الولايات المتحدة وتأزم اليمين المتطرف

مع تصاعد الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب المحلي

مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
TT

الولايات المتحدة وتأزم اليمين المتطرف

مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي

لا تزال الولايات المتحدة ترزح تحت وطأة اليمين المتطرف، لا سيما مع تغير توجه عدد كبير في الدول الغربية لدعم التوجهات اليمينية، وخشية الرجل الأبيض من الانقراض، وزيادة عدد المهاجرين الذين يشكلون لدى البعض تهديداً وجودياً، نتيجة منافستهم لهم على الفرص الوظيفية، بالأخص مع ارتفاع نسبة البطالة، إضافة إلى تهديد القيم الغربية، من خلال دخول ثقافات مختلفة مثل الإسلام، وعدم تقبلهم لذلك. والمعني هنا ليس التوجه السياسي اليميني بشكل عام، وإنما اليمين المتطرف المفضي إلى خطاب كراهية وعداء شديد ضد الآخر، مما يؤدي إلى حدوث هجمات إرهابية ذات صلة باليمين المتطرف.
من الممكن وصف ما تعرضت له عضو الكونغرس الأميركي المسلمة إلهان عمر، من المزيد من التهديدات بالقتل، في أعقاب تغريده للرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالتأثير المباشر للقادة السياسيين على الرأي العام وتأجيجه. فقد هاجم ترمب إلهان، وأظهرها وهي تتحدث لمجموعة من المسلمين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ووصفها بأنها «خارجة عن السيطرة»، وقام بربط الأحداث الإرهابية بشخصها، من خلال دمج مقاطع لخطاباتها مع مقاطع للهجمات الإرهابية. كما اتهمت عدد من التغريدات الترمبية نائبات في الكونغرس من أصول عربية وأفريقية بأنهن يدعمن «القاعدة» وأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

التغريدات الترمبية
ورغم أن ذلك يسهم بشكلٍ غير مباشر في دعم أجندة القوميين البيض، فإن الرئيس الأميركي زعم في أكثر من موقف أن القوميين البيض لا يشكلون تهديداً فعلياً لأمن بلاده، حيث لا يزال هناك تصور على الصعيد الدولي بأن «الجهاديين»، والتنظيمات المتطرفة المرتبطة بأهداف دينية سياسية، هي ما يمثل التهديد الأكبر للغرب، بالأخص وأن الهجمات المرتبطة باليمين المتطرف تظهر في نطاق صغير عشوائي، مثل ما قام به سيزار سايوك من إرسال 13 طرداً مفخخاً لعدد من الشخصيات المنتمية للحزب الديمقراطي، مثل هيلاري كلينتون وباراك أوباما، وعدد من الإعلاميين المنتقدين للرئيس الأميركي، وذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 2018.

اليمين المتطرف
ما يعزز من صعود تيار اليمين المتطرف استمرار وتيرة وتوجهات الرئيس الأميركي الحالي، مثل مساعيه لمنع تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة، إذ يتسم المنتمون لليمين المتطرف بعدائهم الشديد نحو الأجانب، وعدم تقبل الأقليات والجماعات الإثنية المختلفة، والمعني هنا هو اليمين المتطرف، وليس التوجه السياسي اليميني بشكل عام، بل حين ينحو لاستخدام العنف من أجل الحفاظ على التقاليد أو القيم في مجتمع معين من اجتياح قيم وثقافات مختلفة. ويعلو صوت هذا التوتر في القارة الأوروبية على وجه الخصوص مع أزمتها مع الأعداد الكبيرة من المهاجرين، حيث يرى كثير من المنتمين لليمين المتطرف أن هناك اجتياحاً من قبل المهاجرين نحو القارة الأوروبية، مما يهدد من وجودهم، بالأخص مع وجود ثقافات مغايرة أو مختلفة، مثل الثقافة الإسلامية التي يجدها البعض مخالفة للأوروبية، وقد تصاعدت «الإسلاموفوبيا» على وجه الخصوص في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وتأصلت المخاوف تجاهه في أعقاب تهديدات الجماعات المتطرفة مثل تنظيمي «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، منذ ظهوره في عام 2014، ومن ثم في مرحلة ما بعد انهيار وجوده في كل من العراق وسوريا، واتخاذه استراتيجيات بديلة، أبرزها سياسة «الذئاب المنفردة» التي تستهدف عدداً من الدول الغربية بهجمات إرهابية عشوائية، بهدف تأصيل الذعر وإثبات استمراريتهم، مما عزّز من ذلك القلق والتخوف من المسلمين والمهاجرين في كثير من الدول الغربية.
من جهة أخرى، يأتي ارتفاع نسبة البطالة ليزيد اللوم على المهاجرين نتيجة مشاطرتهم التنافس على الوظائف المحدودة في دولهم، مثل ربط رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني ماري لوبان في فرنسا بين زيادة نسبة المهاجرين ونسبة البطالة في فرنسا.

