالبين بالرقابة، فلقد ولى هذا العصر، ولكننا أمام اختبار أصعب، وهو ضرورة أن ترقى وسائل نقل قيمنا وحضارتنا إلى مستوى المنافسة الثقافية الدولية، وهو ما يضع على كاهل مؤسساتنا القائمة على هذا الأمر، سواء في التعليم أو الثقافة أو الفكر أهمية صياغة مضمون قيمنا نفسه، بوسائل أكثر انسيابية للتطور الحادث على المستوى الدولي. فاليوم أي شخص يمكن له أن يقرأ أي كاتب على الإنترنت، ومن ثم حتمية تطوير منظومة التواصل أو نقل هذه القيم. ويحضرني هنا لقاء موسع مع رئيسة دار نشر، شرحت لي جهدهم الكبير في استخدام وسائل الاتصال الحديثة والمحببة للأطفال «الأنيميشن» لنشر قيمنا الدينية والثقافية، ولكنها وسائل مكلفة وصعبة وتحتاج لتضافر مع دور للدولة.
ثالثاً: لا خلاف أيضاً على أن إحدى قاطرات الحضارة والثقافة العربية، إن لم تكن قاطرتها الأولى، وهو «الإسلام» يتعرض لحرب ممنهجة، ولا أبالغ إذا قلت إنه كمؤسسة يتعرض لحصار فكري وثقافي نابع من الحرب الفكرية التي شُنت على الأديان بصفة عامة، وعليه بصفة خاصة، وهو ما يحتاج منا لتطوير الخطاب الفكري والإعلامي، بما يتناسب وقيمة هذا الدين الحنيف، ومع ما يجري حوله في العالم، بعيداً بالطبع عن ثوابت العقيدة، فلا أبالغ إذا قلت إن انتشار الإسلام في مناسبات عدة يأتي بقوة الدفع الذاتي لقيمه، أكثر منه للخطاب المُستخدم منا كمسلمين.
رابعاً: إذا ما اتبعنا فرضية إدوارد سعيد، أن الاستعمار قد استخدم النخب العربية قبل التحرر لنشر صورته الذهنية السلبية والنمطية بشكل غير مباشر أو حتى مباشر، فإن هذه الظاهرة ممتدة بعد أن أخذت أشكالاً وأنماطاً جديدة، فكثير من النخب ومصادر الفكر والامتداد الثقافي لنا تتأثر بقيم الغير؛ خصوصاً الغربية، ولا بأس في ذلك، فـ«التهجين الثقافي» مطلوب في أركان وهوامش محددة؛ لأنه جزء من ديناميكية التطور البشري، ولكن كثيراً من النخب غير قادرة على التخلي عن الموروث الفكري الخارجي تحت شعار الحداثة. وقد أفرد ابن خلدون الفصل الثالث والعشرين لهذه الظاهرة، بعنوان «في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، وهو ما يحتاج لمراجعة فورية.
واقع الأمر أن القلق ينتابني كلما تذكرت مقولة المؤرخ العظيم ويل دورانت، بأن «أي حضارة لا تقهر من الخارج إلا إذا كانت قد دمرت نفسها من الداخل»، فالواقع أن خطوط دفاعاتنا الثقافية باتت مخترقة ومهتزة، وسيكون نتاج ذلك زحف التدمير التدريجي لشكل وقيم ثقافتنا مقابل الغير - خصوصاً الغربية - في المدى المتوسط، وهو ما يحتم علينا تنظيمها. وهنا نشير صراحة إلى أن الدور الأكبر والحاسم هو لمؤسسة الدولة بكل أفرعها، والحل هنا ليس في الدعوة للتمترس والانغلاق الثقافي، فهذا مستحيل، بالتالي يصبح الهدف المنشود هو الحفاظ النسبي على شكل الثقافة، وحماية جذورها وثوابتها من التخفيف أو التجفيف التدريجي عبر الأجيال، فصناعة الثقافة أخطر من أن تترك لقانون العرض والطلب والتيارات الدولية المؤثرة فيهما.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.