الولايات المتحدة وتأزم اليمين المتطرف

مع تصاعد الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب المحلي

مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
TT

الولايات المتحدة وتأزم اليمين المتطرف

مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي
مظاهرات أميركية ضد تصاعد مد اليمين المتطرف و«الإسلاموفوبيا» في نيويورك مارس الماضي

لا تزال الولايات المتحدة ترزح تحت وطأة اليمين المتطرف، لا سيما مع تغير توجه عدد كبير في الدول الغربية لدعم التوجهات اليمينية، وخشية الرجل الأبيض من الانقراض، وزيادة عدد المهاجرين الذين يشكلون لدى البعض تهديداً وجودياً، نتيجة منافستهم لهم على الفرص الوظيفية، بالأخص مع ارتفاع نسبة البطالة، إضافة إلى تهديد القيم الغربية، من خلال دخول ثقافات مختلفة مثل الإسلام، وعدم تقبلهم لذلك. والمعني هنا ليس التوجه السياسي اليميني بشكل عام، وإنما اليمين المتطرف المفضي إلى خطاب كراهية وعداء شديد ضد الآخر، مما يؤدي إلى حدوث هجمات إرهابية ذات صلة باليمين المتطرف.
من الممكن وصف ما تعرضت له عضو الكونغرس الأميركي المسلمة إلهان عمر، من المزيد من التهديدات بالقتل، في أعقاب تغريده للرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالتأثير المباشر للقادة السياسيين على الرأي العام وتأجيجه. فقد هاجم ترمب إلهان، وأظهرها وهي تتحدث لمجموعة من المسلمين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ووصفها بأنها «خارجة عن السيطرة»، وقام بربط الأحداث الإرهابية بشخصها، من خلال دمج مقاطع لخطاباتها مع مقاطع للهجمات الإرهابية. كما اتهمت عدد من التغريدات الترمبية نائبات في الكونغرس من أصول عربية وأفريقية بأنهن يدعمن «القاعدة» وأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

التغريدات الترمبية
ورغم أن ذلك يسهم بشكلٍ غير مباشر في دعم أجندة القوميين البيض، فإن الرئيس الأميركي زعم في أكثر من موقف أن القوميين البيض لا يشكلون تهديداً فعلياً لأمن بلاده، حيث لا يزال هناك تصور على الصعيد الدولي بأن «الجهاديين»، والتنظيمات المتطرفة المرتبطة بأهداف دينية سياسية، هي ما يمثل التهديد الأكبر للغرب، بالأخص وأن الهجمات المرتبطة باليمين المتطرف تظهر في نطاق صغير عشوائي، مثل ما قام به سيزار سايوك من إرسال 13 طرداً مفخخاً لعدد من الشخصيات المنتمية للحزب الديمقراطي، مثل هيلاري كلينتون وباراك أوباما، وعدد من الإعلاميين المنتقدين للرئيس الأميركي، وذلك في أكتوبر (تشرين الأول) 2018.

