مغامرة الكتابة بين ثلاث مبدعات

هالة البدري تنسج خيوطها عبر «نساء في بيتي»

مغامرة الكتابة بين ثلاث مبدعات
TT

مغامرة الكتابة بين ثلاث مبدعات

مغامرة الكتابة بين ثلاث مبدعات

ما الذي تريده هالة البدري، في روايتها «نساء في بيتي»، من خلال استدعاء ثلاث مبدعات متباينات، من حيث النشأة والبيئة واللغة والزمن، تنحاز إليهن، وتنبش في سير حياتهن، بكل أنساقها العاطفية والنفسية والسياسة والاجتماعية، بل تحاورهن وتتبادل الرسائل معهن، وأيضاً مع بعض عشاقهن، بقوة الذاكرة والحلم، وكأنهن أصبحن جزءاً من عالمها الروائي؟ هل تبحث عن أفق جديد مغاير للكتابة، عن ملامح وعلامات وطاقات مخبوءة ومهمشة في طوايا تجربة الكاتبة نفسها وذاتها المبدعة؟ وهل يشكل هذا النبش مرآة موازية جمالياً ترى نفسها فيها؟ ثم ما هي نقاط التقاطع والتجاور التي تجمعهن، وتفرقهن أيضاً، في سقف لعبة تديرها الكاتبة بمحبة، وتعي ما يعتمل في نسيجها من نقص وإضافة، بل تحرض القارئ على أن يشاركها متعة شد خيوطها بين الحين والآخر؟
تحاول الكاتبة أن تجد مبرراً فنياً وعاطفياً لكل هذه التساؤلات في مستهل الرواية (ص 22)، متسائلة بضمير الأنا: «هل نحن واحد رغم كل المسافات والأبعاد والزمن؟ وهل من الضرورة أن نكون واحداً؟ (نحن) أوقع. بكل ما يحمل الضمير الجمعي من اتفاق واختلاف». ثم تمعن في التساؤل، متابعة بقولها: «لماذا لا أبدأ كتابة الرواية، وستجيب الأسئلة عن نفسها في رحلة المعرفة؛ معظم الروايات تبدأ بالضباب، ونتعرف معاً أنا والكتابة على الشخصيات والأماكن والمعنى. الأفضل إذن أن أكتبها مع القارئ، لنتابع معاً نموها».
أول مفردة هذا العقد الأنثوي المنتخب الشاعرة الروائية النمساوية «إنجبورج باخمان» التي ماتت محترقة عام 1972، عن عمر يناهز 47 عاماً، في كوخها بإيطاليا، وتقلبت حياتها بين عدد من الرجال، كان بينهم الموسيقي «هانز فيجل»، أول من آمن بموهبتها، ولحن لها أوبرا، وقدمها للأوساط الثقافية، لكنه كان مثلياً، ثم الشاعر اليهودي الألماني المضطهد من قبل النازي «باول سيلان» الذي تشير الرواية إلى أنه حبها الحقيقي المعذِّب الذي تفوق على أي رجل آخر في حياتها، والكاتب المسرحي ماكس فريش الذي عاشت معه تجربة عاطفية استمتعت فيها بمساحات التناقض والاختلاف بينهما... تجمع باخمان بالكاتبة الساردة رسالة ماجستير أعدتها باحثات بقسم اللغة الألمانية بالجامعة، عن روايتيهما «مالينا» و«امرأة ما»، رصدت فيها أوجه التشابه بين الروايتين، خصوصاً على مستوى اللغة، والعنف، ووحشية الحرب والحداثة، وأيضاً تطور الحدث الدرامي الذي انتهي بالقتل.
والثانية الرسامة التشكيلية الأميركية «جورجيا أوكيف» المولودة في ثمانينات القرن الثامن عشر، وهي فنانة تنتمي للمدرسة الطبيعية، اتخذت من الوردة رمزية فنية للرحم الأنثوي، وامتدت لوحاتها إلى عالم الصحراء بإيقاعه التجريدي اللانهائي، خلال رحلتها إلى المكسيك، وإقامتها لفترة في مزرعة خاصة، وفرت لها جواً من العزلة والسكينة، استطاعت في ظلالها معايشة أفقها الفني بروح صافية من شوائب النفس والحياة... ارتبطت «أوكيف» بعلاقة عاطفية ملتهبة مع المصور الفوتوغرافي الأميركي الشهير