ماذا سيتبقى من شعر الجواهري؟

في ذكرى رحيله الثانية والعشرين

محمد مهدي الجواهري
محمد مهدي الجواهري
TT

ماذا سيتبقى من شعر الجواهري؟

محمد مهدي الجواهري
محمد مهدي الجواهري

قبل اثنين وعشرين عاماً، رحل أحد أهم قاماتنا الشعرية العربية، الذي عاش قرناً كاملاً، طولاً بعرض، ذلك هو الشاعر الكبير «محمد مهدي الجواهري» الذي شكَّل ذاكرة بلدٍ بأكمله، فلم يقترن اسم بلدٍ مثلما اقترن العراق بالجواهري، حيث يروي لنا الشاعر «محمد حسين آل ياسين» أنَّه كان صاعداً في قطار متجهٍ نحو ريف المغرب في الجنوب، ويقابله معلمٌ مغربي يسكن ذلك الريف، وحين سمع حديث آل ياسين غريباً بلكنته العراقية، بادره ذلك المعلم وقد عرف أنه عراقي: ولكن هل أنت من بلد الجواهري؟ أي خلودٍ أعظم من هذا، حيث يقترن بلدٌ باسم شاعر، ولا أظن أنَّ شاعراً حصل على هذا المجد العظيم، ما عدا «شكسبير». ولكن الحديث الآن عن «الجواهري» يجب أنْ يتحوَّل من التمجيد الذي كتب كثير منه في حياة الجواهري وبعدها، إلى حديثٍ آخر يتجه نحو الفحص والتحليل.
فلا أظن أنَّ كلمة مديحٍ سترفع شأن الجواهري المرتفع أصلاً، إنَّما القراءة الجادَّة بعد هذا الغياب هي التي ستمنح الجواهري عمراً أطول، فما الذي يريده الشاعر بعد وفاته غير أنْ تبقى بعضُ نصوصهِ تدور على ألسنة الناس، وأنْ يكون دائماً حديث أهل الأدب والمعرفة، فما الذي سيتبقى من شعر الجواهري؟ هل المناهج الدراسية، وكتب القراءة والمطالعة، سبب في خلود بعض الشعراء؟ لقد خلد من لم يستحق الخلود، بسبب توجهات الدولة وفلسفتها؛ أقول: هل مناهج الإعدادية والمتوسطة هي النافذة الوحيدة التي تجعل من الشاعر حياً دائماً؟ وما الفائدة في أنْ يكون الجواهري دائراً على ألسنة الطلاب، وأنْ يكون عبئاً على طلبة السادس في حفظ قصيدته «يا دجلة الخير»، وحفظ حياته وتعليمه، وبهذا يتحوَّل إلى كابوس لهؤلاء الطلبة، يكرهون - بسببه - دجلة والشعر كله، وربَّما ينسونه بعد انتهاء الامتحان.
فكيف يمكن للجواهري أنْ يبقى مشعاً؟ وهل ذكرى وفاته يمكن أن تجعل منا نحن عشاقه أكثر عقلانية في النظر فيما تركه من قصائد كثيرة كثيرة؟ ولكن ألا يحق لنا أنْ نتساءل عن كمية الشعر الذي تسلل إلى هذه القصائد؟ ذلك أنَّ شخصية «الجواهري» الطاغية، سياسياً واجتماعياً وصحافياً وأدبياً، أسهمتْ بغلق العيون عن كثير من التساؤلات التي يحق لنا نحن عشاق هذا المارد الذي فتحنا أعيننا على قصائده وتمرده، وتمنينا أنْ نسكن المنافي، كما كان، وأنْ نمدح ونشتم في اللحظة نفسها، ذلك أنَّ قدرة «الجواهري» وحيواته الخاصة حوَّلت شخصيته إلى مغناطيس لجذب معظم العاملين في الأدب، والشعر خصوصاً، وأنْ يتشبهوا بهذا المارد الكبير، ويتمنَّوا أنْ يكون في حياتهم جزءٌ يشابه الجواهري، ولكننا لا نفهم أنَّ الزمن يتغير، وأنّ لكل زمن دولة ورجال، ما عدا الجواهري الذي بقي الرجل الأوحد لكل الأزمنة التي عاشها، ذلك أن الملكية حافظت عليه كثيراً، وهو الذي هجاها وأوغل في هجائه لها.