اليمين المتطرف
ما يعزز من صعود تيار اليمين المتطرف استمرار وتيرة وتوجهات الرئيس الأميركي الحالي، مثل مساعيه لمنع تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة، إذ يتسم المنتمون لليمين المتطرف بعدائهم الشديد نحو الأجانب، وعدم تقبل الأقليات والجماعات الإثنية المختلفة، والمعني هنا هو اليمين المتطرف، وليس التوجه السياسي اليميني بشكل عام، بل حين ينحو لاستخدام العنف من أجل الحفاظ على التقاليد أو القيم في مجتمع معين من اجتياح قيم وثقافات مختلفة. ويعلو صوت هذا التوتر في القارة الأوروبية على وجه الخصوص مع أزمتها مع الأعداد الكبيرة من المهاجرين، حيث يرى كثير من المنتمين لليمين المتطرف أن هناك اجتياحاً من قبل المهاجرين نحو القارة الأوروبية، مما يهدد من وجودهم، بالأخص مع وجود ثقافات مغايرة أو مختلفة، مثل الثقافة الإسلامية التي يجدها البعض مخالفة للأوروبية، وقد تصاعدت «الإسلاموفوبيا» على وجه الخصوص في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وتأصلت المخاوف تجاهه في أعقاب تهديدات الجماعات المتطرفة مثل تنظيمي «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، منذ ظهوره في عام 2014، ومن ثم في مرحلة ما بعد انهيار وجوده في كل من العراق وسوريا، واتخاذه استراتيجيات بديلة، أبرزها سياسة «الذئاب المنفردة» التي تستهدف عدداً من الدول الغربية بهجمات إرهابية عشوائية، بهدف تأصيل الذعر وإثبات استمراريتهم، مما عزّز من ذلك القلق والتخوف من المسلمين والمهاجرين في كثير من الدول الغربية.
من جهة أخرى، يأتي ارتفاع نسبة البطالة ليزيد اللوم على المهاجرين نتيجة مشاطرتهم التنافس على الوظائف المحدودة في دولهم، مثل ربط رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني ماري لوبان في فرنسا بين زيادة نسبة المهاجرين ونسبة البطالة في فرنسا.

تصاعد خطاب الكراهية
أشار مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، أخيراً أمام لجنة في الكونغرس إلى أن الاعتقالات المرتبطة بالإرهاب المحلي في تصاعد، لا سيما تلك المرتبطة بالفوقيين البيض، وأن عدد هذه الاعتقالات وصل إلى مائة خلال هذا العام، وهو ما يزيد على عدد الاعتقالات لعام 2018 بأكمله. من جهة أخرى، وفي دراسة قام بها المركز الاستراتيجي والدراسات الدولية «سي إس آي إس» الأميركي، تطرقت الدراسة إلى أن الهجمات الإرهابية المرتبطة باليمين المتطرف تصاعدت في الفترة بين 2016 و2017 في الولايات المتحدة. كما أشار التقرير إلى أن الهجمات المرتبطة باليمين المتطرف تفوق تلك المرتكبة من التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وذلك منذ عام 2014. ولا يتوقف المحللون السياسيون عند ربط ظاهرة اليمين المتطرف بالرئيس ترمب فحسب، وإنما يعودون بأدراجها إلى ما قبل فترته، إبان صعود أوباما للحكم في الولايات المتحدة. ففي دراسة قام بها معهد دراسات السياسات الخارجية الهولندي، أشار كلينت واتس إلى أن اليمين المتطرف تزايد في أعقاب فوز باراك أوباما، كأول رئيس من أصول أفريقية للولايات المتحدة، حيث تصاعدت نظرية المؤامرة والتشكيك في جنسيته والدين الذي ينتمي إليه، مما زاد من ظهور الجماعات اليمينية المتطرفة. ورغم أن هذه الأحداث ليست بالجديدة، فإن السلطات الأميركية استمرت في مواجهتها الإرهاب بالتحديد من خلال توجيه الضربات للجماعات «الجهادية»، مثل «القاعدة» و«داعش» فيما بعد، فيما لم تتم معالجة تصاعد الإرهاب المرتبط باليمين المتطرف.

مسلك «الذئاب المنفردة»
رغم أن التطرف اليميني يظهر بحد ذاته مغايراً للتطرف الديني، فإن الهجمات المتطرفة المرتبطة باليمين المتطرف تتشابه مع توجهات تنظيم داعش أخيراً، من دعم الذئاب المنفردة أو ظهور أفراد متأثرين بالفكر المتطرف وحملاته الإعلامية، ومن ثم ارتكاب عمليات إرهابية عشوائية أشبه بجرائم منفردة، مثل إطلاق النار على مصلين أو مناطق تجمع جماعات إثنية معينة، مثل حادثة بيتسبرغ في أكتوبر 2018، حين هجم سائق شاحنة أميركي، روبرت باورز، على الكنيس اليهودي، مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً. وذكر فيه أن اليهود هم «أبناء الشيطان»، وتبع ذلك حادثة إطلاق نار قرب معبد بمناسبة عيد الفصح في أبريل (نيسان) 2019، في مدينة سان دييغو الأميركية، وهو يصيح «الموت لكل اليهود».

