الولايات المتحدة وتأزم اليمين المتطرف

مع تصاعد الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب المحلي

مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
TT

الولايات المتحدة وتأزم اليمين المتطرف

مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي

لا تزال الولايات المتحدة ترزح تحت وطأة اليمين المتطرف، لا سيما مع تغير توجه عدد كبير في الدول الغربية لدعم التوجهات اليمينية، وخشية الرجل الأبيض من الانقراض، وزيادة عدد المهاجرين الذين يشكلون لدى البعض تهديداً وجودياً، نتيجة منافستهم لهم على الفرص الوظيفية، بالأخص مع ارتفاع نسبة البطالة، إضافة إلى تهديد القيم الغربية، من خلال دخول ثقافات مختلفة مثل الإسلام، وعدم تقبلهم لذلك. والمعني هنا ليس التوجه السياسي اليميني بشكل عام، وإنما اليمين المتطرف المفضي إلى خطاب كراهية وعداء شديد ضد الآخر، مما يؤدي إلى حدوث هجمات إرهابية ذات صلة باليمين المتطرف.
من الممكن وصف ما تعرضت له عضو الكونغرس الأميركي المسلمة إلهان عمر، من المزيد من التهديدات بالقتل، في أعقاب تغريده للرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالتأثير المباشر للقادة السياسيين على الرأي العام وتأجيجه. فقد هاجم ترمب إلهان، وأظهرها وهي تتحدث لمجموعة من المسلمين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ووصفها بأنها «خارجة عن السيطرة»، وقام بربط الأحداث الإرهابية بشخصها، من خلال دمج مقاطع لخطاباتها مع مقاطع للهجمات الإرهابية. كما اتهمت عدد من التغريدات الترمبية نائبات في الكونغرس من أصول عربية وأفريقية بأنهن يدعمن «القاعدة» وأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

التغريدات الترمبية
ورغم أن ذلك يسهم بشكلٍ غير مباشر في دعم أجندة القوميين البيض، فإن الرئيس الأميركي زعم في أكثر من موقف أن القوميين البيض لا يشكلون تهديداً فعلياً لأمن بلاده، حيث لا يزال هناك تصور على الصعيد الدولي بأن «الجهاديين»، والتنظيمات المتطرفة المرتبطة بأهداف دينية سياسية، هي ما يمثل التهديد الأكبر للغرب، بالأخص وأن الهجمات المرتبطة باليمين المتطرف تظهر في نطاق صغير عشوائي، مثل ما قام به سيزار سايوك من إرسال 13 طرداً مفخخاً لعدد من الشخصيات المنتمية للحزب الديمقراطي، مثل هيلاري كلينتون وباراك أوباما، وعدد من الإعلاميين المنتقدين للرئيس الأميركي، وذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 2018.

اليمين المتطرف
ما يعزز من صعود تيار اليمين المتطرف استمرار وتيرة وتوجهات الرئيس الأميركي الحالي، مثل مساعيه لمنع تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة، إذ يتسم المنتمون لليمين المتطرف بعدائهم الشديد نحو الأجانب، وعدم تقبل الأقليات والجماعات الإثنية المختلفة، والمعني هنا هو اليمين المتطرف، وليس التوجه السياسي اليميني بشكل عام، بل حين ينحو لاستخدام العنف من أجل الحفاظ على التقاليد أو القيم في مجتمع معين من اجتياح قيم وثقافات مختلفة. ويعلو صوت هذا التوتر في القارة الأوروبية على وجه الخصوص مع أزمتها مع الأعداد الكبيرة من المهاجرين، حيث يرى كثير من المنتمين لليمين المتطرف أن هناك اجتياحاً من قبل المهاجرين نحو القارة الأوروبية، مما يهدد من وجودهم، بالأخص مع وجود ثقافات مغايرة أو مختلفة، مثل الثقافة الإسلامية التي يجدها البعض مخالفة للأوروبية، وقد تصاعدت «الإسلاموفوبيا» على وجه الخصوص في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وتأصلت المخاوف تجاهه في أعقاب تهديدات الجماعات المتطرفة مثل تنظيمي «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، منذ ظهوره في عام 2014، ومن ثم في مرحلة ما بعد انهيار وجوده في كل من العراق وسوريا، واتخاذه استراتيجيات بديلة، أبرزها سياسة «الذئاب المنفردة» التي تستهدف عدداً من الدول الغربية بهجمات إرهابية عشوائية، بهدف تأصيل الذعر وإثبات استمراريتهم، مما عزّز من ذلك القلق والتخوف من المسلمين والمهاجرين في كثير من الدول الغربية.
من جهة أخرى، يأتي ارتفاع نسبة البطالة ليزيد اللوم على المهاجرين نتيجة مشاطرتهم التنافس على الوظائف المحدودة في دولهم، مثل ربط رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني ماري لوبان في فرنسا بين زيادة نسبة المهاجرين ونسبة البطالة في فرنسا.

