قادة العالم يؤبّنون السبسي في جنازة مهيبة

التونسيون بكوا رئيسهم بحرقة... وعبروا عن فخرهم بـ«انتقال سلس للسلطة»

TT

قادة العالم يؤبّنون السبسي في جنازة مهيبة

شهدت العاصمة التونسية، أمس، موكب تشييع جثمان الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي من قصر قرطاج الرئاسي، باتجاه «مقبرة الزلاج» بالعاصمة، عقب انتهاء مراسم التأبين. وخرج الموكب الرسمي تتقدمه عربة عسكرية، تحمل جثمان الراحل موشحة بالراية الوطنية، وسط موكب من الحرس الشرفي فوق الخيول.
وأكّدت وزارة الداخليّة أنّها اتخذت «احتياطات استثنائيّة بتسخير جميع الإمكانيّات البشريّة والمادّية لتأمين موكب الجنازة في مختلف مراحله، مع الأخذ بعين الاعتبار مواكبة التجمعات التلقائية للمواطنين». وهي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية التونسية منذ 1957 التي تقام فيها جنازة وطنية مهيبة لرئيس دولة تونسية، توفي وهو على رأس السلطة. علما بأن التلفزيون التونسي لم يبث مراسم جنازة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة سنة 2000، والتي أُبعد التونسيون ووسائل الإعلام من مواكبتها في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
وسارت الجنازة باتجاه المقبرة التي تبعد نحو سبعة كيلومترات عن القصر، والتي يرقد بها معظم الشخصيات الوطنية التونسية، بينما رافقت الموكب مروحيات عسكرية. وانتشرت على جانبي الطريق المؤدي للمقبرة قوات الأمن، فيما احتشدت جموع من المواطنين في الحر القائظ لوداع الرئيس الراحل. واختلطت دموع المودعين بموجات التصفيق والزغاريد، رافعين العلم الوطني، وردد متحمسون النشيد الوطني، فيما علت أصوات تلاوة القرآن من مآذن المساجد.
وأعلنت الرئاسة عن حضور عدد من قادة الدول، وممثلي المنظمات الدولية والإقليمية لتشييع السبسي إلى مثواه الأخير. وألقى عدد من الحاضرين كلمات تأبينية، أشادوا فيها بالراحل السبسي.
ونيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، شارك الأمير الدكتور منصور بن متعب بن عبد العزيز وزير الدولة السعودي عضو مجلس الوزراء مستشار خادم الحرمين الشريفين، والأمير تركي بن محمد بن فهد بن عبد العزيز وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، أمس، في مراسم تشييع جثمان الرئيس التونسي الراحل.
ونقل الأمير الدكتور منصور بن متعب والأمير تركي بن فهد خلال مراسم العزاء، تعازي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز للرئيس التونسي المؤقت محمد الناصر، وللشعب التونسي.
وقال الرئيس التونسي المؤقت محمد الناصر في كلمته، خلال مراسم تشييع جنازة السبسي إن «الراحل السبسي نجح في تأمين الانتقال الديمقراطي واستقرار البلاد». مشددا على أن «الراحل العظيم كان مهندس الوفاق الوطني، ومناصرا لوحدة الصف الوطني، المبني على الحوار... وكان حريصا على إنجاح الخيار الديمقراطي». وعند الانتهاء من إلقاء كلمته، دعا الناصر الحضور إلى الوقوف دقيقة حداد على الراحل الباجي قايد السبسي.
من جهته، أكد الرئيس الجزائري المؤقت عبد القادر بن صالح، في كلمته، أن رحيل السبسي «خسارة ليس للعائلة وتونس فقط، بل للجزائر والعرب وكل محبي السلام في العالم». مشيرا إلى أنه رأى في الفقيد «الرجل المدافع عن الحق والعدالة، والحريص على معرفة أدق التفاصيل».
بدوره، تحدث الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن الراحل القايد السبسي في كلمة تأبينية، أشاد فيها بتاريخه وإسهاماته الوطنية، وقال إنه «هو الذي حمى تونس واستقرارها وديمقراطيتها في أصعب الظروف»، مشيرا إلى أن رحلة العودة
