أضواء على جذور التطرف البوذي

بعد موجة إبادة جماعية بحق مسلمي الروهينغا

رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)
رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)
TT

أضواء على جذور التطرف البوذي

رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)
رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)

غالباً ما يجري تصوير البوذية لمختلف أرجاء العالم باعتبارها معتقدا مسالما، ومع ذلك شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور وانتشار نزعات قومية بوذية مسلحة عبر آسيا. على خلاف الحال داخل الهند التي شهدت مولدها، تدين غالبية السكان بالبوذية في سريلانكا وتايلاند وميانمار.
ويشكل بوذيون في سريلانكا وتايلاند وميانمار الغالبية العظمى من السكان على النحو التالي: 70 في المائة في سريلانكا و88 في المائة في ميانمار و93 في المائة في تايلاند. من بين الدول الأخرى التي يشكل البوذيون نسبة معتبرة بين سكانها، اليابان وكمبوديا وبهوتان ولاوس وفيتنام.
تأتي سريلانكا وميانمار في مقدمة الدول التي تشهد صعوداً خطيراً لحركة قومية بوذية راديكالية. وتكشف حوادث وقعت في الفترة الأخيرة هاجم خلالها رهبان بوذيون مجموعات من المسلمين بوحشية في أعقاب تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا واستمرار الإبادة الجماعية بحق مسلمي الروهينغا في ميانمار بوضوح، جانبا مثيراً للقلق لهذه الديانة «التي تنبذ العنف» في كلا البلدين، تعتبر البوذية التيرافادية المذهب الأكثر هيمنة، ويركز بشدة على أول التعاليم المسجلة لبوذا. وتعتبر التيرافادية أقدم مدرسة على وجه الأرض للتعاليم البوذية.
واللافت أنه داخل تايلاند، يتمتع الرهبان البوذيون بنفوذ كبير وتتسم توجهاتهم العرقية المتحاملة بثقل كبير لدى الرأي العام والسلطات الرسمية على نحو يفوق الحال مع نظرائهم في ميانمار وسريلانكا.
وظهرت بعض المؤشرات على اشتعال توترات، مثلما حدث في جنوب البلاد الذي تسكنه غالبية من الملايا يدينون بالإسلام، حيث أسفرت حركة تمرد وحشية عن مقتل أكثر من 7.000 مدني خلال العقد الماضي.

