مشهد سياسي جديد في تونس بعد قائد السبسي

تحالفات تخلط الأوراق وتهدّد مصير «الزعماء»

مشهد سياسي جديد في تونس بعد قائد السبسي
TT

مشهد سياسي جديد في تونس بعد قائد السبسي

مشهد سياسي جديد في تونس بعد قائد السبسي

بعد وفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، أكد الرئيس المؤقت محمد الناصر ورئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس الهيئة العليا للانتخابات نبيل بافون، وكل زعماء الأحزاب والنقابات التونسية على استمرارية المسار الانتخابي والدولة التونسية ومؤسساتها، رغم التعديل الجزئي المرتقب في تواريخ الاقتراع العام. فكيف سيتطور المشهد السياسي التونسي بعد وفاة الرئيس قائد السبسي؟ وهل ستثبت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة للشعب التونسي ولدول المنطقة قابلية «الاستثناء الديمقراطي التونسي» على الصمود في واقع عربي ودولي متأزم أو العكس؟ وهل تقنع حرب ليبيا وأحداث الجزائر وبقية أزمات المنطقة ملايين الناخبين بالدفاع عن مسارهم السياسي السلمي والتوافقي، أم تنتقل إليهم عدوى العنف اللفظي والمادي الذي انتشر في كثير من دول المنطقة؟
تكشف المعطيات الأولية التي أعلنت عنها قيادات الأحزاب ورئاسة الهيئة العليا للانتخابات في تونس أن البلاد مقبلة على «فسيفساء سياسية جديدة» يرجح أن تزيد من خلط الأوراق وإرباك المشهد العام. وخلافاً لانتخابات 2011 و2014 حيث أثر «الاصطفاف الآيديولوجي» والموقف من «الإسلام السياسي» في سلوكيات غالبية الناخبين والشباب، يوشك المسار الانتخابي الحالي أن يفرز أقطاباً حسب أولويات جديدة، من بينها المشاريع الاقتصادية والاجتماعية.

تحذيرات من «المافيات»
ولقد شهدت الأسابيع القلية الماضية تصعيداً غير مسبوق في الاتهامات السياسية والعنف اللفظي بين معظم كبار الفاعلين السياسيين. وانخرط رسميون كبار وقياديون في الائتلاف الحكومي وفي حزب رئيس الحكومة يوسف الشاهد في التصعيد والتحذيرات من الدور السياسي لما يُوصَف بـ«المافيا» المالية وبعض «رموز الفساد وتبييض الأموال والتهرّب من الضرائب» و«العائلات التي تحتكر الثروات والنفوذ»، ومن محاولتها توجيه المشهد السياسي. وانخرط شباب مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» وغيره، في المعركة المحتدمة.
وفي هذا السياق، اعتبر محسن مرزوق، رئيس حزب «حركة مشروع تونس» والوزير المستشار السابق لرئاسة الجمهورية، أن «الشكل المافيوي للحكم أصبح واضحاً». وانتقد مرزوق، بالخصوص، رجل الأعمال البارز ورئيس حزب «قلب تونس» نبيل القروي، إذ اتهمه باستغلال قناته التلفزيونية «نسمة» لتصوير نفسه على أنه المدافع عن الفقراء والمهمّشين اجتماعياً والأعمال الخيرية... تمهيداً لدفع البلاد نحو «حكم المافيا» و«اليمين المتوحّش»، وفق زعمه.
كذلك انتقد مرزوق عدداً من المرشحين الذين اتهمهم بـ«الشعبوية» بعدما جعلتهم استطلاعات الرأي في المراتب العليا المتقدمة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، متقدمين على مرشحي الأحزاب الحاكمة والمعارضة الكبرى، كالمحامية عبير موسي زعيمه الحزب الحرّ الدستوري، والمرشح الحقوقي المستقل قيس سعيد. واستطرد مرزوق قائلاً: «إن وصول هؤلاء الشعبويين إلى الحكم سيقود البلاد إلى صراعات لا نهاية لها، وسيعني تسليم البلاد إلى مافيا المال السياسي والفساد».

