جونسون أدخل الشعبوية إلى داوننغ ستريت

وعد بتحويل بريطانيا إلى «أعظم دولة على وجه الأرض»

بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
TT

جونسون أدخل الشعبوية إلى داوننغ ستريت

بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)

لم تعد الشعبوية شعاراً فقط. إنها الآن برنامج حكم يتسع على امتداد عدد من الدول الغربية المؤثرة ويمتد صداه إلى دول أخرى. آخر الحصاد الشعبوي تمثل بوصول بوريس جونسون إلى منصب رئيس الحكومة البريطانية. حدث كهذا كان يبدو مستبعداً قبل عقد من الزمن. أن يصل سياسي بمواصفات جونسون إلى قيادة إحدى أعرق الديمقراطيات الغربية. لا حزبه، حزب المحافظين، كان يتيح ذلك، نظراً إلى ميل تقليدي في صفوفه إلى الاعتدال واتساع مساحة النقاش الداخلي، ولا بريطانيا كانت تعرف عنها مسايرتها لسياسات هي أقرب إلى العنصرية والتماهي مع اليمين المتطرف، كما هي اليوم.
لكن هذا المد الشعبوي الذي وصل إلى لندن كان قد سلك طرقاً أخرى بنجاح. أبرزها طبعاً طريقه إلى البيت الأبيض؛ حيث يحكم أبرز الشعبويين، دونالد ترمب، الذي يفاخر بإطلاق لقب «ترمب بريطانيا» على صديقه بوريس جونسون. وعلى الجانب الآخر من القارة الأوروبية، هناك رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، اللذان يتشاركان سياسات العداء للمهاجرين، والدعوة إلى «تنظيف» القارة الأوروبية، وإعادتها إلى «أصولها المسيحية»، التي يعتبران أن الاختلاط العرقي والديني في أوروبا أصبح يشكل خطراً عليها.