تصاعد خطاب الكراهية
أشار مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، أخيراً أمام لجنة في الكونغرس إلى أن الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب المحلي في تصاعد، لا سيما تلك المرتبطة بالفوقيين البيض، وأن عدد هذه الاعتقالات وصل إلى مائة خلال هذا العام، وهو ما يزيد على عدد الاعتقالات لعام 2018 بأكمله. من جهة أخرى، وفي دراسة قام بها المركز الاستراتيجي والدراسات الدولية «سي إس آي إس» الأميركي، تطرقت الدراسة إلى أن الهجمات الإرهابية المرتبطة باليمين المتطرف تصاعدت في الفترة بين 2016 و2017 في الولايات المتحدة. كما أشار التقرير إلى أن الهجمات المرتبطة باليمين المتطرف تفوق تلك المرتكبة من التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وذلك منذ عام 2014. ولا يتوقف المحللون السياسيون عند ربط ظاهرة اليمين المتطرف بالرئيس ترمب فحسب، وإنما يعودون بأدراجها إلى ما قبل فترته، إبان صعود أوباما للحكم في الولايات المتحدة. ففي دراسة قام بها معهد دراسات السياسات الخارجية الهولندي، أشار كلينت واتس إلى أن اليمين المتطرف تزايد في أعقاب فوز باراك أوباما، كأول رئيس من أصول أفريقية للولايات المتحدة، حيث تصاعدت نظرية المؤامرة والتشكيك في جنسيته والدين الذي ينتمي إليه، مما زاد من ظهور الجماعات اليمينية المتطرفة. ورغم أن هذه الأحداث ليست بالجديدة، فإن السلطات الأميركية استمرت في مواجهتها الإرهاب بالتحديد من خلال توجيه الضربات للجماعات «الجهادية»، مثل «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، فيما لم تتم معالجة تصاعد الإرهاب المرتبط باليمين المتطرف.

مسلك «الذئاب المنفردة»
رغم أن التطرف اليميني يظهر بحد ذاته مغايراً للتطرف الديني، فإن الهجمات المتطرفة المرتبطة باليمين المتطرف تتشابه مع توجهات تنظيم داعش أخيراً، من دعم الذئاب المنفردة أو ظهور أفراد متأثرين بالفكر المتطرف وحملاته الإعلامية، ومن ثم ارتكاب عمليات إرهابية عشوائية أشبه بجرائم منفردة، مثل إطلاق النار على مصلين أو مناطق تجمع جماعات إثنية معينة، مثل حادثة بيتسبرغ في أكتوبر 2018، حين هجم سائق شاحنة أميركي، روبرت باورز، على الكنيس اليهودي، مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً. وذكر فيه أن اليهود هم «أبناء الشيطان»، وتبع ذلك حادثة إطلاق نار قرب معبد بمناسبة عيد الفصح في أبريل (نيسان) 2019، في مدينة سان دييغو الأميركية، وهو يصيح «الموت لكل اليهود».

