حقائب سعيدة وأخرى تعيسة

عن مشاعر رفيقك الصامت

حقائب سعيدة وأخرى تعيسة
TT

حقائب سعيدة وأخرى تعيسة

حقائب سعيدة وأخرى تعيسة

يفتتح تولستوي روايته «آنا كارنينا» بعبارة: «جميع الأسر السعيدة تتشابه، لكن كل أسرة تعيسة فهي تعيسة على طريقتها». وقد صار افتراض تولستوي مثلاً ليس لمنطقيته، بل لجمال العبارة. وبوسعنا أن نستعير افتراضه لوصف رفيق السفر الصامت، فنقول: «في السعادة، لا تختلف حقيبة عن أخرى، لكن تعاسة الحقائب تتنوع».
حقيبة السائح، أي المسافر باختياره من أجل الاستمتاع يلفها ذلك الفرح الساذج، سواء كانت صندوقاً من الأبنوس المطعم بالجواهر أو كانت مخلاة من القماش الصناعي على الظهر. مشاعر الحزن، على العكس من ذلك، تأبى التعميم، وهذا ليس مجرد افتراض.
الحقيبة الحزينة الأولى التي رأيتها في طفولتي كانت حقيبة ميت، بالأحرى مخلاة مدماة لضابط عادت مع جثته من الحرب. بعد ذلك، عرفت أن الحروب ليست شرطاً لرؤية حقائب تزحف على سير الأمتعة بالمطار، مع صندوق القصدير الذي يحوي جثمان صاحبها، أو حقيبة ترجع وحيدة بعد دفن صاحبها في الغربة.
في رواية أريج جمال «أنا أروى يا مريم»، تحكي الراوية عن عودتها طفلة وحيدة بعد موت أبويها في حادث. لم تدرك تماماً طبيعة ما حدث إلا عندما وجدت في استقبالها بالمطار أقارب لم تعرفهم، وامتدت إليها يد أحدهم وأخذت عنها الحقيبة.
انتشار المصريين غرباً إلى ليبيا، وشرقاً إلى العراق ودول الخليج، تجربة أنتجت أدباً، لكن تغريبة المصريين إلى أوروبا عبر البحر، التي بدأت في تسعينات القرن العشرين، على درجة من القسوة لا يستطيع الأدب التعامل معها. وقد قمت بتحقيق عن ظاهرة الموت في عرض البحر في كتابي «العار من الضفتين».
يولد حلم السفر في قلب المراهق القروي بالذات، وأحياناً في قلوب ذويه، فيبدأ التفكير في رحلة شجاعة، يعززها الجهل بالبحر الذي يتصورونه ترعة.
حتى لو كانت الرحلة حلماً شخصياً مترعاً بآمال الثروة، لا تعيش الحقيبة الصغيرة الرخيصة سعادتها سوى أيام، حيث تتعرض للانكسار في مهاجع التجميع السرية.
تنحيف جسد المسافر لكي يصبح خفيفاً على الزورق المتهالك مسألة تحدث تلقائياً، بسبب شح الطعام خلال أيام وليالي الانتظار. أما تعليمات ما قبل الإبحار، فالحقيبة هي المعنية بها: لا بد أن تتقلص محتوياتها إلى الحد الأدنى اللازم للحياة؛ الماء والقليل من الطعام أولاً. وبعض هذه الحقائب يختفي مع صاحبه، وبعضها يعود دون صاحبه، أما المسافر الذي تُكتب له النجاة، فيحتفظ برفيقة الخوف إلى أن تتحسن أحواله، فيراها مثل ندبة في الجسد تُذكِّره بلحظات مؤلمة. يبتهج عندما يكتشف أن بوسعه التخلص منها. وعندما يعود بعد سنوات طويلة، سترافقه أكثر من حقيبة سعيدة.
كنا، نحن المصريين، رواداً في افتقاد الأمل، فررنا دون قتال، ثم تبعنا السوريون واليمنيون والسودانيون، في نزوح فوضوي وأكثر إيلاماً.
السفر من أجل العلاج تسميه منظمة السياحة العالمية «سياحة علاجية». ربما ينطبق المصطلح على سفر قلة من الموسرين، تسافر دون مخاطر جدية إلى منتجعات تدَّعي قدرتها على التصدي لزحف الزمن. هؤلاء ستصاحبهم حقائب سعيدة، فيها الملابس المتفاخرة ولباس السباحة المبتهج، وأدوات الزينة التي سيشترون المزيد منها في أثناء الرحلة.
أفترض أن حقيبة المسافر بمرض خطير لن تكون سعيدة على هذا النحو. غرفها الأكثر راحة ستكون لعلب الأدوية التي يجب أن يستمر في تعاطيها إلى أن يأمر الطبيب البعيد بخلاف ذلك، وهناك التقارير وصور الأشعة السابقة. وستنزوي الملابس الحزينة والقليلة في المتبقي من الفراغ دونما كرامة.