ألفريد ستجليتز، وتزوجته، وكان له الفضل في تعريف الأوساط الفنية بها في نيويورك، لكنه مع ذلك سجنها في برواز الأنثى الموديل، مستغلاً جسدها العاري في إنعاش عين الكاميرا، وتصويره من زوايا حساسة، وبمهارة فنية، حتى أنه أقام معرضاً خاصاً لهذه الصور أثار ضجة في الصحافة وفي الوسط الفني، لكنه ترك بقعة من الاستياء لم تفارق روحها، وسعت الشرخ العاطفي بينهما، بين امرأة محبة مخلصة للفن والحياة، وزوج بوهيمي يؤمن بالحرية إلى حد الفوضى في كل شيء، حتى في الزواج... وظل الأمر هكذا حتى رحلت عن عالمنا سنة 1986، عن 97 عاماً.
والثالثة قوت القلوب الدمرداشية التي انقلبت حياتها من أميرة إلى امرأة مطاردة، بعد رحيلها من مصر في أعقاب ثورة 23 يوليو، وماتت مقتولة على يد ابنها في روما عام 1968، إثر مشادة بينهما.
كتبت قوت القلوب باللغة الفرنسية، كعادة أبناء الطبقة الأرستقراطية آنذاك، وعرفت طريقها إلى عالم الإبداع وهي في الخامسة والأربعين، ونشرت لها دار «غاليمار» معظم أعمالها، وقدم الكاتب الفرنسي جان كوكتو روايتها «الخزانة الهندية» التي أصدرتها «غاليمار» عام 1940.
وفي روايتها «رمزة»، التي ترجمها دسوقي سعيد عن الألمانية، ونشرت ضمن سلسلة «دار الهلال»، تنحاز لحرية المرأة، وتمردها على الأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة، حتى تكون عضواً فاعلاً في المجتمع، وهو ما فعلته قوت القلوب حين اشترطت في زواجها أن تكون العصمة في يدها.
وعلى عكس سيرة «باخمان»، و«أوكيف»، لم تكشف الكاتبة في معرض نبشها لسيرة قوت القلوب عن فضاء خاص لعلاقة عاطفية جمعتها بالكاتب محمود أبو الفتح، اللهم مجرد إشارات عابرة لا توثق لشيء، وربما لذلك استطردت الكاتبة في وصف وضعها الاجتماعي، بوصفها أميرة تنتمي إلى أسرة تنحدر من سلالة أمراء المماليك الذين قدموا إلى مصر من القوقاز مع العثمانيين، والتحولات المجتمعية التي مرت بها الأسرة، حتى أصبحت هناك طريقة صوفية تعرف بالطريقة الدمرداشية.
هذا الترحال في سير هؤلاء المبدعات يشير ضمنياً إلى أن الكتابة رحلة في المعرفة، لكن هذه اللعبة الثرية الشغوفة بالتأمل فيما وراء الأشياء والعناصر، ومحاولة اكتشاف ما تخفيه في ظلالها من حقائق وأسرار... اتسعت في كثير من المناطق بلا مبرر فني، اللهم الاستطراد والتكرار، ما جعل السؤال معلقاً بين بداهة المعرفة وطزاجتها المربكة الموجعة في سير هؤلاء المبدعات، وتنقلاتهن بعفوية في براح المكان والمعني والزمن، وبين حالة من النمطية والتكرار تخيم على سيرة البطلة الكاتبة نفسها، وكأن هذا الاستدعاء ابن إرادة فنية واعية تحاول كسر هذه النمطية، أو على الأقل إخراج الصورة من أسر الإطار الضيق إلى براح الواقع الموّار بالرؤى ومغامرة الاختلاف، حتى مع الذات نفسها.