تصاعد خطاب الكراهية
أشار مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، أخيراً أمام لجنة في الكونغرس إلى أن الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب المحلي في تصاعد، لا سيما تلك المرتبطة بالفوقيين البيض، وأن عدد هذه الاعتقالات وصل إلى مائة خلال هذا العام، وهو ما يزيد على عدد الاعتقالات لعام 2018 بأكمله. من جهة أخرى، وفي دراسة قام بها المركز الاستراتيجي والدراسات الدولية «سي إس آي إس» الأميركي، تطرقت الدراسة إلى أن الهجمات الإرهابية المرتبطة باليمين المتطرف تصاعدت في الفترة بين 2016 و2017 في الولايات المتحدة. كما أشار التقرير إلى أن الهجمات المرتبطة باليمين المتطرف تفوق تلك المرتكبة من التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وذلك منذ عام 2014. ولا يتوقف المحللون السياسيون عند ربط ظاهرة اليمين المتطرف بالرئيس ترمب فحسب، وإنما يعودون بأدراجها إلى ما قبل فترته، إبان صعود أوباما للحكم في الولايات المتحدة. ففي دراسة قام بها معهد دراسات السياسات الخارجية الهولندي، أشار كلينت واتس إلى أن اليمين المتطرف تزايد في أعقاب فوز باراك أوباما، كأول رئيس من أصول أفريقية للولايات المتحدة، حيث تصاعدت نظرية المؤامرة والتشكيك في جنسيته والدين الذي ينتمي إليه، مما زاد من ظهور الجماعات اليمينية المتطرفة. ورغم أن هذه الأحداث ليست بالجديدة، فإن السلطات الأميركية استمرت في مواجهتها الإرهاب بالتحديد من خلال توجيه الضربات للجماعات «الجهادية»، مثل «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، فيما لم تتم معالجة تصاعد الإرهاب المرتبط باليمين المتطرف.

مسلك «الذئاب المنفردة»
رغم أن التطرف اليميني يظهر بحد ذاته مغايراً للتطرف الديني، فإن الهجمات المتطرفة المرتبطة باليمين المتطرف تتشابه مع توجهات تنظيم داعش أخيراً، من دعم الذئاب المنفردة أو ظهور أفراد متأثرين بالفكر المتطرف وحملاته الإعلامية، ومن ثم ارتكاب عمليات إرهابية عشوائية أشبه بجرائم منفردة، مثل إطلاق النار على مصلين أو مناطق تجمع جماعات إثنية معينة، مثل حادثة بيتسبرغ في أكتوبر 2018، حين هجم سائق شاحنة أميركي، روبرت باورز، على الكنيس اليهودي، مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً. وذكر فيه أن اليهود هم «أبناء الشيطان»، وتبع ذلك حادثة إطلاق نار قرب معبد بمناسبة عيد الفصح في أبريل (نيسان) 2019، في مدينة سان دييغو الأميركية، وهو يصيح «الموت لكل اليهود».