وبعد أن تحوَّل نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري في 58، أيضاً تبنَّاه العسكر، ولم يفرط به، والجواهري نفسه كتب للعسكر، وللجمهورية بشكل عام، ولعبد الكريم قاسم الذي لم يدم الوداد بينهما طويلاً، حتى انقطع حبله، بعد اعتراضات كثيرة وجهها الجواهري لرجال الحكم، حتى أنه يذكر في مذكراته ويصف العلاقة بينه وبين عبد الكريم قاسم بالمسرحية، حيث يقول: «أما وقد قاربت مسرحية هذه الازدواجية المتبادلة بين زعيم أوحد وبين مزعوم أوحد أيضاً نهايتها... فموقفي في يوم عيد العمال وقصيدتي بكم نبتدي وإليكم نعود، ومفهوم أنها تريد أن تقول: نعم للعمال وللشغيلة، ولا لعبد الكريم قاسم». وأوشك أن يُسجن في أيام النظام الجمهوري، لكنَّه اختار العيش في المنفى في «براغ» ما يقارب 9 سنوات، هي من أخصب فترات الجواهري وأغزرها شعرياً.
وأزعم أنَّ مرحلة «براغ» هي من أخصب المراحل التي مر بها «الجواهري»، ذلك أنَّه تخلَّص من كثير من الزوائد الشعرية، وأنَّ البلاغة لديه اتخذت مساراتٍ مختلفة أكثر التصاقاً ببلاغة الحياة الجديدة عليه، تلك الفترة التي كان يقول عنها في مذكراته إنها «كانت الفترة التي عشتها في براغ فترة عز ودلال». وبهذا انتقل الجواهري من بطون الكتب التي شكلت معظم مرجعياته الثقافية إلى الحياة بكامل بهجتها وأناقتها. ففي براغ، تحوَّل إلى شاعرٍ آخر مختلف، وكأنَّه غيره، فبدأ يكتب عن بائعة السمك في «الجيك»، ويكتب عن الثلج على رؤوس الجبال، ويكتب عن مقاهي براغ الساحرة، وعن طبيعتها الخلابة:
براها سلامٌ كلما خفق
الصباح على الهضابِ
ما نفضَّتْ ريحُ الصبا
قارورة العطرِ المذابِ
ما طارحته حمامة بهديلها
شجو التصابي
براها سلامٌ ما اكتسى
ألقُ السنا مزقَ الضبابِ
أو قصيدته عن بائعة السمك في براغ، حيث يقول:
دلفنا لحانوت سماكة
نزوَّدُ بالسمك الكابري
فلاحت لنا حلوة المشترى
تلفت كالرشا النافرِ
تشد الحزام على بانة
وتفتر عن قمر زاهرِ
من الجيك حسبك من فتنة
تضيق بها رقية الساحر
فقلنا: علينا جعلنا فداك
بما اخترتِ من صيدك النادرِ
وفي هذه القصيدة، يصور لنا الجواهري حديثاً للسمكة معهم، وكيف يسمحون لأنفسهم بأكلها، وهي تحاورهم، أي «السمكة»:
فجاءت بممكورة بضة
لعوب كذي خبرة ماكرِ
تنفضُّ بالذيل عطر الصبا
وتخدع بالنظر الخادرِ
تكاد تقول أمثلي يموت
لعنت ابن آدم من جائرِ
أما في الصبا لي من شافع؟
أما لابنة الشيك من زاجرِ
وأهوتْ عليها بساطورها
فيا لك من جؤذرٍ جازرِ
وثنَّتْ فشبَّتْ عروسُ البحار
وخرَّتْ على الجانب الآخرِ
وللجواهري نصوص غاية في المتعة، حين يتحدث على لسان بعض الحيوانات، وهي تجربة قليلة لديه، ولكنَّها رائقة ممتعة، حيث يقول في قصيدة «الراعي»:
لفَّ العباءة واستقلا
بقطيعه عجلا وسهلا
وانصاع يسحب خلفه
ركباً يعرَّسُ حيث حلا
يومي فتفهم ما يريد
ويرتمي فتهبُّ عجلى
وتكاد تُعرب بالثغاء
هلا وحيَّهلا وهلَّا