«إنه رجل جيد... إنه قوي وذكي. يسمّونه ترمب بريطانيا، وهذا شيء جيد، إنهم يحبونني هناك». هكذا هنّأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب «صديقه» بوريس جونسون، الذي فاز برئاسة الوزراء في بريطانيا. وهكذا اختصر ترمب قصة نجاح رئيس الوزراء الشاب، وتباهى بقوة تأثير ظاهرة أرادها مستشاره السابق ستيف بانون عابرة للقارات.
في أول خطاب له رئيسا للوزراء، وعد جونسون بـ«عصر ذهبي جديد»، عبر «توحيد وتنشيط المملكة المتحدة، وجعلها أعظم دولة على وجه الأرض»، كما أولى اهتماما خاصا بتحقيق ازدهار اقتصادي باهر وتجاوز الاقتصادات الأوروبية بحلول 2050، كلها محاور اختارها جونسون بعناية، تعيدنا أصداؤها إلى خطاب الرئيس ترمب الشعبوي المبني على «استعادة عظمة أميركا» و«السيطرة على الحدود» و«تحقيق أقوى اقتصاد في التاريخ».
ليست هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها خطابا ترمب وجونسون، المعروفان بميلهما لتزوير الحقائق لتعزيز موقفهما. فقد شاب فترة عمل جونسون في بروكسل بصفته مراسلا لصحيفتي «ذي تايمز» و«ذي ديلي تيلغراف» كثير من التزوير وتحريف الحقائق والمبالغات، أدّت إلى طرده من الأولى وشهرته في الثانية. كما يذكّر سجل جونسون كوزير للخارجية المليء بالزلات الدبلوماسية والمزحات المستفزة أحياناً بأسلوب الرئيس الأميركي المثير للجدل. وكان أسوأ خطأ اقترفه جونسون بحق السجينة نزانين زغاري رادكليف، حاملة الجنسيتين الإيرانية والبريطانية، والتي اعتقلتها إيران بتهمة العمل لصالح حكومة أجنبية لإسقاط النظام. وناقض جونسون علناً عائلة رادكليف التي أكدت أنها ذهبت إلى طهران في زيارة عائلية، بعدما قال إنها كانت تدرب صحافيين في إيران قبل اعتقالها. ونفت عائلة نزانين ذلك بشدة، وعبرت عن غضبها وخشيتها من أن تصريحه أثر سلباً على قضيتها وأطال فترة سجنها. كما واجه جونسون وابل انتقادات من داخل حزبه وخارجه، بعدما وصف المنتقبات بـ«صناديق البريد أو لصوص البنوك»، في مقال رأي. ورغم أن هذا الوصف جاء في سياق مقال يعارض حظر النقاب، فإن الانتقادات ربطت بين حديث جونسون وظاهرة الإسلاموفوبيا.
إلا أن هذه المقارنة بين ترمب وجونسون قد لا تروق لأنصار السياسي البريطاني المحافظ، الذي توقّع لنفسه مستقبلا باهرا، وأكد لشقيقته وهو طفل أنه سيصبح «ملك العالم». فرغم ترحيبه بـ«صداقة» الرئيس الأميركي، واقتباسه من قاموسه وتباهيه بقدرته على إبرام اتفاق تاريخي للتجارة الحرة مع واشنطن بعد «بريكست»، فإن جونسون الذي خطّط للوصول إلى رئاسة الوزراء منذ شبابه يدرك أن الخطاب الشعبوي لن ينجح في استمالة غالبية الناخبين في المملكة المتحدة، ولن يضمن له النجاح الذي حققه ترمب، بسبب اختلاف التركيبة السياسية في البلدين الحليفين.
وبينما تبقى أوجه الشبه بين الرجلين كثيرة، من الخطابات السياسية النارية التي كثيرا ما تحمل إساءات عنصرية أو دينية، إلى الوعود الفضفاضة بالعظمة والازدهار، مروراً بمشاركتهما الإعجاب الشديد بتشيرشل وحبهما لمدينة نيويورك مسقط رأسهما، فإن وراء الشعر الأشقر وربطات العنق الطويلة وفضائح الخيانات الزوجية، نجد اختلافات جوهرية بين ترمب و«نسخته» البريطانية.
يقول النائب المحافظ وأحد أبرز الداعمين لجونسون، دانييل كازينسكي، إنه «بخلاف لون شعرهما، لا أرى كثيرا من أوجه التشابه بين الرجلين». وأضاف متحدّثا لـ«الشرق الأوسط» أن «الرجلين يتشاركان في نقطة أساسية، وهي عزمهما على الدفاع عن بلديهما واتخاذ قرارات مثيرة للجدل أحيانا لتحقيق هذا الهدف». وتابع أن ما يثير إعجابه في جونسون هو حنكته السياسية وقدرته على الفوز بحملات انتخابية صعبة، ضاربا المثل بفوزه برئاسة بلدية لندن أمام كين ليفينغستون رغم تأخره بـ17 نقطة في استطلاعات الرأي. وردا على ما إذا كان جونسون شعبويا، قال كازينسكي إن ما يسميه البعض شعبوية هو في الحقيقة قدرة على تقديم سياسات تلقى أصداء إيجابية لدى الناخبين. وتابع أن «جونسون قادر على تغيير مزاج حزب المحافظين والبلاد بشكل عام. هناك حماس ملموس لتسلمه مهام رئاسة الحكومة».
ولعل أبرز اختلاف بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني هو أن الأول بنى شعبيته على انتقاد «النخب» السياسية و«مستنقع» واشنطن المؤسساتي، فصنع لنفسه سمعة «ممثّل الشعب» داخل البيت الأبيض الذي يسعى لانتزاع حقوق الطبقات العاملة من «شراهة» سياسيي العاصمة. فيما يعدّ جونسون في المقابل رجل نخبة بامتياز، فقد ارتاد كلية «إيتون» النخبوية التي أنتجت 20 رئيس وزراء بريطانيا، والتحق بجامعة «أوكسفورد» التي تشارك صفوفها مع ديفيد كاميرون، قبل أن ينضمّ إلى صحيفتين مرموقتين ويُطلق مسيرة سياسية متعثّرة وصلت به إلى «10 داونينغ ستريت» هذا الأسبوع.
أما الاختلاف البارز الثاني، فيتعلق ببرنامجهما السياسي. ففي الوقت الذي يلتقيان عند «بريكست»، فإنهما يختلفان حول قضايا الهجرة واستغلالها لتعزيز الشعور القومي. جونسون لم يخفِ دعمه لتقديم عفو عام عن المهاجرين المخالفين المستقرين بالمملكة المتحدة، وإلغاء سقف الهجرة الذي حددته حكومة تيريزا ماي من قبله. إلى ذلك، اختار جونسون تشكيلة حكومية يعكس تنوع أعضائها الاختلاف العرقي في بريطانيا، كما انتقد دعوة ترمب نائبات في الكونغرس إلى «العودة إلى بلدانهن»، واعتبرها غير مقبولة.
ورغم اختلاف أجندتهما السياسية، يراهن ترمب على أن يعمل جونسون بنصيحته ويتعاون مع رئيس حزب «بريكست» الجديد نايجل فاراج، الذي يعتبره ترمب «رجله» في لندن. وكر الرئيس الأميركي هذه الدعوة، عندما استقبل فاراج في تجمع انتخابي بواشنطن وهنّأه على أدائه في الانتخابات الأوروبية. وبينما يتشارك ترمب وجونسون العفوية السياسية، تكاد القناعات السياسية والاجتماعية لترمب وفاراج تتطابق.
ويبقى الاختبار الحقيقي لعلاقة الرئيس الأميركي وساكن «10 داونينغ ستريت» الجديد في مدى نجاح الأخير في تنفيذ «بريكست» وإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في آخر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، والانتقال لإبرام اتفاق تجارة «عادل» للولايات المتحدة وبريطانيا.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.