اليمين البديل
مثل هذه الهجمات الإرهابية تأتي امتداداً لظهور حركات متطرفة، أحد أشهرها يدعى «اليمين البديل» الذي بدأت شعبيته بالاطراد في الولايات المتحدة، حيث تؤمن الحركة بتفوق العرق الأبيض، وتنحاز للبشرة البيضاء، وترفض المختلفين عنهم، سواء عرقياً أم دينياً، مثل اليهود والمسلمين أو السود أو ذوي الأصول اللاتينية، على شاكلة جماعات أخرى ظهرت في الولايات المتحدة من قبل، مثل النازيين الجدد والقوميين البيض وجماعة الكو كلوكس كلان التي ظهرت قديماً منذ عام 1865. وقد بدأت أنشطتها في معاداة السود، ثم وسعت نطاق هجومها ليشمل الأعراق والأديان المغايرة للبيض المسيحيين، ويظهر تأثر جماعة «الآلت رايت» بالحركات القديمة، مثل استخدامهم لشعلات نار في أثناء التجمعات، على شاكلة ما كانت تقوم به جماعة الكو كلوكس كلان. أحد أهم الشخصيات المؤسسة لليمين البديل الأميركي ريتشارد سبنسر الذي أطلق هذا الاسم في عام 2008 ليصف بذلك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالمساواة أو التعدد الثقافي أو الهجرة المفتوحة للآخرين، يقول: «العرق هو أساس هويتنا». وهو أحد داعمي الحراك في شارلوتسفيل في عام 2017، الذي دفع بالحركة اليمينية إلى الواجهة. وقد كان يطلق عليها حركة الحقوق المدنية للبيض، كما أنه طالب بمعيشة البيض بعيداً عن اليهود أو العرب أو السود، الأمر الذي يؤكد تنامي ظاهرة الإكزينوفوبيا أو رهاب الأجانب الذي يتسم بالكراهية وعدم الثقة بمن يختلف، سواء في العرق أو اللون أو الدين أو الجنس، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في كثير من الدول الغربية.

الاستبدال الكبير
إحدى أهم النظريات التي استلهم منها كثير من المتطرفين اليمينين نظرية الاستبدال الكبير التي ابتدعها الكاتب الفرنسي رونو كامو، أحد المؤثرين في هذا الفكر المتطرف، واقتبس من مقولات رونو كامو كثير من مرتكبي الهجمات الإرهابية، ومن ضمنهم مرتكب مجزرة مسجدي نيوزيلندا الأسترالي برينتون تارانت، إذ استشهد في البيان الذي نشره في أعقاب هجماته بمقولات تعنى بنظرية الاستبدال الكبير. وقد تمت إدانة رونو من خلال القضاء الفرنسي في عام 2014 بتهمة التحريض على الكراهية ضد المسلمين، حيث إن هذه النظرية تزعم أن ما يحدث هو استبدال الفرنسيين الأصليين بالمهاجرين، ووصفه للمهاجرين بأنهم «محاربون غزاة، هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي وحضارته، واستبدالهما بالإسلام».
ويشير كذلك في نظريته إلى الأوروبيين المسيحيين بشكل عام، ونظريته شبيهة بالنظرية النازية التي تدعو للتخلص من الأعراق غير الآرية، مثل ما حدث من قتلهم لليهود. إلا أن ما يحدث أخيراً بلا شك ينم عن تصاعد خطاب الكراهية والتوتر بين الثقافات المختلفة، بعيداً عن ذلك الحلم السابق بوجود «المواطنة المعولمة»، حيث يمكن للمرء التعامل مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته وموطنه، وذلك من خلال التنوع الثقافي، والقدرة على معالجة الفروقات دون حدوث صراعات.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