جونسون أدخل الشعبوية إلى داوننغ ستريت

وعد بتحويل بريطانيا إلى «أعظم دولة على وجه الأرض»

بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
TT

جونسون أدخل الشعبوية إلى داوننغ ستريت

بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)
بوريس جونسون بين مؤيديه خلال زيارة لمدينة برمنغهام بعد توليه رئاسة الحكومة (رويترز)

لم تعد الشعبوية شعاراً فقط. إنها الآن برنامج حكم يتسع على امتداد عدد من الدول الغربية المؤثرة ويمتد صداه إلى دول أخرى. آخر الحصاد الشعبوي تمثل بوصول بوريس جونسون إلى منصب رئيس الحكومة البريطانية. حدث كهذا كان يبدو مستبعداً قبل عقد من الزمن. أن يصل سياسي بمواصفات جونسون إلى قيادة إحدى أعرق الديمقراطيات الغربية. لا حزبه، حزب المحافظين، كان يتيح ذلك، نظراً إلى ميل تقليدي في صفوفه إلى الاعتدال واتساع مساحة النقاش الداخلي، ولا بريطانيا كانت تعرف عنها مسايرتها لسياسات هي أقرب إلى العنصرية والتماهي مع اليمين المتطرف، كما هي اليوم.
لكن هذا المد الشعبوي الذي وصل إلى لندن كان قد سلك طرقاً أخرى بنجاح. أبرزها طبعاً طريقه إلى البيت الأبيض؛ حيث يحكم أبرز الشعبويين، دونالد ترمب، الذي يفاخر بإطلاق لقب «ترمب بريطانيا» على صديقه بوريس جونسون. وعلى الجانب الآخر من القارة الأوروبية، هناك رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، اللذان يتشاركان سياسات العداء للمهاجرين، والدعوة إلى «تنظيف» القارة الأوروبية، وإعادتها إلى «أصولها المسيحية»، التي يعتبران أن الاختلاط العرقي والديني في أوروبا أصبح يشكل خطراً عليها.

