أضواء على جذور التطرف البوذي

بعد موجة إبادة جماعية بحق مسلمي الروهينغا

رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)
رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)
TT

أضواء على جذور التطرف البوذي

رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)
رهبان بوذيون يشنون مظاهرات احتجاج في أعقاب تفجيرات عيد الفصح بسريلانكا (الشرق الأوسط)

غالباً ما يجري تصوير البوذية لمختلف أرجاء العالم باعتبارها معتقدا مسالما، ومع ذلك شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور وانتشار نزعات قومية بوذية مسلحة عبر آسيا. على خلاف الحال داخل الهند التي شهدت مولدها، تدين غالبية السكان بالبوذية في سريلانكا وتايلاند وميانمار.
ويشكل بوذيون في سريلانكا وتايلاند وميانمار الغالبية العظمى من السكان على النحو التالي: 70 في المائة في سريلانكا و88 في المائة في ميانمار و93 في المائة في تايلاند. من بين الدول الأخرى التي يشكل البوذيون نسبة معتبرة بين سكانها، اليابان وكمبوديا وبهوتان ولاوس وفيتنام.
تأتي سريلانكا وميانمار في مقدمة الدول التي تشهد صعوداً خطيراً لحركة قومية بوذية راديكالية. وتكشف حوادث وقعت في الفترة الأخيرة هاجم خلالها رهبان بوذيون مجموعات من المسلمين بوحشية في أعقاب تفجيرات عيد الفصح في سريلانكا واستمرار الإبادة الجماعية بحق مسلمي الروهينغا في ميانمار بوضوح، جانبا مثيراً للقلق لهذه الديانة «التي تنبذ العنف» في كلا البلدين، تعتبر البوذية التيرافادية المذهب الأكثر هيمنة، ويركز بشدة على أول التعاليم المسجلة لبوذا. وتعتبر التيرافادية أقدم مدرسة على وجه الأرض للتعاليم البوذية.
واللافت أنه داخل تايلاند، يتمتع الرهبان البوذيون بنفوذ كبير وتتسم توجهاتهم العرقية المتحاملة بثقل كبير لدى الرأي العام والسلطات الرسمية على نحو يفوق الحال مع نظرائهم في ميانمار وسريلانكا.
وظهرت بعض المؤشرات على اشتعال توترات، مثلما حدث في جنوب البلاد الذي تسكنه غالبية من الملايا يدينون بالإسلام، حيث أسفرت حركة تمرد وحشية عن مقتل أكثر من 7.000 مدني خلال العقد الماضي.