- سريلانكا
جذر البوذية داخل هذا البلد ربما تكون أقوى منها في دول أخرى، وتعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد عندما دخلت البوذية سريلانكا على يد ماهينديرا، نجل الإمبراطور أشوكا، الذي حاكم منطقة جنوب آسيا كلها، بما في ذلك أفغانستان.
داخل سريلانكا، تهيمن البوذية على الخطاب السياسي والثقافي، حيث يسمح للرهبان بالترشح لمناصب سياسية وتكوين أحزاب سياسية.
وتنص مادة في دستور سريلانكا بوضوح على منح «المكانة الكبرى» للبوذية، وتحمل الدولة مسؤولية «حماية وتعزيز حكم بوذا». كما يوجد في سريلانكا وزارة مختصة بشؤون الرهبان البوذيين.
يبلغ عدد سكان سريلانكا 22 مليون نسمة، وينتمي ثلاثة أرباعهم تقريباً إلى عرق السنهاليين، والذين تدين غالبيتهم بالبوذية. وينتمي نحو سدس أبناء سريلانكا إلى عرق التاميل - سواء من أصول سريلانكية أو هندية - ويدينون في معظمهم بالهندوسية، بينما يعتنق نحو 10 في المائة من السكان الإسلام، و7 في المائة يعتنقون المسيحية، وهي مجموعة تضم تاميل وسنهاليين.
وتبعاً لما ذكره الصحافي فيشال أروروا، فإنه: «داخل سريلانكا، بدأت صحوة القومية البوذية بعد نهاية المرحلة الأخيرة من الحرب التي شنتها القوات المسلحة ضد جماعة (نمور التاميل التي كانت تسعى لبناء وطن منفصل للتاميل عام 2009)، وأدى هذا الانتصار إلى إمعان النظر في هوية البلاد، وسمح للنظام بالترويج لقومية عرقية - دينية لاكتساب شرعية لأفعال تتناقض مع الديمقراطية والقانون الدولي. وجرى تصوير الحرب باعتبارها نصراً للبوذية».
وعلى مر السنوات، ترسخت جذور التطرف البوذي مع تكوين الجماعة البوذية المتطرفة الأنشط على مستوى سريلانكا «بودو بالا سينا» (قوة القوة البوذية - بي بي إس). ودخلت «بي بي إس» المعترك السياسي عام 2012 حاملة معها آيديولوجية وأجندة بوذية قومية، وادعى قيادات الجماعة أن أبناء سريلانكا فقدوا بوصلتهم الأخلاقية وتحولوا بعيداً عن البوذية. ومن يلقون عليه باللوم على ذلك؟ مسلمو سريلانكا.
واضطلع الأمين العام لـ«بي بي إس»، غالاغودا أثثي غناناسارا ثيرو، بدور خطير في تأجيج وإطالة أمد الكراهية ضد المسلمين في سريلانكا، وشن حملات ضد ارتداء النساء البرقع وحصول متاجر على شهادات الطعام الحلال.
واتخذ الرئيس مايتريبالا سيريسينا خطوة غير مسبوقة بالعفو عن وإطلاق سراح الراهب البوذي المتعصب المعادي للمسلمين، ثيرو، بعد أن كان يقضي عقوبة السجن ست سنوات لإدانته بإهانة هيئة محكمة. وجاء العفو عنه بعد أسبوع من مهاجمة حشود منازل ومتاجر تخص مسلمين ومساجد في هجمات انتقامية واضحة عن تفجيرات عيد الفصح. وقضى الراهب تسعة أشهر فقط في السجن.
وبعد إطلاق سراحه، طالب ثيرو بإسقاط النظام الحالي وتشكيل «برلمان سنهالي» بدلاً منه.
وقال نشطاء حقوقيون إن إطلاق سراح الراهب المتطرف بعث برسالة مفادها أن الغالبية البوذية بمقدورها التحريض على الكراهية ضد الأقليات. ورأى بعض المحللين في قرار العفو محاولة من جانب الرئيس لاستمالة البوذيين السنهاليين الذين يشكلون 70 في المائة من سكان البلاد البالغ عددهم 22 مليون نسمة، قبل عام الانتخابات.
وفي مؤشر حديث آخر على الهيمنة البوذية على المشهد السياسي السريلانكي، دخل راهب بوذي نافذ يدعى أثوراليي راثانا، يعمل عضواً بالبرلمان ومستشاراً للرئيس، في إضراب عن الطعام أسفر عن استقالة جميع الوزراء المسلمين التسعة في الحكومة السريلانكية.
وعلى امتداد سنوات، دخل سياسيون سريلانكيون فيما بينهم في تنافس فج لاستغلال المشاعر الشعبوية والطائفية في خدمة أهدافهم الحزبية بالاعتماد على رهبان بوذيين.
في هذا الصدد، علق الصحافي لاكشمي سوبرامانيا الذي يكتب في مجلة «مغازاين إنديا»، بالإشارة إلى أنه: «بالنظر إلى أنه من المقرر عقد انتخابات رئاسية في ديسمبر (كانون الأول)، وتتبعها انتخابات برلمانية وإقليمية، تعمد الحركة الأصولية البوذية على التأكيد على نفوذها باعتبارها صاحبة الكلمة الأولى في سريلانكا».