مع الشاهد وضده
يُذكر أن المكتب السياسي الموسّع لحزب «تحيا تونس» الذي يتزعمه رئيس الحكومة يوسف الشاهد عقد اجتماعاً بحضور نحو 70 من كوادره، وأصدر بياناً في التوجّه نفسه. واتهم الحزب، بالمناسبة، مجدداً حافظ قائد السبسي، نجل رئيس الجمهورية الراحل، الباجي قائد السبسي، وعدداً من المقرّبين منه، بينهم رجل الأعمال القروي، بـ«الفساد، وبالتحضير لإبرام صفقة مالية سياسية تؤثر سلباً على الانتخابات، وعلى مصداقية المسار الديمقراطي التعددي في البلاد».
كذلك اعتبر البرلماني الصحبي بن فرج، القيادي في «تحيا تونس»، أن ملفات التنمية الشاملة والحرب على الفساد ستتصدّر الحملات الانتخابية، ومن ثم، اتهم نجل الرئيس بالتسبب في انشقاق غالبية الحزب الحاكم السابق (أي حزب «نداء تونس»)، لأسباب كثيرة، من بينها تحالفه مع من يزعم أنهم متهمون بـ«الفساد المالي»، مثل المرشح للرئاسة نبيل القروي، وشقيقه غازي. وهنا تجدر الإشارة، إلى أن الأخوين القروي كانا قد مثلا قبل أيام، مجدداً، أمام قاضي التحقيق في القضايا الاقتصادية، وجرى الاستماع إليهما لمدة ساعات، ووجه إليهما الادعاء القضائي التونسي للمرشح الرئاسي اتهامات، من بينها تبييض الأموال والتهرب من الضرائب.
وهنا نشير إلى أن الشاهد باشر قبل سنتين حملة ملاحقة ضد عدد من رجال الأعمال والسياسيين وُجهت إليهم تهم بالفساد والتهرّب الضريبي والتهريب والتآمر على آمن الدولة، بينهم شفيق جراية، هو أحد أبرز أصدقاء نبيل القروي، وبعض السياسيين ورجال الأعمال الليبيين، مثل عبد الحكيم بالحاج زعيم حزب «الوطن» في ليبيا وصاحب قناة «النبأ» الليبية.
وفي حينه، لقي فريق الشاهد دعماً سياسياً وإعلامياً من قبل تيار من المعارضة والحقوقيين عند فتح ملفات الفساد، إلا أنه أصبح بدوره عرضة لاتهامات باعتماد «سياسة الكيل بمكيالين» وأيضاً التعامل بطريقة انتقائية مع المتهمين بالتهريب والتهرب الضريبي.
وفي كل الحالات، يرى مراقبون أن إعادة فتح هذه الملفات اليوم تعني أن الشاهد وأنصاره يلعبون في هذه الانتخابات بورقة محاربة الفساد والتهريب، ويدفعون الناخبين بين المفاضلة بين جبهة انتخابية مع الشاهد وأخرى ضدها، حسب الموقف من الحرب على الفساد.

حلفاء الشاهد من خارج حزبه
ورغم تعطيل المقربين من رئيس الجمهورية الراحل القانون الانتخابي الجديد، الذي يمنع رؤساء الجمعيات الخيرية والمتهمين بالفساد المالي من الترشح للرئاسة والبرلمان، فإنه كان مدخلاً لتشكيل تحالف سياسي حول الشاهد من داخل الائتلاف الحاكم والمعارضة وآخر ضده.
في هذا السياق، انخرطت قيادات حزب «حركة النهضة» وحزب «مشروع تونس» وحزب «التيار الديمقراطي» وبرلمانيون مستقلون في الجبهة القريبة للشاهد، التي تسعى لإقصاء مَن تصفهم بـ«رموز الفساد والاستبداد» من السباق نحو قصر الرئاسة في قرطاج، وأيضاً باتجاه البرلمان المقبل. ولقد دافع محمد عبو زعيم «التيار الديمقراطي» المعارض عن هذا الموقف الذي وصفه بـ«المبدئي»، دعماً للحرب على الفساد التي انخرط فيها رئيس الحكومة ومقربون منه. كما اتهم البرلماني المعارض غازي الشواشي بقوة رموز الجبهة المنافسة للشاهد التي يتزعمها راهناً حافظ قائد السبسي ونبيل القروي. وبرّر الشواشي موقفه بـ«إيمان حزبه بواجب إعطاء الأولوية لمطلب تحقيق الشفافية ومحاربة الفساد، عند انتخاب رئيس الدولة والبرلمان الجديدين».