وبهذا، استطاع الجواهري، أو تمكنتْ الحياة الجديدة أو المختلفة عليه من تغيير مزاجه، وأسهمتْ بتحوله فكرياً ولغوياً، حيث بدأت زاوية النظر تأخذ مساراً جديداً في لغته، وبدأت موضوعاتٌ أخرى كان يأنف من الخوض بها، إلا أنه الآن ركب في مركب بلاغة مختلفة عن تجربته السابقة، أكثر مطواعية من البلاغة التي ورثها، والتي أدمنها في الكتب التاريخية، وفي أشعار الأقدمين.
الآن، وبعد مرور 22 عاماً على رحيله، ما الذي يمكن أنْ نتحدث به عن الجواهري الشاعر؟ ذلك أنَّ كل شيءٍ انتهت صلاحيته أو ستنتهي، السياسة والصحافة، والمجتمع وصراعاته، والدين وتخلَّيه عن العمامة، وبقي الذي بين أيدينا الجواهري الشاعر، ولكن هذا الشاعر هل كلُّه شعر؟
وهل نصوصه التي دارت على ألسنة الناس، ووثَّقت أقدامه على الأرض، هل كلها ممتلئة بالشعر، أم أنَّ ما يحفظه هؤلاء الناس بعيد عن جوهر الشعر؟ فلو أخرجنا الهمَّ السياسي والاجتماعي والديني من القصائد كلِّها ما الذي سيتبَّقى من الجواهري؟ وهنا، أذكر مقولة لـ«عبد الرزاق عبد الواحد» ذكرها لنا مرة، فقال: لو متُّ سيذهب ثلثا شعري أدراج الرياح، وسيبقى القليل القليل، وذكر مسرحية «الحر الرياحي، وقصيدة الزائر الأخير، ومجموعة الصوت، وبعض النصوص القليلة».
ولو رجعنا إلى نصوص عبد الرزاق التي يعتقد بخلودهن بعد رحيله، ماذا نجد؟ سنرى أنَّ معظم هذه النصوص خالية من الوظيفية والغرضية الواضحة، وأن الغرض من كتابة هذه النصوص هو الشعر، إذ لا غرض إلَّاه. وعند هذه الزاوية المهمة، أظنُّ أنَّ نسبة كبيرة من نصوص «الجواهري» سيأكلها الزمن، خصوصاً النصوص التي تُدار على الألسن بوصفها شواهد وأمثلة يُستشهدُ بها لدعم حالة سياسية، أو لتوصيفها، أو لعلاج حالة اجتماعية.
وفي الحقيقة، فإنَّ معظم ما كتبه الجواهري من شعر يدور في فلك السياسة هو قصائد خالية من الشعرية، ومنقادة للحس السياسي والاجتماعي، وفيها من الوعظ الكثير، علماً بأنَّ الشاعر ليس واعظاً، أو حكيماً يضرب الأمثلة ويدل الناس؛ هذه ليست مهنته، وما سيبقى هو الهم الذاتي الحقيقي الذي عبر به الجواهري عن الجواهري نفسه، دون أنْ يتقمص روح الأمة، أو الجماهير، فمتى ما تقمص هذه الروح سيتحوَّل إلى ناطقٍ إعلامي.
أما حديثه الذاتي، فهو الأهم والأجمل والأبقى شعرياً، لذلك ستبقى «يا نديمي» و«أيها الأرق» و«الراعي» و«رسالة مملحة» و«يا أم عوف»، ومعظم ما كتبه في براغ. أما الشعر السياسي والصراعات الاجتماعية، فستتحول إلى وثائق تاريخية تدعم الباحثين ربَّما في بحوثهم، ولكن من الصعب أنْ تصمد شعرياً، رغم عظمة «الجواهري»، لذلك أظنُّ أنَّه من الوفاء لهذه التجربة العظيمة أنْ نراجعها ونسائلها، لا أنْ نمتدحها فقط، فالتجارب الكبرى هي محطة للأسئلة والمراجعات الدائمة، وما الجواهري إلا فنارنا الأكثر إضاءة، واسمنا الذي نفخر به أمام العالم، ذلك أنني دائماً أرددُ بيته الشهير الذي يفخر فيه حتى على الملائكة بقوله:
إذا تحدَّاك في عليائها مَلَكٌ
يزهو عليك فقلْ إنَّي من البشرِ