تلك الحقيبة مرشحة لحزن أكبر في رحلة العودة، وفي مصادفات سعيدة تتبدل المشاعر إلى فرح مطلق أو اطمئنان حذِر. تختفي الأدوية أو تتقلص مساحتها لصالح هدايا للآخرين ومشتريات لتدليل الذات.
قد تنطوي حقيبة المسن على بعض محتويات حقيبة المريض، من أدوية وأجهزة قياس، تضمها حقيبة العجائز باستسلام وفتور، بعد أن صارت جزءاً من الوجود.
عندما يتوقف الجسد عن الدوران حول لحم آخر خارجه، يبدأ في الانشداد إلى تلك العلب الكرتونية والبرطمانات الزجاجية التي تشبه شُهباً صغيرة معلقة في مجاله.
حقيبة عروس في شهر العسل تختلف عن حقيبة الأم المُرضعة؛ الحاجة إلى تأجيج شغف جسد آخر تجهله المرأة تماماً، أو تعرفه تحت ظرف مغاير يختلف عن سكينة السفر مع جزء من جسدها، حبه لها مضمون. مساحة الطفل لها الأولوية في الحقيبة: الببرونة، وعلبة الحليب الجاف، ومنظفات ومرطبات تلك الكتلة الطرية المتوهجة بالحياة. ملابس الصغير وحفاضاته قبل ملابسها، فأناقة هذا المُجسم الصغير تغني عن أناقتها. حمالة الصدر المنذورة للإغواء غير العملية التي تتيح سهولة الإرضاع، وتستوعب بلل الحليب الزائد.
أفترض أن قصص الحب السعيد وحقائبه لا تعني إلا أصحابها، فالأدب إنما يُخلِّد القصصَ الحزينة فحسب.
عندما أفكر بحقائب الحب، أتذكر «آنا كارنينا» و«إيما بوفاري». آنا التي عرفت الحقائب السعيدة في سفرها، عندما كانت خلية البال تسافر بين بطرسبرج مدينتها وموسكو حيث يُقيم شقيقها، ثم عرفت بعد ذلك حقيبة الانكسار والحزن، عندما تحيرت بين بيت زوج ممل وبيت عشيق لم يحتمل حزنها على ابنها الذي حُرمت منه، حتى ضاقت بها الحياة، فألقت بنفسها تحت عجلات القطار.
إيما بوفاري لم تسافر بعيداً، فقد عرفت عشيقين محليين، لكنها اشترت حقيبة ومعطفاً ثقيلاً من أجل الهرب بعيداً مع أحدهما. رودلف بولانجيه الذي تصورت معه حياة عريضة، ووضع معها تفاصيل خطة الهروب، كتب إليها رسالة قبل السفر بساعات يرفض فيها المغامرة، على طريقة «أحبك، لكنك لن تكوني سعيدة معي، تستحقين أفضل مني». تنصل رجالي لم يزل فاعلاً إلى اليوم، وأصبح مصدر تندر النساء على تجمعاتهن الإلكترونية المغلقة!
لكننا نصادف في الروايتين لوناً آخر من الحقائب الحزينة: حقيبتان كانتا تقاومان فتح قلبيهما للأمتعة.
رواية «آنا كارنينا» لا نشاهد آنا في البداية، بل شقيقها ستيفان أوبلونسكي الذي يستيقظ من النوم مفكراً في غضب زوجته داريا التي خانها مع مربية أطفالهما. يتوجه إلى غرفتها ليسترضيها، فيجدها واقفة أمام خزانة ملابسها، تلقي بمحتوياتها على السرير دون أن تجرؤ على وضعها في الحقيبة، حيث ظلت الحيرة تمزقها أياماً وليالي، بين بقائها في بيت واحد مع زوج خائن وبين الرحيل إلى بيت أسرتها، فأطفالها الخمسة صاروا ضائعين في بيت حزين تضرب الفوضى في جنباته، وسيكونون أكثر ضياعاً إذا ما أخذتهم بعيداً عن بيت أبيهم.
وفي رواية فلوبير «مدام بوفاري»، يتملك اليأس الشاب ليون كاتب المحامي، الذي يبادل إيما كتمان الحب، فيقرر السفر لاستكمال دراسته في باريس، لكنه ظل مدة طويلة يراكم صناديق وحقائب، ويحزم حزماً تكفي لرحلة حول العالم. كان في الواقع يستبطئ الرحيل.
لكنه سيرحل، وسيلتقطها من بعده رودلف، الذي لم يكن يختلف عن زوجها شارل بوفاري، إلا بجسارته في التعبير عن شهواته، وبعد أن يخذلها، يعود إليها ليون بعد أن تخلص من مراوغات الخجل، وتأكد أن ما كان يريده منها ليس أكثر مما أراده رودلف؛ لقاءات سرية مختلسة أفضت بها إلى الانتحار، بينما بقيت حقيبتها ومعطف سفرها الثقيل، ليُثقلا بثمنهما المؤجل كاهل الزوج المسكين!
- كاتب مصري