تزايد تأثير «الشعبويين»
في المقابل، نفى أنصار الحزب الحر الدستوري، بزعامة عبير موسي، وحزب «قلب تونس»، بزعامة القروي والناشط الحقوقي المستقل قيس سعيد، وكذلك المرشح العروبي المثير للجدل الصافي سعيد عن أنفسهم الصبغة «الشعبوية». واعتبر هؤلاء أنهم «يدافعون عن الشعب وليس عن الشعبويين». بيد أن الوزير المستشار السابق محسن مرزوق عاد ليشن حملات عليهم في سلسلة من التصريحات أدلى بها إلى وسائل الإعلام التونسية. وطعن مرزوق في مصداقية بعض المثقفين وممثلي النخبة السياسية الذين ينحازون إلى مَن وصفهم بـ«المرشحين الشعبويين»، ويساندون وصولهم إلى الحكم «بحجة أن ذلك ضد يوسف الشاهد وحزبه وحركة النهضة أو الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم».
وتابع مرزوق قوله: «البعض اليوم مستعد لأي شيء لمجرد أنه يظن أن هذا يضرّ انتخابياً بيوسف الشاهد... وأنا لا أتفق مع الشاهد، ولا حركته، لكنني لا أقبل بهذا، لأنه يضرّ بمصلحة تونس أولاً».

مشاركة الوزراء والرسميين
وفي السياق ذاته، طالب عدد من السياسيين قيادات فريقي الحكم والمعارضة، مثل زهير المغزاوي، زعيم حزب «الشعب» المعارض، ورئيس الحكومة الشاهد، والوزراء الحاليين، بالاستقالة من مسؤولياتهم الحكومية إذا ما قرّروا الترشح للانتخابات المقبلة. كذلك طالب البرلماني والقيادي في حزب «حراك تونس - الإرادة» عماد الدايمي الوزراء والمحافظين وبقية كبار المسؤولين في الدولة «باحترام قاعدة حياد الإدارة» والانسحاب من وظائفهم إذا قرروا الترشح للانتخابات. ناهيك باعتبار الزعيم المعارض غازي الشواشي أن «من يرغب في الترشح عليه أن يترك منصبه، إذ لا يُعقل أن يترشح وزير للانتخابات... ونحن تطالب بالحياد التام في إدارتها». وأردف: «ما دفع بعض التونسيين إلى الشعبوية هو سلوك بعض المسؤولين وأداؤهم السيئ وتعمدهم الخلط بين الحكم والمشاركة في السباق الانتخابي والسياسي».

تأثير المال السياسي
من ناحية أخرى، تشكلت أخيراً جبهات سياسية انتخابية تتحكّم فيها بعض «اللوبيات» المالية والإعلامية والسياسية، في وقت بدأت تتضح فيه ملامح مشهد سياسي جديد يتحكم فيه أساساً أرباب المصالح والبراغماتيون والمتمردون على الطبقة السياسية التي تحكم البلاد منذ نحو 9 سنوات، ولا سيما، بعد تراجع تأثير الزعامات الحزبية والآيديولوجية التي تعلن وفاءها لشعارات ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 و«الربيع العربي».
وفي هذا السياق العام، ثمة مَن يتساءل عن مصير الاستقطاب الثنائي الذي تعاني منه تونس منذ عشرات السنين بين ما يُسمى بجبهتي الحداثيين وأنصار الإسلام السياسي؟ وهل سيتوقف مسلسل الصراعات الآيديولوجية الحادة التي عاشتها تونس وكل محطاتها الانتخابية منذ أكثر من 60 سنة بين العلمانيين والإسلاميين؟
المهدي جمعة، رئيس الحكومة الأسبق وزعيم حزب «البديل»، يعتبر أن الناخبين التونسيين «سئموا الجدل الآيديولوجي العقيم، والمعارك بين الجبهات التقليدية التي تهمّش الملفات الاقتصادية والاجتماعية وتضخّم الخلافات حول المسائل العقائدية والتراثية والنظريات».
ويعتبر جمعة أن مرشحي حزبه في صدارة المتنافسين في الرئاسيات والانتخابات البرلمانية المقبلة، ويستدل على ذلك باحتلال مرشحيه المرتبة الثانية في الانتخابات البلدية الجزئية الرمزية التي نظمت قبل أسبوعين في بلدية باردو بالعاصمة، تونس، حيث مقر البرلمان وعدد من مؤسسات السيادة.