- شاعر وأكاديمي عراقي



ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
TT

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

«ماريا»، الذي سبق وتناولناه هنا قبل يومين، ليس سوى أحد الأفلام المعروضة على شاشة الدورة 81 لمهرجان «ڤينيسيا»، (انطلق في 28 من الشهر الماضي وتسدل ستارته في 7 سبتمبر «أيلول» الحالي)، الذي يتناول حياة شخصيات شهيرة. إذ إن هناك أفلاماً عدّة تتحدّث عن شخصيات حقيقية أخرى بينها ثلاثة أفلام غير درامية.

إنها أفلام وثائقية وتسجيلية عن أسماء مشهورة تتباعد في أزمانها وشخصياتها كما في أدوارها في الحياة. هناك «رايفنشتال» عن المخرجة الألمانية ليني رايفنشتال التي عاشت نحو 101 سنة، و«جون ويوكو» عن حياة المغني جون لينون (من فرقة البيتلز) والمرأة التي ارتبط بها، كذلك يطالعنا فيلم المخرج التسجيلي إيرول موريس «منفصلون» الذي يتناول بعض ما تمر به الولايات المتحدة من أزمات بخصوص المهاجرين القادمين من فنزويلا وكولومبيا ودول لاتينية أخرى.

في هذا النطاق، وبالمقارنة، فإن «ماريا» للمخرج التشيلي بابلو لاراين، يبقى الإنتاج الدرامي الوحيد بين هذه المجموعة متناولاً، كما ذكرنا، الأيام الأخيرة من حياة مغنية الأوبرا.

المخرجة المتّهمة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية والسياسية. حققت ليني في حياتها 8 أفلام، أولها سنة 1932 وآخرها «انطباعات تحت الماء» (Impressions Under Water) سنة 2002. لكن شهرتها تحدّدت بفيلميها «انتصار الإرادة» (Triumph of the Will) (1935)، و«أولمبيا» الذي أنجزته في جزأين سنة 1938.

السبب في أن هذين الفيلمين لا يزالان الأشهر بين أعمالها يعود إلى أنهما أُنتجا في عصر النهضة النازية بعدما تبوأ أدولف هتلر رئاسة ألمانيا.

دار «انتصار الإرادة» عن الاستعراض الكبير الذي أقيم في عام 1934 في مدينة نورمبيرغ، الذي ألقى فيه هتلر خطبة نارية أمام حشد وصل تعداده إلى 700 ألف شخص. فيها تحدّث عن ألمانيا جديدة مزدهرة وقوية وعن مستقبل كبير ينتظرها.

الفيلم الثاني من جزأين كان عن الأولمبياد الرياضي الذي أقيم صيف 1936، وحضرته أمم كثيرة بعضها من تلك التي تحالفت لاحقاً ضد الاحتلال الألماني لأوروبا.

شغل المخرجة على الفيلمين فعلٌ فني لا يرقى إليه الشك. تصوّر بثراء كل ما يقع أمامها من الجموع إلى المسيرات العسكرية والرياضية، ومنها إلى هتلر وهو يخطب ويراقب سعيداً الاستعدادات العسكرية التي خاضت لاحقاً تلك الحرب الطاحنة التي خرجت ألمانيا منها خاسرة كلّ شيء.