- ميانمار
أسفرت الحركة الوطنية البوذية المتطرفة هنا إلى إبادة جماعية واسعة بحق مسلمي الروهينغا، الذين هاجر أسلافهم إلى البلاد قادمين من بنغلاديش. وأسفرت حملات الإبادة عن مقتل المئات على أيدي بوذيين من عرق الراخين. وما يزال أكثر من 300.000 من مسلمي الروهينغا مشردين في الداخل، بينما فر كثيرون إلى خارج البلاد.
يذكر أنه منذ حصولها على استقلالها السياسي عام 2011، شهدت الأوضاع داخل ميانمار اضطراباً بسبب صعود حركة قومية بوذية متطرفة وانتشار الخطابات المعادية للمسلمين ووقوع أعمال عنف طائفية، ليس داخل ولاية الراخين فحسب، وإنما بمختلف أرجاء البلاد.
وعمدت العصبة العسكرية التي هيمنت على الحكم بالبلاد طوال قرابة خمسة عقود، إلى تعزيز فكرة أن البوذيين البرماويين «أعلى» ممن سواهم. ومن المعروف أن المؤسسة العسكرية تتكون بصورة أساسية من بوذيين برماويين.
ومع أن المسلمين يشكلون 4 في المائة فقط من إجمالي سكان ميانمار، يشعر متطرفون بوذيون بقلق من أن يهيمن المسلمون على البلاد.
عام 2001، أطلق الراهبان المتطرفان أشين ويراثو وأشين ويمالا حركة «969» المعادية للمسلمين. وما تزال هذه الحركة، بجانب «ما با تا» (الاتحاد الوطني لميانمار)، تتمتع بنفوذ كبير في أوساط البوذيين في ميانمار. ويوزع أفراد الحركة كتيبات وخطبا مسجلة على شرائط كاسيت تحذر من خطر الإسلام. ويعمل أعضاء الحركة على تأجيج الخوف من المسلمين، الأمر الذي يدفع بدوره بوذيين بورميين نحو العنف. عام 2015، مارس الكيانان البوذيان ضغوطاً كبيرة لتمرير تشريع موال للبوذيين.
جدير بالذكر أن ويراثو صدر ضده حكم بالسجن 25 عاماً لإدانته بالتحريض على أعمال عنف دموية داخل مسقط رأسه في مدينة كيوكسي.
إلا أنه أطلق سراحه في يناير (كانون الثاني) 2012 من السجن في إطار عفو عام من جانب الرئيس آنذاك، ثين سين، بعد قضائه سبع سنوات بالسجن. جدير بالذكر أن ويراثو يطلق على نفسه «بن لادن بورما». وجدير بالذكر أن ميانمار في ظل الحكم البريطاني كانت تعرف باسم بورما.
من ناحية أخرى، يحمل بعض المراقبين الماضي الاستعماري في هذه الدول مسؤولية القلاقل الدينية الحالية.
والسؤال الآن: هل ثمة تهديد يواجه البوذية حقاً؟
الحقيقة أن البوذيين يشكلون الفئة المهيمنة على السكان في هذه الدول، ما يثير علامات استفهام حول شعورهم بالتهديد من جانب أقليات، خاصة المسلمين. ورغم وجود تفسيرات عرقية واجتماعية واقتصادية لظهور مثل هذه الحركات البوذية المسلحة، فإنه من وجهة نظر الرهبان المسلحين أنفسهم يدور الأمر برمته حول الدين.
في كتاب مثير وقيم بعنوان «إذا التقيت بوذا على الطريق: البوذية والسياسات والعنف»، خلص المؤلف مايكل جيريسون إلى أن النصوص والأساطير والتقاليد البوذية تبرر وتروج لصور معينة من العنف، والتي عادة ما يجري تبريرها باعتبارها دفاعا عن الإيمان. وبذلك يتضح أن البوذية لا تختلف عن أي تقاليد دينية أخرى.
علاوة على ذلك، ثمة اعتقاد سائد في البوذية التيرافادية منذ ألف عام بأن الدين سيتراجع حتماً ويندثر.

- تايلاند
داخل تايلاند ذات الأغلبية البوذية، ثمة توترات قائمة بين المسلمين المنتمين للملايا والبوذيين في جنوب البلاد منذ عام 2004. وأسفرت أعمال العنف بين الجانبين عن مصرع 6.000 شخص على الأقل.
ومن المعتقد أن البوذية التايلاندية أصبحت مسيسة واكتسبت صبغة قومية خاصة في أعقاب وفاة بوداداسا، الفيلسوف البوذي البارز عام 1993، وقد اشتهر خليفته، برايود بايوتو بميوله اليمينية.
من جهتها، شددت المعلمة البوذية أشاراوادي ونغساكون، والتي أنشأت «مؤسسة معرفة بوذا» عام 2012، إلى أن البوذية تحتاج إلى حمايات قانونية ويجب أن يلتزم المجتمع بعدد من الأوامر والنواهي تبعاً لها.
ورغم أن المؤسسة الخاصة بها ليست متطرفة، فإنها تتبع على الأقل أجندة أصولية. ومع هذا، تبدو متوافقة تماماً مع باقي عناصر المشهد العام في تايلاند. يذكر أنه في يونيو (حزيران) 2012، تقدمت «مؤسسة معرفة بوذا» بطلب إلى المكتب الوطني للبوذية بإقرار قانون تجريم الإساءة للمقدسات البوذية، حيث تجري بمقتضاه معاقبة كل من يسيء إلى البوذية. كما تسعى المؤسسة لإعلان البوذية الدين الرسمي للدولة.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».