البراغماتية أولاً
وفي هذه الأثناء، أكد علي العريض، رئيس الحكومة الأسبق ونائب رئيس «حزب النهضة» على أولوية البرنامج الانتخابي لحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وتابع قائلاً: «خطابنا لن يكون آيديولوجياً ولا مسانداً للإسلام السياسي، بل سيكون اقتصادياً اجتماعياً براغماتياً». وكان قد أكد التوجه نفسه رئيس «النهضة»، راشد الغنوشي، في كلمة خلال الندوة السنوية للتكنوقراط والكوادر الاقتصادية والإدارية للحزب.
إذ اعتبر الغنوشي أن الطبقة السياسية «نجحت خلال السنوات الماضية في صياغة دستور تقدمي وقوانين دعمت دولة المؤسسات والحريات العامة والفردية، وأصبحت الأولوية اليوم للمشاغل الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية والوسطى»... ومن وصفهم بـ«المستضعفين».
هذا، وتكشف تصريحات رئيس المكتب السياسي لـ«النهضة» نور الدين العرباوي، الذي سيرأس القائمة الانتخابية للحزب في محافظة القصرين الفقيرة أن «الوقت حان لوقف استنزاف الطاقات في المعارك الآيديولوجية والسياسوية، ولإعطاء الأولوية لمشاغل الشباب ومشاكله وللعمل المشترك خلال العملية الانتخابية وبعدها مع الأطراف التي تضع على رأس أولوياتها ملفات التنمية».
وإجمالاً، يبدو أن من أبرز المستفيدين من غياب الرئيس قائد السبسي، في قصر قرطاج وفي قيادة حزب «نداء تونس»، المنشقين عنه الذين التحقوا بحزب الشاهد «تحيا تونس» أو بحزب رئيس حكومة التكنوقراط في 2014، المهدي جمعة.
ولئن نوه قادة معظم الدول الغربية بالوقت القياسي لنقل السلطات سلمياً بعد ساعات من وفاة الرئيس قائد السبسي، فقد تبين أن تونس نجحت حقاً في بناء مؤسسات وقانون لعبة سياسية وانتخابية يحميه الدستور.

ورقة «التطبيع» مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا
> يعتقد كثيرون من صُناع القرار في تونس أن من بين ضمانات الاستقرار في المشهد السياسي الحالي في تونس ما لقيته الحكومات المتعقبة منذ «ثورة يناير» 2011، وأبرز الأحزاب العلمانية والإسلامية من دعم أميركي وأوروبي ودولي.
وفي ظل تمديد الحرب في ليبيا وتعقد الأوضاع في الجزائر، وفي عدد من الدول المغاربية والأفريقية التي تزايد فيها خطر الميليشيات المسلحة والعصابات الإرهابية، قامت باريس وروما وبرلين ولندن وواشنطن بخطوات جديدة في اتجاه تطبيع علاقاتها مع أبرز القيادات السياسية التونسية، بما في ذلك قيادة حزب «حركة النهضة» الذي استقبل وفق قيادي منه خلال الأسابيع الماضية في البرلمانات ووزارات الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
وأعلم الرسميون والساسة الفرنسيون والألمان والإيطاليون قيادة «النهضة» أنهم يراهنون على أن تلعب دوراً في تهدئة الأوضاع في ليبيا، وفي إقناع ساستها المحسوبين على التيار الإسلامي بتطبيع علاقاتهم مع الدول الغربية، وبوقف كل أشكال التعامل مع الميليشيات المتهمة بالإرهاب.