هي إذن محاولة للفهم والإدراك، وإعادة التأمل والقراءة، وفي الوقت نفسه دعوة إلى وضع تجربة الكتابة وفق كل هذه المعطيات على طاولة البحث من جديد، وهو ما تعود الكاتبة لتوكيده مجدداً على لسان الذات الساردة، وفي معرض تساؤل بعنوان «ما الذي يجمعنا؟»، قائلة (ص 189): «لماذا اخترت كلاً منهن بالذات، خصوصاً أن العناصر التي تجمعنا متوفرة عند عدد كبير من الكاتبات والفنانات الأخريات؟ ربما لمجرد الشعور بالقرب نفسياً، وهذا وحده كافٍ. أظن أيضاً أننا في حاجة لمن يحلل هذا الاختيار، عن طريق إخضاع حياتي وكتاباتي أنا وليس هن للتحليل والبحث»، ثم تستدرك لدرأ شبهة الإيثار والأنانية، قائلة: «لا، بل نحن جميعاً. لا بد من تحليل عناصر الحياة عند الجميع، لأني أولاً أعرف مئات الكاتبات، فلماذا وقع الاختيار على هؤلاء؟».
قد يختلف كثيرون حول دوافع ورافد هذا التحليل المنشود، ودوره في عملية اختيار الكاتبة لهؤلاء المبدعات، لكن في ظني ستظل الحياة العاطفية، بأفقها الحر العاري من كل كوابح المتعة والشهوة وحواجز المجتمع، معولاً أساسياً في هذا التحليل، وهو ما عاشته هؤلاء الكتابات بعصب عارٍ، حتى اللحظات الأخيرة من حياتهن.
مع ذلك، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بروح من الواقعية والتخيل معاً: ما هي الرواية إذن؟ بل ما هو الشكل الفني الجديد الذي تمخضت عنه هذه الرحلة من النبش المضني؟ وهل نحن إزاء رواية تبحث عن الرواية؟
إن الرواية، والفن عموماً، فعل ذاتي مفتوح على كل إمكانيات وحدوسات المعرفة الإنسانية، لكنه ليس محض تحقيق وبحث استقصائي يستحلب المشهد حتى آخر الشوط، من أجل التدليل على وقائع ومواقف سياسية وتاريخية معينة؛ الفن رؤية أعمق وأعلى، تتجاوز معايير الصدق والكذب المخادعة في هذا الوقائع، أيضاً سرد الواقعة روائياً هو في النهاية رؤية فنية خاصة لها.
ومن ثم، لا يهمني هنا أن أعرف موقف الصحافي محمود أبو الفتح من ثورة 23 يوليو 1952، ولا علاقته بجمال عبد الناصر، ولا هل كان وطنياً أم خائناً، أو أن الشيخ عبد الرحيم الدمرداش باشا، شيخ الطريقة الدمرداشية، هو من أنشأ في عام 1931 مستشفى الدمرداش، وغيرها من الوقائع الاجتماعية والسياسية التي تشكل حمولة زائدة في الرواية... ناهيك عن أنها لا تمثل علامة فارقة في التاريخ المصري، وأصبح معظمها متاحاً للقارئ على الإنترنت. ومن ثم، لا تعنيني، خصوصاً في سياق عمل روائي يبحث عن لحظات التمرد والثورة في نفوس هؤلاء الكاتبات، ويلتقطها بلغة سردية رائقة مشرّبة بروح الشعر، وسط عواصف حياتهن وتقلباتها المأساوية، وعلاقتهن العاطفية المتكسرة، بنوعية خاصة من الرجال، هم أيضاً مبدعون وفنانون متمردون، ينقسمون على أنفسهم في لحظة، ويتفقون في لحظات.
على المستوى الفني، اتخذت الكاتبة من جدلية السابق واللاحق محوراً لإدارة لعبتها الروائية، بين بطلاتها الثلاث: «ناهد» بطلة روايتها «امرأة ما»، و«أنا» بطلة رواية باخمان التي سمتها الكاتبة الساردة بهذا الاسم، و«رمزة» بطلة رواية قوت القلوب. وقد استطاعت عن طريق آلية الانعكاس أن تضع يدها على بؤرة سردية مشتركة بينها، كبطلة الرواية المركزية، وبين هؤلاء الشخوص، وتأمل ما ينعكس على ذاتها من ظلالهن عبر فوارق الزمن وتحولات الحياة، والتنقل بسلاسة فنية ولغوية، من الوعي المعرفي بالحالة إلى الوعي الإبداعي الذي ينهض على التفاعل الحي بين كل أطراف اللعبة، وكأن كل طرف هو صدى للآخر، أو ظل له.
لقد أدارت هالة البدري اللعبة باقتدار كمغامرة سردية شيقة، لكنها أخفقت في أن تجعل منها نواة لكتابة جديدة.