الفلسطينية بدأت من تونس.
أما رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا فايز السراج فقد أكد من جانبه أن حياة السبسي «شكلت نموذجا للإصرار والتحدي، حيث امتلك شخصية ذات ملامح»، مشيرا إلى أنه «أفنى حياته في سبيل خدمة شعبه ووطنه... وشكل رمزا ونموذجا لوجه تونس الحضاري».
من جانبه، قال رئيس البرتغال إن الراحل السبسي «غير التاريخ»، فيما قال فيليب السادس ملك إسبانيا إن بلاده «تقف إلى جانب تونس في هذا الظرف العصيب... وسوف نواصل العمل معا من أجل أن نجعل من فضاء البحر المتوسط فضاء سلام وحوار وازدهار واستقرار».
في سياق ذلك، أكد الرئيس الفرنسي ماكرون أن الرئيس الراحل قايد السبسي «كان مناضلا وعظيما، لديه قدرة على الإقناع»، مشيرا إلى أنه تعلم منه كثيرا من الحكمة. وقال بهذا الخصوص: «أود التعبير عن مناخ الطمأنينة في تونس رغم أجواء الحزن التي تخيم على البلاد».
وأضاف ماكرون بنبرة حزينة أن الرئيس الراحل السبسي «تحمل من أجل بلاده كثيرا، وكان من المتحمسين بشجاعة لأن تكون تونس متسامحة... والشعب التونسي سيعترف بما قدمه، وسيعمل على استكمال مسيرته بأن تكون تونس منفتحة ومتسامحة».
ومنعت سلطات تونس الليلة قبل الماضية وجدي غنيم، القيادي المصري بتنظيم الإخوان المقيم في تركيا بسبب تدوينة اعتبرتها السلطات التونسية «مسيئة» للرئيس الراحل.+
وقالت المواطنة نجوى الخذيري، وهي من بين أكثر من مليون امرأة منحن أصواتهن للسبسي في انتخابات 2014 لوكالة الصحافة الألمانية: «جئنا من أجل الوداع الأخير... سيترك السبسي فراغا رهيبا في السلطة، وسيترك تحديا جسيما للمتنافسين على منصب الرئاسة». وأضافت نجوى، التي رابطت لوقت طويل بساحة 14 يناير (كانون الثاني) وسط العاصمة، في انتظار مرور الموكب: «كان (السبسي) صوت المرأة، وقد نجح في تجميع كل التونسيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية، كان أبا للتونسيين». بينما قالت سلمى الحبيبي وهي ترفع علم تونس: «لقد فقدنا أبا لكل التونسيين... كان مميزا وكان يريد دائما إعلاء قيمة المرأة التونسية... واليوم كسبنا دولة ديمقراطية فعليا بنقل رائع وهادئ للسلطة... لا دبابات في الشوارع ولا حظر تجوال ولا بيانات للجيش».
بدوره، قال المواطن سمير الباغولي: «لم أكن من أنصار السبسي حينما انتخب في 2014، ولكن أحترم صراحته وحبه لتونس، وقدرته على توحيد التونسيين. نحن نفتخر اليوم بهذا الموكب وهذه الروح الوطنية».
وبرحيل السبسي، الذي شغل منصب الرئاسة منذ عام 2014 في أول انتخابات رئاسية ديمقراطية ونزيهة تعرفها تونس، ودعت البلاد أمس إحدى أبرز الشخصيات السياسية في تاريخها، منذ بناء الدولة الوطنية، الذي كان هو أحد بناتها، عقب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي عام 1956.
لكنه ترك بعد رحيله وضعا سياسيا متأزما، تحدق به الأخطار، خصوصا فيما يتعلق بحزبه «نداء تونس»، الذي أسسه في 2012 وفاز به في الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014.
لكن الصراعات الداخلية لا تزال متواصلة قبيل أقل من شهرين على الانتخابات القادمة. وقد زاد نشوب خلاف عميق وصل حد التراشق بتهم «تخريب الحزب» بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ونجل الرئيس الراحل حافظ قايد السبسي منتصف عام 2018، في تعميق أزمة الحزب وتراجع دوره على الساحة السياسية.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.