من هم أبرز زعماء الكتل السياسية والانتخابية؟
> يوسف الشاهد: رئيس الحكومة منذ سنتين ونصف السنة، وهو سياسي شاب عمره 43 سنة. كان مقرباً جداً من الباجي قائد السبسي، إلا أنه تمرَّد عليه قبل سنة وأسس حزب «تحيا تونس»، واعتمد خاصة على المنشقين عن حزب «النداء»، بسبب خلافاته مع أفراد من عائلة الرئيس، خصوصاً مع نجله حافظ.
> سليم العزابي: الأمين العام لحزب «تحيا تونس» الذي يرأسه يوسف الشاهد. سياسي شاب في الـ42 من العمر. كان كاتباً عاماً للرئاسة، ثم وزيراً مديراً لمكتب الرئيس، لكنه انشق بدوره عن السبسي بسبب خلافات مع نجله وأفراد عائلته الذين اتهموا بكثرة التدخل في شؤون المال والحكم.
> راشد الغنّوشي: رئيس حزب «حركة النهضة» الإسلامي منذ تأسيسه قبل نحو 50 سنة تحت تسمية «الجماعة الإسلامية» عام 1972، ثم «حركة الاتجاه الإسلامي» عام 1981، وصولاً إلى التسمية الحالية منذ 1989. أعلن أنه سيترشح لعضوية البرلمان وقد يترشح لرئاسته إذا فاز «حركة النهضة» وحلفاؤه بالغالبية.
> محمد عبو: زعيم حزب «التيار الديمقراطي» (يسار الوسط) المعارض، وهو حقوقي شاب كان قيادياً في حزب «المؤتمر» (يسار الوسط) بزعامة الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي ودخل حكومة «الترويكا» عام 2012. لكنه سرعان ما استقال منها بعد أن اتهمها بالتسامح مع المتورّطين بالفساد والاستبداد.
> الدكتور منصف المرزوقي: الرئيس السابق للجمهورية ولحزب «الحراك» (يسار الوسط) المعارض. طبيب ومثقف كان في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي رئيساً للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وناشطاً سياسياً معارضاً. أعلن أخيراً عن نيته خوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة بالتحالف مع رئيس الحكومة الأسبق حمّادي الجبالي (حركة النهضة) وعدد من الحقوقيين السابقين، بينهم المحامي عبد الرؤوف العيادي الأمين العام لحركة «وفاء». ويحاول المرزوقي والجبالي والعيادي وأنصارهم تزعم السياسيين والناخبين المعارضين لمنظومة الحكم الحالية، والمتمسكين بشعار تغيير كامل الطبقة السياسية التي تحكم البلاد منذ 5 سنوات.
> عبير موسي: محامية مناوئة للتيار الإسلامي، كانت أمينة عامة مساعدة للحزب الحاكم قبل «ثورة يناير» 2011. تميّزت عبير موسي منذ مطلع 2011 بمعارضتها القوية للذين اتهمتهم بـ«الانقلاب» على بن علي. وأصبحت منذ سنتين زعيمة للحزب الدستوري، الذي وضع على رأس أولوياته تكوين جبهة معادية لـ«حركة النهضة» ولمَن تصفهم بقوى «الإسلام السياسي». ولقد رجّحت استطلاعات الرأي فوز موسي وحزبها بما لا يقل عن 10 في المائة من الأصوات في الانتخابات.
> نبيل القروي: رجل إعلام وأعمال وصاحب قناة «نسمة» الخاصة التي أسسها مع رجال أعمال من أوروبا والعالم العربي، بينهم رئيس الحكومة الإيطالية السابق سيلفيو برلسكوني، ورجل الأعمال المصري نجيب ساويرس. أعلن قبل أسابيع عن تأسيس حزب «قلب تونس»، ونيته الترشح، قائلاً إن حزبه سيخوض التنافس في كل الدوائر الانتخابية.
تعطيه استطلاعات الرأي المرتبة الأولى في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية رغم الملاحقات القضائية التي تستهدفه مع شركاته بتهم كثيرة، منها تبييض الأموال والتهرّب من الضرائب.
> حمّة الهمّامي: الأمين العام لحزب العمال الشيوعي ورئيس «الجبهة الشعبية» اليسارية التي فازت في انتخابات 2014 بـ15 مقعداً. ترشّح الهمامي في الانتخابات الرئاسية الماضية وحلّ في المرتبة الرابعة، غير أن الانقسامات والانشقاقات داخل تحالفه الانتخابي السياسي «الجبهة الشعبية» استفحلت، وتطوّرت إلى معارك قانونية وسياسية علنية، ما قد يُضعف من حظوظها وحظوظ زعيمها في الانتخابات المقبلة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».