- سريلانكا
جذر البوذية داخل هذا البلد ربما تكون أقوى منها في دول أخرى، وتعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد عندما دخلت البوذية سريلانكا على يد ماهينديرا، نجل الإمبراطور أشوكا، الذي حاكم منطقة جنوب آسيا كلها، بما في ذلك أفغانستان.
داخل سريلانكا، تهيمن البوذية على الخطاب السياسي والثقافي، حيث يسمح للرهبان بالترشح لمناصب سياسية وتكوين أحزاب سياسية.
وتنص مادة في دستور سريلانكا بوضوح على منح «المكانة الكبرى» للبوذية، وتحمل الدولة مسؤولية «حماية وتعزيز حكم بوذا». كما يوجد في سريلانكا وزارة مختصة بشؤون الرهبان البوذيين.
يبلغ عدد سكان سريلانكا 22 مليون نسمة، وينتمي ثلاثة أرباعهم تقريباً إلى عرق السنهاليين، والذين تدين غالبيتهم بالبوذية. وينتمي نحو سدس أبناء سريلانكا إلى عرق التاميل - سواء من أصول سريلانكية أو هندية - ويدينون في معظمهم بالهندوسية، بينما يعتنق نحو 10 في المائة من السكان الإسلام، و7 في المائة يعتنقون المسيحية، وهي مجموعة تضم تاميل وسنهاليين.
وتبعاً لما ذكره الصحافي فيشال أروروا، فإنه: «داخل سريلانكا، بدأت صحوة القومية البوذية بعد نهاية المرحلة الأخيرة من الحرب التي شنتها القوات المسلحة ضد جماعة (نمور التاميل التي كانت تسعى لبناء وطن منفصل للتاميل عام 2009)، وأدى هذا الانتصار إلى إمعان النظر في هوية البلاد، وسمح للنظام بالترويج لقومية عرقية - دينية لاكتساب شرعية لأفعال تتناقض مع الديمقراطية والقانون الدولي. وجرى تصوير الحرب باعتبارها نصراً للبوذية».
وعلى مر السنوات، ترسخت جذور التطرف البوذي مع تكوين الجماعة البوذية المتطرفة الأنشط على مستوى سريلانكا «بودو بالا سينا» (قوة القوة البوذية - بي بي إس). ودخلت «بي بي إس» المعترك السياسي عام 2012 حاملة معها آيديولوجية وأجندة بوذية قومية، وادعى قيادات الجماعة أن أبناء سريلانكا فقدوا بوصلتهم الأخلاقية وتحولوا بعيداً عن البوذية. ومن يلقون عليه باللوم على ذلك؟ مسلمو سريلانكا.
واضطلع الأمين العام لـ«بي بي إس»، غالاغودا أثثي غناناسارا ثيرو، بدور خطير في تأجيج وإطالة أمد الكراهية ضد المسلمين في سريلانكا، وشن حملات ضد ارتداء النساء البرقع وحصول متاجر على شهادات الطعام الحلال.
واتخذ الرئيس مايتريبالا سيريسينا خطوة غير مسبوقة بالعفو عن وإطلاق سراح الراهب البوذي المتعصب المعادي للمسلمين، ثيرو، بعد أن كان يقضي عقوبة السجن ست سنوات لإدانته بإهانة هيئة محكمة. وجاء العفو عنه بعد أسبوع من مهاجمة حشود منازل ومتاجر تخص مسلمين ومساجد في هجمات انتقامية واضحة عن تفجيرات عيد الفصح. وقضى الراهب تسعة أشهر فقط في السجن.
وبعد إطلاق سراحه، طالب ثيرو بإسقاط النظام الحالي وتشكيل «برلمان سنهالي» بدلاً منه.
وقال نشطاء حقوقيون إن إطلاق سراح الراهب المتطرف بعث برسالة مفادها أن الغالبية البوذية بمقدورها التحريض على الكراهية ضد الأقليات. ورأى بعض المحللين في قرار العفو محاولة من جانب الرئيس لاستمالة البوذيين السنهاليين الذين يشكلون 70 في المائة من سكان البلاد البالغ عددهم 22 مليون نسمة، قبل عام الانتخابات.
وفي مؤشر حديث آخر على الهيمنة البوذية على المشهد السياسي السريلانكي، دخل راهب بوذي نافذ يدعى أثوراليي راثانا، يعمل عضواً بالبرلمان ومستشاراً للرئيس، في إضراب عن الطعام أسفر عن استقالة جميع الوزراء المسلمين التسعة في الحكومة السريلانكية.
وعلى امتداد سنوات، دخل سياسيون سريلانكيون فيما بينهم في تنافس فج لاستغلال المشاعر الشعبوية والطائفية في خدمة أهدافهم الحزبية بالاعتماد على رهبان بوذيين.
في هذا الصدد، علق الصحافي لاكشمي سوبرامانيا الذي يكتب في مجلة «مغازاين إنديا»، بالإشارة إلى أنه: «بالنظر إلى أنه من المقرر عقد انتخابات رئاسية في ديسمبر (كانون الأول)، وتتبعها انتخابات برلمانية وإقليمية، تعمد الحركة الأصولية البوذية على التأكيد على نفوذها باعتبارها صاحبة الكلمة الأولى في سريلانكا».