«لعبة النهاية»... رائعة صمويل بيكيت بالعاميّة المصرية

جانب من العرض الذي كتب نصّه صمويل بيكيت (مسرح الطليعة)
جانب من العرض الذي كتب نصّه صمويل بيكيت (مسرح الطليعة)
TT

«لعبة النهاية»... رائعة صمويل بيكيت بالعاميّة المصرية

جانب من العرض الذي كتب نصّه صمويل بيكيت (مسرح الطليعة)
جانب من العرض الذي كتب نصّه صمويل بيكيت (مسرح الطليعة)

استقبل مسرح «الطليعة» في مصر أحد العروض الشهيرة للكاتب الآيرلندي الراحل صمويل بيكيت (1906- 1989)، «لعبة النهاية»، الذي رغم احتفاظه بالروح الأصلية للعمل الشهير المنسوب إلى مسرح العبث، فقد شكَّل إضاءة على مشاعر الاغتراب في الواقع المعاصر. وهو عرضٌ اختتم مشاركته في مهرجان «أيام قرطاج المسرحي» ليُتاح للجمهور المصري في المسرح الكائن بمنطقة «العتبة» وسط القاهرة حتى بداية الأسبوع المقبل.

على مدار 50 دقيقة، يحضر الأبطال الـ4 على المسرح الذي يُوحي بأنه غُرفة منسيّة وموحشة، فيتوسّط البطل «هام» (محمود زكي) الخشبة جالساً على كرسيّه المتحرّك بعينين منطفئتين، في حين يساعده خادمه «كلوف» ويُمعن في طاعته والإصغاء إلى طلباته وتساؤلاته الغريبة التي يغلُب عليها الطابع الساخر والعبثيّ المُتكرّر عبر سنوات بين هذا السيّد والخادم.

يَظهر والد «هام» ووالدته داخل براميل قديمة وصدئة، ويجلسان طوال العرض بداخلها، ولا يخرجان إلا عندما يستدعيهما الابن الذي صار عجوزاً، فيسألهما أسئلة عبثية لا تخلو من تفاصيل عجيبة، ويخاطبهما كأنهما طفلين يُغريهما بالحلوى، في حين يبادلانه أحاديث تمتزج بالذكريات والجنون، ليبدو كأنهما خارج العالم المادي؛ محض أرواح مُحتضرة تُشارك «هام» هلوساته داخل تلك الغرفة.