اليمين البديل
مثل هذه الهجمات الإرهابية تأتي امتداداً لظهور حركات متطرفة، أحد أشهرها يدعى «اليمين البديل» الذي بدأت شعبيته بالاطراد في الولايات المتحدة، حيث تؤمن الحركة بتفوق العرق الأبيض، وتنحاز للبشرة البيضاء، وترفض المختلفين عنهم، سواء عرقياً أم دينياً، مثل اليهود والمسلمين أو السود أو ذوي الأصول اللاتينية، على شاكلة جماعات أخرى ظهرت في الولايات المتحدة من قبل، مثل النازيين الجدد والقوميين البيض وجماعة الكو كلوكس كلان التي ظهرت قديماً منذ عام 1865. وقد بدأت أنشطتها في معاداة السود، ثم وسعت نطاق هجومها ليشمل الأعراق والأديان المغايرة للبيض المسيحيين، ويظهر تأثر جماعة «الآلت رايت» بالحركات القديمة، مثل استخدامهم لشعلات نار في أثناء التجمعات، على شاكلة ما كانت تقوم به جماعة الكو كلوكس كلان. أحد أهم الشخصيات المؤسسة لليمين البديل الأميركي ريتشارد سبنسر الذي أطلق هذا الاسم في عام 2008 ليصف بذلك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالمساواة أو التعدد الثقافي أو الهجرة المفتوحة للآخرين، يقول: «العرق هو أساس هويتنا». وهو أحد داعمي الحراك في شارلوتسفيل في عام 2017، الذي دفع بالحركة اليمينية إلى الواجهة. وقد كان يطلق عليها حركة الحقوق المدنية للبيض، كما أنه طالب بمعيشة البيض بعيداً عن اليهود أو العرب أو السود، الأمر الذي يؤكد تنامي ظاهرة الإكزينوفوبيا أو رهاب الأجانب الذي يتسم بالكراهية وعدم الثقة بمن يختلف، سواء في العرق أو اللون أو الدين أو الجنس، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في كثير من الدول الغربية.

الاستبدال الكبير
إحدى أهم النظريات التي استلهم منها كثير من المتطرفين اليمينين نظرية الاستبدال الكبير التي ابتدعها الكاتب الفرنسي رونو كامو، أحد المؤثرين في هذا الفكر المتطرف، واقتبس من مقولات رونو كامو كثير من مرتكبي الهجمات الإرهابية، ومن ضمنهم مرتكب مجزرة مسجدي نيوزيلندا الأسترالي برينتون تارانت، إذ استشهد في البيان الذي نشره في أعقاب هجماته بمقولات تعنى بنظرية الاستبدال الكبير. وقد تمت إدانة رونو من خلال القضاء الفرنسي في عام 2014 بتهمة التحريض على الكراهية ضد المسلمين، حيث إن هذه النظرية تزعم أن ما يحدث هو استبدال الفرنسيين الأصليين بالمهاجرين، ووصفه للمهاجرين بأنهم «محاربون غزاة، هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي وحضارته، واستبدالهما بالإسلام».
ويشير كذلك في نظريته إلى الأوروبيين المسيحيين بشكل عام، ونظريته شبيهة بالنظرية النازية التي تدعو للتخلص من الأعراق غير الآرية، مثل ما حدث من قتلهم لليهود. إلا أن ما يحدث أخيراً بلا شك ينم عن تصاعد خطاب الكراهية والتوتر بين الثقافات المختلفة، بعيداً عن ذلك الحلم السابق بوجود «المواطنة المعولمة»، حيث يمكن للمرء التعامل مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته وموطنه، وذلك من خلال التنوع الثقافي، والقدرة على معالجة الفروقات دون حدوث صراعات.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.