- ميانمار
أسفرت الحركة الوطنية البوذية المتطرفة هنا إلى إبادة جماعية واسعة بحق مسلمي الروهينغا، الذين هاجر أسلافهم إلى البلاد قادمين من بنغلاديش. وأسفرت حملات الإبادة عن مقتل المئات على أيدي بوذيين من عرق الراخين. وما يزال أكثر من 300.000 من مسلمي الروهينغا مشردين في الداخل، بينما فر كثيرون إلى خارج البلاد.
يذكر أنه منذ حصولها على استقلالها السياسي عام 2011، شهدت الأوضاع داخل ميانمار اضطراباً بسبب صعود حركة قومية بوذية متطرفة وانتشار الخطابات المعادية للمسلمين ووقوع أعمال عنف طائفية، ليس داخل ولاية الراخين فحسب، وإنما بمختلف أرجاء البلاد.
وعمدت العصبة العسكرية التي هيمنت على الحكم بالبلاد طوال قرابة خمسة عقود، إلى تعزيز فكرة أن البوذيين البرماويين «أعلى» ممن سواهم. ومن المعروف أن المؤسسة العسكرية تتكون بصورة أساسية من بوذيين برماويين.
ومع أن المسلمين يشكلون 4 في المائة فقط من إجمالي سكان ميانمار، يشعر متطرفون بوذيون بقلق من أن يهيمن المسلمون على البلاد.
عام 2001، أطلق الراهبان المتطرفان أشين ويراثو وأشين ويمالا حركة «969» المعادية للمسلمين. وما تزال هذه الحركة، بجانب «ما با تا» (الاتحاد الوطني لميانمار)، تتمتع بنفوذ كبير في أوساط البوذيين في ميانمار. ويوزع أفراد الحركة كتيبات وخطبا مسجلة على شرائط كاسيت تحذر من خطر الإسلام. ويعمل أعضاء الحركة على تأجيج الخوف من المسلمين، الأمر الذي يدفع بدوره بوذيين بورميين نحو العنف. عام 2015، مارس الكيانان البوذيان ضغوطاً كبيرة لتمرير تشريع موال للبوذيين.
جدير بالذكر أن ويراثو صدر ضده حكم بالسجن 25 عاماً لإدانته بالتحريض على أعمال عنف دموية داخل مسقط رأسه في مدينة كيوكسي.
إلا أنه أطلق سراحه في يناير (كانون الثاني) 2012 من السجن في إطار عفو عام من جانب الرئيس آنذاك، ثين سين، بعد قضائه سبع سنوات بالسجن. جدير بالذكر أن ويراثو يطلق على نفسه «بن لادن بورما». وجدير بالذكر أن ميانمار في ظل الحكم البريطاني كانت تعرف باسم بورما.
من ناحية أخرى، يحمل بعض المراقبين الماضي الاستعماري في هذه الدول مسؤولية القلاقل الدينية الحالية.
والسؤال الآن: هل ثمة تهديد يواجه البوذية حقاً؟
الحقيقة أن البوذيين يشكلون الفئة المهيمنة على السكان في هذه الدول، ما يثير علامات استفهام حول شعورهم بالتهديد من جانب أقليات، خاصة المسلمين. ورغم وجود تفسيرات عرقية واجتماعية واقتصادية لظهور مثل هذه الحركات البوذية المسلحة، فإنه من وجهة نظر الرهبان المسلحين أنفسهم يدور الأمر برمته حول الدين.
في كتاب مثير وقيم بعنوان «إذا التقيت بوذا على الطريق: البوذية والسياسات والعنف»، خلص المؤلف مايكل جيريسون إلى أن النصوص والأساطير والتقاليد البوذية تبرر وتروج لصور معينة من العنف، والتي عادة ما يجري تبريرها باعتبارها دفاعا عن الإيمان. وبذلك يتضح أن البوذية لا تختلف عن أي تقاليد دينية أخرى.
علاوة على ذلك، ثمة اعتقاد سائد في البوذية التيرافادية منذ ألف عام بأن الدين سيتراجع حتماً ويندثر.

- تايلاند
داخل تايلاند ذات الأغلبية البوذية، ثمة توترات قائمة بين المسلمين المنتمين للملايا والبوذيين في جنوب البلاد منذ عام 2004. وأسفرت أعمال العنف بين الجانبين عن مصرع 6.000 شخص على الأقل.
ومن المعتقد أن البوذية التايلاندية أصبحت مسيسة واكتسبت صبغة قومية خاصة في أعقاب وفاة بوداداسا، الفيلسوف البوذي البارز عام 1993، وقد اشتهر خليفته، برايود بايوتو بميوله اليمينية.
من جهتها، شددت المعلمة البوذية أشاراوادي ونغساكون، والتي أنشأت «مؤسسة معرفة بوذا» عام 2012، إلى أن البوذية تحتاج إلى حمايات قانونية ويجب أن يلتزم المجتمع بعدد من الأوامر والنواهي تبعاً لها.
ورغم أن المؤسسة الخاصة بها ليست متطرفة، فإنها تتبع على الأقل أجندة أصولية. ومع هذا، تبدو متوافقة تماماً مع باقي عناصر المشهد العام في تايلاند. يذكر أنه في يونيو (حزيران) 2012، تقدمت «مؤسسة معرفة بوذا» بطلب إلى المكتب الوطني للبوذية بإقرار قانون تجريم الإساءة للمقدسات البوذية، حيث تجري بمقتضاه معاقبة كل من يسيء إلى البوذية. كما تسعى المؤسسة لإعلان البوذية الدين الرسمي للدولة.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