تبعاً لهذين الفيلمين عدّ الإعلام السياسي الغربي المخرجة رايفنشتال ساهمت في الترويج للنازية. تهمة رفضتها رايفنشتال. وأكدت، في مقطع من الفيلم مأخوذ عن مقابلة مسجّلة، أنها لم تنفّذ ما طُلب منها تنفيذه، ولم تنتمِ إلى الحزب النازي (وهذا صحيح) ولم تكن تعلم، شأن ملايين الألمان، بما يدور في المعتقلات.

ليني رايفنشتال خلال تصوير «أولمبياد» (مهرجان ڤينيسيا)

يستعرض الفيلم حياة المخرجة التي دافع عن أعمالها نُقاد السينما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فيلماها لا يزالان من أفضل ما طُبع على أشرطة في مجال الفيلم الوثائقي إلى اليوم، وذلك عائد إلى اختياراتها من اللقطات والمشاهد وتوثيقها لحدثين مهمّين لا يمكن تصوّر السينما من دون وجودهما بدلالاتهما المختلفة. النتيجة الواضحة إلى اليوم، حتى عبر المقتطفات التي يعرضها الفيلم، تفيد بحرفة متقدّمة وتعامل رائعٍ مع الحدث بأوجهه المتعدّدة.

ينتهج المخرج فايل موقفاً يشيد فيه بالمخرجة ومجمل أفلامها السبعة. لا يفوته الاعتراف بأن رايفنشتال كانت فنانة سينما حقيقية، لكن يوجّه مشاهديه في الوقت نفسه إلى أن هذا الفن لم يكن سوى مظهر دعائي للنازية، وأنها لعبت الدور المباشر في البروباغاندا في الفترة التي سبقت الحرب.

حيال سرد هذا التاريخ يستعين المخرج فايل بمقابلات متعددة أدلت بها (معظمها بعد نهاية الحرب) وواجهت فيها منتقديها كما يعمد المخرج إلى مشاهد من حياتها الخاصة. زواجها. رحلتها إلى السودان خلال اضطرابات عام 2000 حيث تحطمت الطائرة المروحية التي استقلّتها وأصيبت برضوض. رحلتها تلك كانت بصدد التعرّف على البيئة النوبية، وكانت قد حصلت على الجنسية السودانية قبل سنوات (إلى جانب جنسيتها الألمانية وإقامتها البريطانية)، وبذلك كانت أول شخص غربي يُمنح الجنسية السودانية.

لا يأتي الفيلم بجديد فِعليّ لما يسرده ويعرضه. هناك كتب عديدة دارت حولها أهمها، مما قرأ هذا الناقد، «أفلام ليني رايفنشتال» لديفيد هنتون (صدر سنة 2000) و«ليني رايفنشتال: حياة» الذي وضعه يورغن تريمبورن قبل سنة من وفاة المخرجة عام 2003.

هو فيلم كاشف، بيد أنه يتوقف عند كل المحطات التي سبق لمصادر أخرى وفّرتها. محاولة الفيلم لتكون «الكلمة الفصل» ناجحة بوصفها فكرة وأقل من ذلك كحكم لها أو عليها.

جون لينون ويوكو أونو

في الإطار الفني، ولو على مسافة كبيرة في الاهتمام ونوع المعالجة، يأتي (One to One: John & Yoko) «واحد لواحد: جون ويوكو» لكيڤن ماكدونالد، الذي يحيط بحياة الثنائي جون لينون وزوجته يوكو أونو اللذين وقعا في الحب وانتقلا للعيش في حي غرينتش فيلاج في مدينة نيويورك مباشرة بعد انفراط فريق «البيتلز» الذي كان جون لينون أحد أفراده الأربعة.