«كلب» من القرن الـ18 بمليونَي إسترليني

«الكلب الإسباني» (سوذبيز)
«الكلب الإسباني» (سوذبيز)
TT

«كلب» من القرن الـ18 بمليونَي إسترليني

«الكلب الإسباني» (سوذبيز)
«الكلب الإسباني» (سوذبيز)

لم يشاهد الجمهور لوحة «الكلب الإسباني» منذ عام 1972، عندما بِيعت بمبلغ 30 ألف جنيه إسترليني. ومن المقرَّر عرض هذه اللوحة الشهيرة لجورج ستابس، للبيع، في مزاد علني تنظّمه دار «سوذبيز» للمرّة الأولى منذ ذلك العام.

ووفق «الغارديان»، تُعرض اللوحة العائدة إلى القرن الـ18، للبيع بسعر يتراوح بين مليون و500 ألف، ومليونَي جنيه إسترليني؛ وقد بِيعت آخر مرّة في مزاد بمبلغ 30 ألف جنيه إسترليني عام 1972. وقبل ذلك، بِيعت بـ11 جنيهاً إسترلينياً عندما طُرحت بمزاد عام 1802.

يشتهر الفنان المولود في ليفربول، والراحل عن 81 عاماً عام 1806، بإنجازه أقل من 400 لوحة طوال حياته المهنية؛ وهو يُعرف برسم الحيوانات، خصوصاً الخيول.

وإذ يُعتقد أنّ لوحة «الكلب الإسباني» رُسمت بين 1766 و1768؛ وهي أقدم لوحة للكلاب أبدعها الفنان، يُعدُّ عقد ستينات القرن الـ18 غزير الإنتاج بمسيرة ستابس المهنية. ففيها أبدع بعض أشهر لوحاته، منها لوحة «ويسل جاكيت» المعروضة في المعرض الوطني.

اللافت أنّ لوحة «الكلب الإسباني» لم تُعرض رسمياً سوى مرّة واحدة فقط في لندن عام 1948، ضمن المعرض الوطني للرياضة والتسلية. أما المرّة الأخيرة التي أُتيحت للجمهور فرصة مشاهدتها، فكانت عام 1972 داخل دار «سوذبيز» للمزادات.

وشهد القرن الـ18 اهتماماً لافتاً بالكلاب في الثقافة البريطانية، بفضل تفاقُم شعبية الرياضات الميدانية، خصوصاً الرماية الشائعة بين النخب الثرية آنذاك.

في هذا الصدد، قال المتخصِّص في اللوحات البريطانية، المدير الأول بـ«سوذبيز»، جوليان جاسكوين: «الأمر مثيرٌ لعدة أسباب؛ أولاً لأنها لوحة مفقودة، إنْ رغبنا في استخدام وصف درامي، منذ السبعينات».

وأضاف أنّ حالتها كانت لا تزال «رائعة»، بعكس كثير من أعمال ستابس التي «لم تصمد أمام اختبار الزمن».

وتابع: «تعود إلى العقد الأول من حياته المهنية؛ منتصف ستينات القرن الـ18؛ الفترة التي شكَّلت ذروة حياته المهنية، ففيها رسم لوحة (ويسل جاكيت)، وعدداً من لوحاته الأكثر شهرة؛ وكان استخدامه الفنّي للطلاء أكثر صلابة. بفضل ذلك، حافظت هذه اللوحة على حالة جميلة، وهو ما لم يحدُث مع كثير من أعماله الأخرى».

ومن المقرَّر عرض اللوحة للمشاهدة، مجاناً، ضمن جزء من معرض للوحات الأساتذة القدامى والقرن الـ19 في دار «سوذبيز» بغرب لندن، من 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي إلى 4 ديسمبر (كانون الأول) المقبل.