اليمين البديل
مثل هذه الهجمات الإرهابية تأتي امتداداً لظهور حركات متطرفة، أحد أشهرها يدعى «اليمين البديل» الذي بدأت شعبيته بالاطراد في الولايات المتحدة، حيث تؤمن الحركة بتفوق العرق الأبيض، وتنحاز للبشرة البيضاء، وترفض المختلفين عنهم، سواء عرقياً أم دينياً، مثل اليهود والمسلمين أو السود أو ذوي الأصول اللاتينية، على شاكلة جماعات أخرى ظهرت في الولايات المتحدة من قبل، مثل النازيين الجدد والقوميين البيض وجماعة الكو كلوكس كلان التي ظهرت قديماً منذ عام 1865. وقد بدأت أنشطتها في معاداة السود، ثم وسعت نطاق هجومها ليشمل الأعراق والأديان المغايرة للبيض المسيحيين، ويظهر تأثر جماعة «الآلت رايت» بالحركات القديمة، مثل استخدامهم لشعلات نار في أثناء التجمعات، على شاكلة ما كانت تقوم به جماعة الكو كلوكس كلان. أحد أهم الشخصيات المؤسسة لليمين البديل الأميركي ريتشارد سبنسر الذي أطلق هذا الاسم في عام 2008 ليصف بذلك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالمساواة أو التعدد الثقافي أو الهجرة المفتوحة للآخرين، يقول: «العرق هو أساس هويتنا». وهو أحد داعمي الحراك في شارلوتسفيل في عام 2017، الذي دفع بالحركة اليمينية إلى الواجهة. وقد كان يطلق عليها حركة الحقوق المدنية للبيض، كما أنه طالب بمعيشة البيض بعيداً عن اليهود أو العرب أو السود، الأمر الذي يؤكد تنامي ظاهرة الإكزينوفوبيا أو رهاب الأجانب الذي يتسم بالكراهية وعدم الثقة بمن يختلف، سواء في العرق أو اللون أو الدين أو الجنس، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في كثير من الدول الغربية.

الاستبدال الكبير
إحدى أهم النظريات التي استلهم منها كثير من المتطرفين اليمينين نظرية الاستبدال الكبير التي ابتدعها الكاتب الفرنسي رونو كامو، أحد المؤثرين في هذا الفكر المتطرف، واقتبس من مقولات رونو كامو كثير من مرتكبي الهجمات الإرهابية، ومن ضمنهم مرتكب مجزرة مسجدي نيوزيلندا الأسترالي برينتون تارانت، إذ استشهد في البيان الذي نشره في أعقاب هجماته بمقولات تعنى بنظرية الاستبدال الكبير. وقد تمت إدانة رونو من خلال القضاء الفرنسي في عام 2014 بتهمة التحريض على الكراهية ضد المسلمين، حيث إن هذه النظرية تزعم أن ما يحدث هو استبدال الفرنسيين الأصليين بالمهاجرين، ووصفه للمهاجرين بأنهم «محاربون غزاة، هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي وحضارته، واستبدالهما بالإسلام».
ويشير كذلك في نظريته إلى الأوروبيين المسيحيين بشكل عام، ونظريته شبيهة بالنظرية النازية التي تدعو للتخلص من الأعراق غير الآرية، مثل ما حدث من قتلهم لليهود. إلا أن ما يحدث أخيراً بلا شك ينم عن تصاعد خطاب الكراهية والتوتر بين الثقافات المختلفة، بعيداً عن ذلك الحلم السابق بوجود «المواطنة المعولمة»، حيث يمكن للمرء التعامل مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته وموطنه، وذلك من خلال التنوع الثقافي، والقدرة على معالجة الفروقات دون حدوث صراعات.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.