النقلة إلى ذلك الحي لم تكن اختياراً بلا مرجعية سياسية كون غرينتش فيلاج شهدت حينها حياة ثقافية وفنية وسياسية حافلة تعاملت ضد العنصرية وضد حرب فيتنام، وكانت صوت اليسار الشّعبي الأميركي إلى حين فضيحة «ووترغيت» التي أودت بمنصب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. يكشف فيلم مكدونالد (الذي سبق وأُخرج قبل أعوام قليلة، فيلماً عن المغني الجامايكي بوب مارلي) عن اهتمام لينون وزوجته بتلك القضايا السياسية. جون الذي باع منزله المرفّه في ضواحي لندن واستقر في شقة من غرفتين في ذلك الحي، ويوكو التي لعبت دوراً فنياً وتثقيفياً في حياته.

لا يكتفي الفيلم بالحديث عن الثنائي معيشياً وعاطفياً بل عن المحيط السياسي العام ما يُعيد لمشاهدين من جيل ذلك الحين بعض الأحداث التي وقعت، ويوجه المشاهدين الذين وُلدوا سنوات صوب تقدير الثنائي، كما لم يفعل فيلم ما من قبل. ليس لأن «واحد لواحد: جون ويوكو» فيلم سياسي، بل هو استعراض منفّذ مونتاجياً بقدر كبير من الإجادة لحياة ثنائيّ موسيقيّ مطروحة على الخلفية المجتمعية المذكورة.

إرث ترمب

نيسكون مضى ومعه قناعاته وبعد عقود حلّ دونالد ترمب ليسير على النهج اليميني نفسه.

يرتسم ذلك في «منفصلون» (Separated) للمخرج المتخصص بالأفلام التسجيلية والوثائقية السياسية إيرول موريس. من بين أفضل أعماله «ضباب الحرب» (The Fog of War)، الذي تناول الحرب العراقية وكيف تضافرت جهود الحكومة الأميركية على تأكيد وجود ما لم يكن موجوداً في حيازة العراق، مثل القدرات النّووية والصواريخ التي يمكن لها أن تطير من العراق وتحط في واشنطن دي سي (وكثيرون صدّقوا).

«منفصلون» لديه موضوع مختلف: إنه عن ذلك القرار الذي اتخذه ترمب خلال فترة رئاسته ببناء سياج على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول اللاتينية بدافع الفقر وانتشار العنف.

كان يمكن تفهّم هذا القرار لو أنه توقف عند هذا الحد، لكن ترمب تلاه بقرار آخر يقضي بفصل الأطفال عن ذويهم الراغبين في دخول البلاد عبر الحدود. بذلك لدى هؤلاء إمّا العودة من حيث أتوا مع أولادهم، أو العودة من دونهم على أساس وجود هيئات ومؤسسات أميركية ستعني بهم.

مثل هذا الموقف، يؤكد الفيلم، غير الأخلاقي، وكان له معارضون ومؤيدون. بعض المعارضين من أعضاء الكونغرس انقلبوا مؤيدين ما بين مؤتمر صحافي وآخر.

محور الفيلم هو رفض هذا الانفصال على أسس أخلاقية وإنسانية والمتهم الأساسي في فرض العمل به هو ترمب الذي لم يكترث، والكلام للفيلم، لفظاعة الفصل بين الآباء والأمهات وأطفالهم. تطلّب الأمر أن يخسر ترمب الانتخابات من قبل أن يلغي بايدن القرار على أساس تلك المبادئ الإنسانية، لكن بذلك تعاود أزمة المهاجرين حضورها من دون حل معروف.

يستخدم المخرج موريس المقابلات لتأييد وجهة نظره المعارضة وأخرى لرفضها، لكنه ليس فيلماً حيادياً في هذا الشأن. مشكلته التي يحسّ بها المُشاهد هي أن الفيلم يتطرّق لموضوع فات أوانه منذ أكثر من عامين، ما يجعله يدور في رحى أحداث ليست آنية ولا مرّ عليه ما يكفي من الزمن لإعادة اكتشافها ولا هي بعيدة بحيث تُكتشف.