الأب يؤدي دوره من داخل أحد البراميل (مسرح الطليعة)

في المعالجة التي يقدّمها العرض، يحتفظ المخرج المصري السيد قابيل بأسماء الأبطال الأجنبية التي كتبها صمويل بيكيت من دون منحها أسماء محلّية. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «قدَّم المسرح المصري هذه المسرحية قبل 60 عاماً تقريباً في عرض للفنان الكبير الراحل سعد أردش، لكنه كان باللغة العربية الفصحى. اليوم، عالجتُ النص وأقدّمه بالعامية المصرية. احتفظت بالأسماء الأصلية للأبطال وهوياتهم، وكذلك بروح العمل وتفاصيل الحوار فيه، خصوصاً أنّ لهذا العرض الذي ينتمي إلى مسرح العبث فلسفته التي تمسّكتُ بها ضمن قالب جديد».

يؤدّي دور الخادم «كلوف» الفنان المصري محمد صلاح الذي اعتمد جزءٌ كبير من أدائه على الإفراط بحركات سير متعرّجة في محاولاته المُتسارعة لتلبية طلبات سيّده الأعمى، إذ يبدو كأنه في مَهمّات لا نهائية، منها ترتيب البيت الخالي بشكل فانتازي. بالإضافة إلى تردّده الدائم على نافذة الغرفة التي يظّل سيّده يطلب منه وصف ما يدور خارجها، فيصف له الضوء والبحر اللذين لا يدرك إذا كانا موجودَيْن بالفعل أم محض خيال.

على مدار العرض، يظلُّ الخادم يسأل: «لماذا أطيعك في كل شيء؟»، و«متى جئتُ إلى هذا البيت لخدمتك؟»، فيكتشف أنه قضى عمره داخل جدرانه المخيفة، فيقرّر في خطوة خلاص مغادرة خدمة سيّده، فتكون لحظة فتحه باب البيت هي عينها لحظة نهاية اللعبة، حتى وإنْ ظلّ واقفاً أمامه، متوجّساً من الخروج إلى العالم الحقيقي ومواجهة المجهول. لحظة تحدّيه سيطرة سيّده «هام» سرعان ما تبدو كأنها لا تختلف عن «الفراغ» الذي أمامه، بما يعكس فلسفة صمويل بيكيت عن سخرية الحياة، حيث لا يبدو الهروب من عبثها ممكناً أبداً.

الأب والأم في أحد مَشاهد المسرحية (مسرح الطليعة)

يشير مخرج العرض السيد قابيل إلى أنّ «للقضية التي تطرحها المسرحية صيغة إنسانية عابرة للمكان والزمان، وتصلُح لتقديمها في أي وقت؛ وإنْ كُتب النصّ الأصلي لبيكيت في الخمسينات. فكثير من نصوص شكسبير، والنصوص اليونانية القديمة العائدة إلى ما قبل الميلاد، لا تزال قابلة لإعادة تقديمها، وصالحة لطرح أسئلة على جمهور اليوم. وفي هذا العرض أدخلنا بعض الإضافات على الإضاءة والموسيقى للتعبير بصورة أكبر عن دراما الأبطال، ومساعدة المتلقّي على مزيد من التفاعُل».

الفنان محمود زكي في مشهد من العرض (مسرح الطليعة)

وعكست ملابس الممثلين الرثّة حالة السواد التي تطغى على عالمهم، في حين وُظّفت الإضاءة في لحظات المُكاشفة الذاتية التي تتوسَّط سيل الحوارات الغارقة في السخرية والتكرار العدميّ والخضوع التام. فإذا كان السيّد الأعمى والمشلول يعتمد على خادمه في مواصلة لعبة عبثية يتسلّى بها في عزلته، فإنّ الخادم يظلُّ غير قادر على تصوُّر الحياة بعيداً عن قواعد تلك «اللعبة».