«إنه رجل جيد... إنه قوي وذكي. يسمّونه ترمب بريطانيا، وهذا شيء جيد، إنهم يحبونني هناك». هكذا هنّأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب «صديقه» بوريس جونسون، الذي فاز برئاسة الوزراء في بريطانيا. وهكذا اختصر ترمب قصة نجاح رئيس الوزراء الشاب، وتباهى بقوة تأثير ظاهرة أرادها مستشاره السابق ستيف بانون عابرة للقارات.
في أول خطاب له رئيسا للوزراء، وعد جونسون بـ«عصر ذهبي جديد»، عبر «توحيد وتنشيط المملكة المتحدة، وجعلها أعظم دولة على وجه الأرض»، كما أولى اهتماما خاصا بتحقيق ازدهار اقتصادي باهر وتجاوز الاقتصادات الأوروبية بحلول 2050، كلها محاور اختارها جونسون بعناية، تعيدنا أصداؤها إلى خطاب الرئيس ترمب الشعبوي المبني على «استعادة عظمة أميركا» و«السيطرة على الحدود» و«تحقيق أقوى اقتصاد في التاريخ».
ليست هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها خطابا ترمب وجونسون، المعروفان بميلهما لتزوير الحقائق لتعزيز موقفهما. فقد شاب فترة عمل جونسون في بروكسل بصفته مراسلا لصحيفتي «ذي تايمز» و«ذي ديلي تيلغراف» كثير من التزوير وتحريف الحقائق والمبالغات، أدّت إلى طرده من الأولى وشهرته في الثانية. كما يذكّر سجل جونسون كوزير للخارجية المليء بالزلات الدبلوماسية والمزحات المستفزة أحياناً بأسلوب الرئيس الأميركي المثير للجدل. وكان أسوأ خطأ اقترفه جونسون بحق السجينة نزانين زغاري رادكليف، حاملة الجنسيتين الإيرانية والبريطانية، والتي اعتقلتها إيران بتهمة العمل لصالح حكومة أجنبية لإسقاط النظام. وناقض جونسون علناً عائلة رادكليف التي أكدت أنها ذهبت إلى طهران في زيارة عائلية، بعدما قال إنها كانت تدرب صحافيين في إيران قبل اعتقالها. ونفت عائلة نزانين ذلك بشدة، وعبرت عن غضبها وخشيتها من أن تصريحه أثر سلباً على قضيتها وأطال فترة سجنها. كما واجه جونسون وابل انتقادات من داخل حزبه وخارجه، بعدما وصف المنتقبات بـ«صناديق البريد أو لصوص البنوك»، في مقال رأي. ورغم أن هذا الوصف جاء في سياق مقال يعارض حظر النقاب، فإن الانتقادات ربطت بين حديث جونسون وظاهرة الإسلاموفوبيا.
إلا أن هذه المقارنة بين ترمب وجونسون قد لا تروق لأنصار السياسي البريطاني المحافظ، الذي توقّع لنفسه مستقبلا باهرا، وأكد لشقيقته وهو طفل أنه سيصبح «ملك العالم». فرغم ترحيبه بـ«صداقة» الرئيس الأميركي، واقتباسه من قاموسه وتباهيه بقدرته على إبرام اتفاق تاريخي للتجارة الحرة مع واشنطن بعد «بريكست»، فإن جونسون الذي خطّط للوصول إلى رئاسة الوزراء منذ شبابه يدرك أن الخطاب الشعبوي لن ينجح في استمالة غالبية الناخبين في المملكة المتحدة، ولن يضمن له النجاح الذي حققه ترمب، بسبب اختلاف التركيبة السياسية في البلدين الحليفين.
وبينما تبقى أوجه الشبه بين الرجلين كثيرة، من الخطابات السياسية النارية التي كثيرا ما تحمل إساءات عنصرية أو دينية، إلى الوعود الفضفاضة بالعظمة والازدهار، مروراً بمشاركتهما الإعجاب الشديد بتشيرشل وحبهما لمدينة نيويورك مسقط رأسهما، فإن وراء الشعر الأشقر وربطات العنق الطويلة وفضائح الخيانات الزوجية، نجد اختلافات جوهرية بين ترمب و«نسخته» البريطانية.
يقول النائب المحافظ وأحد أبرز الداعمين لجونسون، دانييل كازينسكي، إنه «بخلاف لون شعرهما، لا أرى كثيرا من أوجه التشابه بين الرجلين». وأضاف متحدّثا لـ«الشرق الأوسط» أن «الرجلين يتشاركان في نقطة أساسية، وهي عزمهما على الدفاع عن بلديهما واتخاذ قرارات مثيرة للجدل أحيانا لتحقيق هذا الهدف». وتابع أن ما يثير إعجابه في جونسون هو حنكته السياسية وقدرته على الفوز بحملات انتخابية صعبة، ضاربا المثل بفوزه برئاسة بلدية لندن أمام كين ليفينغستون رغم تأخره بـ17 نقطة في استطلاعات الرأي. وردا على ما إذا كان جونسون شعبويا، قال كازينسكي إن ما يسميه البعض شعبوية هو في الحقيقة قدرة على تقديم سياسات تلقى أصداء إيجابية لدى الناخبين. وتابع أن «جونسون قادر على تغيير مزاج حزب المحافظين والبلاد بشكل عام. هناك حماس ملموس لتسلمه مهام رئاسة الحكومة».
ولعل أبرز اختلاف بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني هو أن الأول بنى شعبيته على انتقاد «النخب» السياسية و«مستنقع» واشنطن المؤسساتي، فصنع لنفسه سمعة «ممثّل الشعب» داخل البيت الأبيض الذي يسعى لانتزاع حقوق الطبقات العاملة من «شراهة» سياسيي العاصمة. فيما يعدّ جونسون في المقابل رجل نخبة بامتياز، فقد ارتاد كلية «إيتون» النخبوية التي أنتجت 20 رئيس وزراء بريطانيا، والتحق بجامعة «أوكسفورد» التي تشارك صفوفها مع ديفيد كاميرون، قبل أن ينضمّ إلى صحيفتين مرموقتين ويُطلق مسيرة سياسية متعثّرة وصلت به إلى «10 داونينغ ستريت» هذا الأسبوع.
أما الاختلاف البارز الثاني، فيتعلق ببرنامجهما السياسي. ففي الوقت الذي يلتقيان عند «بريكست»، فإنهما يختلفان حول قضايا الهجرة واستغلالها لتعزيز الشعور القومي. جونسون لم يخفِ دعمه لتقديم عفو عام عن المهاجرين المخالفين المستقرين بالمملكة المتحدة، وإلغاء سقف الهجرة الذي حددته حكومة تيريزا ماي من قبله. إلى ذلك، اختار جونسون تشكيلة حكومية يعكس تنوع أعضائها الاختلاف العرقي في بريطانيا، كما انتقد دعوة ترمب نائبات في الكونغرس إلى «العودة إلى بلدانهن»، واعتبرها غير مقبولة.
ورغم اختلاف أجندتهما السياسية، يراهن ترمب على أن يعمل جونسون بنصيحته ويتعاون مع رئيس حزب «بريكست» الجديد نايجل فاراج، الذي يعتبره ترمب «رجله» في لندن. وكر الرئيس الأميركي هذه الدعوة، عندما استقبل فاراج في تجمع انتخابي بواشنطن وهنّأه على أدائه في الانتخابات الأوروبية. وبينما يتشارك ترمب وجونسون العفوية السياسية، تكاد القناعات السياسية والاجتماعية لترمب وفاراج تتطابق.
ويبقى الاختبار الحقيقي لعلاقة الرئيس الأميركي وساكن «10 داونينغ ستريت» الجديد في مدى نجاح الأخير في تنفيذ «بريكست» وإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في آخر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، والانتقال لإبرام اتفاق تجارة «عادل» للولايات المتحدة وبريطانيا.



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري