الخرطوم وطهران.. فسخ زواج المتعة

تاريخ العلاقة بدأ مع ثورة الخميني.. ولن ينتهي بإغلاق المراكز الثقافية وطرد الملحق الثقافي الإيراني من السودان

الخرطوم وطهران.. فسخ زواج المتعة
TT

الخرطوم وطهران.. فسخ زواج المتعة

الخرطوم وطهران.. فسخ زواج المتعة

يمكن التأريخ للعلاقات السودانية الإيرانية بالعام 1979، بعيد «الثورة الإيرانية»، واستلام الملالي للحكم هناك، فتحرك الإسلاميون السودانيون، ونظموا تظاهرات عارمة في أنحاء مختلفة من البلاد، فرحا وتهليلا لما سموه وقتها «الثورة الإسلامية».
بيد أن العلاقات بين البلدين عادت لتتوتر مرة أخرى إبان الحرب العراقية - الإيرانية، وإرسال حكومة الرئيس الأسبق جعفر النميري، لقوات عسكرية ومتطوعين للقتال إلى جانب القوات العراقية. فيما بدأت النقلة المهمة في تطور العلاقة باستلام «الجبهة الإسلامية القومية» للحكم بانقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، وسيطرة الإسلاميين بقيادة حسن الترابي على الحكم. وقتها وفر نظام الحكم الإيراني دعما سياسيا كبيرا للإسلاميين السودانيين الذين يقودهم الرئيس عمر البشير، باعتباره نمطا سودانيا للثورة الإسلامية، وزودوهم بالوقود في مواجهة الحصار الذي كان مفروضا على السودان.
راج بشكل كبير أن إيران زودت السودان في أيام الإنقاذ الأولى بأسلحة وطائرات، وأرسلت ضباطا في «الحرس الثوري»، للقتال إلى جانب الجيش السوداني في الحرب ضد التمرد الجنوبي. وعلى الرغم من أن كلا من طهران والخرطوم نفيتا هذا المعلومات، فإنها ظلت تحظى برواج كبير من غرماء الطرفين في الإقليم، ثم لقيت رواجا أكثر بعيد تنفيذ الطيران الحربي الإسرائيلي لعمليات داخل الأراضي السودانية، قبل أعوام قليلة، وما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية من أن هناك «أسلحة إيرانية» يتم تهريبها عبر الأراضي السودانية لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» في غزة، والتي بلغت ذروتها بقصف مصنع «اليرموك» للأسلحة بالخرطوم، في عام 2012 والذي اتهمت الخرطوم به الطيران الحربي الإسرائيلي.
ودشن التعاون العلني بين البلدين، عشية تدمير مصنع اليرموك بالإعلان عن رسو سفن حربية إيرانية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وبتوالي وصول السفن الحربية الإيرانية للميناء السوداني الذي غادرته آخرها في 21 يونيو الماضي. وهكذا ظلت إيران حاضرة في جغرافيا وحدث السودان لوقت طويل، إلى أن فوجئ المراقبون والمحللون بقرارات الفاتح من سبتمبر (أيلول) الحالي، والتي قضت بإغلاق الملحقية الثقافية الإيرانية في الخرطوم، والمراكز الثقافية التابعة لها، وطرد الملحق الثقافي والعاملين في الملحقية خلال 72 ساعة.
وعلى الرغم من أن صيغة القرار كانت مفاجئة، فإن المراقبين اعتبروها متوقعة، لا سيما وأن وزارة الخارجية السودانية، والوزير علي كرتي على وجه الخصوص كان قد أبدى تذمره أكثر من مرة لوصول السفن الحربية الإيرانية لموانئ البلاد، وتجاهل الدبلوماسية من قبل جماعات في السلطة بشأن العلاقة مع إيران، وقوله إنه «علم برسو البوارج والسفن الحربية الإيرانية في بورتسودان من وسائل الإعلام». يقول المحلل السياسي عبد الحفيظ مريود، إن إرهاصات توتر العلاقة مع إيران بدأت منذ أن شرع نظام الحكم في السودان في استقطاب واستقدام مجموعات الإسلام السياسي السلفية «غير الجهادية»، وإثر قبوله لضغوط إقليمية لإشراكها في الحكم. ويضيف إن دخول التيار السلفي بشكل مؤثر، على مستوى تأهيل الأئمة والدعاة ومستوى الخطابة وإمامة المساجد، وتغاضيه عن اتساع نفوذ جماعة «أنصار السنة المحمدية»، وعن تدريس كتاب «التوحيد» للإمام محمد عبد الوهاب، يعد دليلا أوليا على أن الخرطوم ترتب لأمر ما بشأن العلاقة مع إيران.
ويوضح أن عمل المجموعات السلفية المناوئ للوجود الإيراني بدأ يتسع، وأعلن عن نفسه أول مرة بتنظيم مؤتمر مكافحة التشيع في قاعة الصداقة 2013. ويرى مريود فيما يحدث انقلابا مفاهيميا وفكريا لنظام حكم الإسلاميين السودانيين، ويقول: إن «نظام الحكم يهدف من خلال تقريب جماعة أنصار السنة، والمجموعات السلفية الأخرى، إلى إيجاد شخص يمكنه تقديم براهين على أن هؤلاء الحاكمين ليسوا هم الإسلاميين القدماء، لذا يمكنه إعادة تقديمهم لدول مهمة في الإقليم».
وأضاف «الحكومة بحاجة لكبش فداء تتقرب به لمن يعيد تقديمها للعالم مجددا، لذا لا ينبغي النظر لقرار إغلاق الملحقية الثقافية الإيرانية باعتباره عربونا مباشرا لتحسين العلاقة مع دول الخليج العربي، بل هو عربون للشركاء الذين سيتولون عملية إعادة التقديم، وهم في هذه الحالات الجماعات السلفية».
ورأى مريود في القرار تراجعا عما سماه قيم الحركة الإسلامية، وانتصارا لقيم مجموعة المصالح على حساب أنصار الفكر، يقول: «الحركة الإسلامية السودانية ليست ضد التشيع أصلا، وهي تعتبر كتابات علي شريعتي، باقر الصدر، مرتضى المطهري، الدكتور بهشتي، من مصادر تثقيف وبناء كادرها، وقد ترجم القيادي الإسلامي المحبوب عبد السلام كتاب الدكتور علي شريعتي (كتاب الحج)، ونشرته دار (الأصالة)، وهي دار نشر الحركة الإسلامية».
ويضيف: «حسين خوجلي، المحبوب عبد السلام، حسن مكي، أمين بناني، محمد طه محمد أحمد، من قادة الحركة الإسلامية، سافروا للتهنئة بانتصار الثورة الإيرانية، بل إن القيادي الإسلامي الذي اغتيل في ظروف غامضة محمد طه محمد أحمد أطلق على ابنه البكر اسم الخميني».
ويواصل: «وصلت الحركة الإسلامية لمرحلة المبادئ والرؤى السياسية المتغيرة، وهو ما أدى لبروز هذا الصراع بصورة واضحة، وانتصر فيه تيار المصالح على تيار المبادئ، فلا عجب أن يتنكر علي كرتي – وزير الخارجية - لمصادر فكر الحركة الإسلامية ويخرج على الناس بمصطلح الأمن الفكري الذي يهدده التشيع». غير بعيد عن التحليل السابق، فإن خبراء سودانيين يرجحون أن يكون سبب توتر العلاقات السودانية الإيرانية «صفقة» عقدتها الخرطوم منفردة، وقدمت بموجبها علاقتها بطهران قربانا لتحسين علاقاتها مع بلدان الخليج العربي.
وقال أكاديمي إسلامي شهير في حديث لـ«الشرق الأوسط» – طلب عدم كشف هويته – إن أسباب القرار داخلية لا علاقة لها بالصراع الإقليمي، لأن دول الخليج والسعودية غير مهتمة كثيرا، أو غير منشغلة بالعلاقات السودانية - الإيرانية، وأنها تتهم الخرطوم بدعم جماعات «الإسلام السياسي» وجماعة الإخوان المسلمين تحديدا، وبرعايتها في المنطقة.
ويربط الأكاديمي بين نيات الحزب الحاكم وخططه للانتخابات المقبلة وتوقيت اتخاذ قراره بتضييق الخناق على الشيعة وتجفيف النشاط الإيراني في البلاد بقوله: «حزب المؤتمر الوطني الحاكم يخطط للانتخابات المقبلة، ولأنه يعتمد في مشروعيته السياسية على الخطاب الديني والمؤسسات الدينية التقليدية، فإن حملته الانتخابية تحتاج لهذه القوى، وأن قراره هذا مجرد مصالحة معها بعد أن ضجت بما يمكن تسميته الانتشار والتمدد الشيعي في البلاد».
ويوغل في نظرية المؤامرة ويقول: «دعوة الرئيس عمر البشير للحوار، مجرد إشغال للناس لحين موعد الانتخابات، والقرار ضد الشيعة واحد من أدوات الإشغال هذه».
ويضيف: «لا يمكن إغفال أثر الحملة المناوئة للتمدد الشيعي في البلاد، وأطرافها، من حلف السلفية الجهادية والسلفية والصوفية، وهي قوى مؤثرة وحاسمة في تأييد الإسلاميين الحاكمين، وما لم يسترضها نظام الحكم، بمثل هذا القرار، فإنها قد تؤثر على مشروعيته السياسية القائمة على الشعارات الدينية». ويلحظ الأكاديمي البارز التقاء طرفي النقيض «الصوفية والسلفية التقليدية»، وتناسيهما لخلافاتهما الفقهية العميقة ضد ما يطلقان عليه «خطر التمدد الشيعي» القادم من المراكز الثقافية الإيرانية، ويشير إلى الحملات التي شنوها بالتوازي ضد المراكز الثقافية الإيرانية، مستندين على «طبيعة التدين السوداني»، ذي التوجهات السنية المالكية. ويضيف قائلا: «أما الصوفية التقليدية، فهي قلقة جدا من هذا التمدد الشيعي لأنه يهدد قواعدها، مما جعلها تفضل الوقوف مع السلفية الجهادية ضده، بينما تستهدف الحركات السلفية الوجود الإيراني نفسه، استنادا إلى فتاوى دينية ومواقف إقليمية».
وحسب الأكاديمي فإن الحكومة نفسها، واستنادا إلى الشحن الديني الذي قامت وتقوم به الجماعات الدينية المؤتلفة ضد التشيع في البلاد، تخشى من تحول حملات التعبئة الدينية إلى مخاطر أمنية، ومن أن تؤدي لاشتعال حرب بين السلفيين الجهاديين من جهة، والمجموعات الشيعية في البلاد من الجهة الأخرى، وهي حرب حسب وجهة نظرة إذا اشتعلت فستفتح بوابات جحيم على الحاكمين، وتلحق البلاد بمنظومة البلدان التي تفجر فيها الصراع المذهبي الدامي، سيما وأنها لا ينقصها السلاح ولا المجموعات المحاربة. ويذهب أبعد ليقول: «حكومة الخرطوم رغم دوافعها الفعلية غير المعلنة لهذا القرار، فهي تسعى إلى تسويق موقفها الجديد ضد التمدد الإيراني لدول خليجية».
من جهته يقول المحلل السياسي عبد الله رزق إن إغلاق المركز الثقافي لن يغير كثيرا في طبيعة العلاقات مع إيران، بما يجعله ضئيل الأثر في استعادة علاقات السودان مع دول الخليج العربي ومصر، وإعادة بناء الثقة بين السودان والخليج.
ويضيف في تحليل نقلته صحيفة «الطريق» على الإنترنت إن المطلوبات من السودان الإسلاموي، أكثر مما هو مطلوب من قطر الدولة الراعية للإخوان المسلمين، على الأقل فيما يختص بعلاقته بإيران من جهة، وبعلاقته مع جماعة الإخوان المسلمين ومشتقاتها، المصنفة خليجيا ومصريا ضمن نطاق المنظمات الإرهابية.
ويوضح رزق أن المطلوب خليجيا لتنصلح العلاقات هو «قطيعة كاملة بين الخرطوم مع مصادر تهديد أمن دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، باعتباره الحد الأدنى من مطلوبات تطبيع العلاقات مع تلك البلدان». واتفق المحلان السياسيان على أسباب القرار السوداني الداخلية، ويؤكدان أن بلدان الخليج «غير منزعجة كثيرا»، من العلاقة مع إيران بقدر انزعاجها من محاولات الخرطوم لتكون عرابا للإسلام السياسي، وهو الدور الذي تحاول أن تلعبه، سيما بعد ثورات الربيع العربي.
وصف القيادي في حزب المؤتمر الشعبي بشير آدم رحمة ويتزعمه حسن الترابي، القرار لـ«الشرق الأوسط» بغير المستبعد، تبعا لمتغيرات داخل نظام الحكم ومتغيرات إقليمية، ملمحا لتوتر بين المجموعات الشيعية ونظام الحكم، وتلك الدعوة التي أطلقها أحد قادة الشيعة بحمل السلاح لتغيير نظام الحكم في السودان.
ويقول رحمة إن «ضغوطا من المتصوفة والجهاديين والسلفيين، بالإضافة إلى ضغوط رجال السلك الخارجي في الحزب الحاكم ودبلوماسييه لعبت دورا بارزا في الدفع باتجاه اتخاذ القرار بتلك الكيفية».
ومما يرجح التحليلات السابقة، ما لقيه القرار من ترحيب بين جماعات دينية سياسية، وحالة الارتياح التي عمت بين مناوئي المذهب الشيعي، وفي ذات الوقت لا تخلو فرضيه تسويقه لدول الخليج من وجاهة. لا يعد التوتر في العلاقة بين بلدان الخليج والخرطوم خفيا، لكنه ظل مكتوما إلى أن رست سفن إيرانية حربية في الساحل السوداني على البحر الأحمر في أكتوبر (تشرين الأول) وديسمبر (كانون الأول) من عام 2012، بعيد أيام من القصف الإسرائيلي لمجمع اليرموك للصناعات الحربية جنوب الخرطوم. وقصفت إسرائيل أهدافا داخل الأراضي السودانية منذ 2009، تحت ذريعة وقف تهريب الأسلحة الإيرانية من السودان عبر سيناء إلى قطاع غزة، على الرغم من النفي الرسمي الذي دأبت الخرطوم عليه بشأن اتهامها بدعم حركة المقاومة الإسلامية «حماس». وفي سبتمبر 2013 استقبلت البحرية السودانية مرة أخرى سفنا حربية إيرانية، كما ودعت ميناء بورتسودان مايو (أيار) الماضي آخر السفن الحربية الإيرانية التي استقبلها السودان.
ويواجه السودان أزمة اقتصادية خانقة تتمثل في تدهور الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، وضعف أرصدة الدولة من العملات الأجنبية، وبلوغ التضخم مستويات قياسية (46.5 في المائة) في يونيو الماضي، أضيف لها إعلان بنوك سعودية عن وقف تعاملاتها المصرفية مع البنوك السودانية، وقلصت الرياض وارداتها من المواشي السودانية المقدرة بـ50 في المائة من حاجة المملكة، الأمر الذي اعتبره خبراء إجراءات عقابية للخرطوم.
وهو ما جعل وزير الخارجية السوداني علي كرتي يكشف في مايو الماضي للمرة الأولى عن وجود «توتر في العلاقات السودانية السعودية»، مثلما كشف عن رفض حكومته لإنشاء منصة دفاع جوي إيرانية على ساحل البحر الأحمر، لمواجهة العمليات الإسرائيلية داخل الأراضي السودانية. وأدت الضغوط الاقتصادية، لانتصار التيار الداعم لإعادة بناء العلاقات مع دول الخليج داخل المجموعة الحاكمة، وإن استدعى الأمر قطع العلاقات مع إيران، وهو ما ذهب إليه القيادي الإسلامي في حديثه للصحيفة يقول: «أصلا العلاقة مع إيران كانت تقوم على تزويده بالسلاح أيام الحصار المشدد، لكن اعتماد السودان على السلاح الإيراني تراجع كثيرا، إضافة إلى أن العمليات العسكرية التي تقوم الحركات المسلحة تقلص حجمها كثيرا وضعف، وهو ما الذي يشجع الدولة لتحسين علاقاتها ببلدان الخليج مجددا».
وعلى اختلاف دوافعه، فإن قرار الخارجية السودانية بوقف نشاط المركز الثقافي الإيراني، لقي ترحيبا واسعا وسارعت المجموعات الدينية المناوئة لما يمكن أن يطلق عليه «المد الشيعي» لمباركة الخطوة. وفي تحالف نادر بين مجموعات المتصوفة، وجماعة أنصار السنة، اعتبرا فيه الخطوة خيرا كبيرا للبلاد، خطوة يمكن أن تسهم في تحسين العلاقات مع بلدان الخليج، واجتثاث الفكر الشيعي.
لا توجد إحصائيات دقيقة بأعداد الشيعة أو من تشيعوا في البلاد، ففيما تقلل دوائر رسمية من أعدادهم، تقول جماعات دينية أن أعدادهم تجاوزت 12 ألفا، وأن عدد المراكز الشيعية في البلاد حسب تلك الجماعات يتجاوز 15 مركزا، لكن مصادر أخرى ترى أن الأمر مضخم جدا.
يقول مصدر شيعي سابق للصحيفة، إن أعداد وحجم المجموعات التي تشيعت في البلاد أقل كثيرا من الأرقام المتداولة، وحتى عام 2000، فإن العدد لم يكن يتجاوز 2.5 ألف. ويضيف إن المجموعات الشيعية السودانية متفرقة وغير مرتبطة ببعضها البعض، ومتأثرة بخلافات المرجعيات، ويوضح أن الشيعة السودانيين التابعين لمرجعية «قم»، أو جماعة – خط الإمام - هم الأقل عددا وتأثيرا، وأن المجموعة الأكبر بين الشيعة السودانيين والأكثر نشاطا، هي المنتمية لمرجعية «النجف» بالعراق، وأن هناك مجموعات تتبع المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، خصوصا أيام محمد مهدي شمس الدين. وينفي المصدر وجود دعم إيراني مباشر بقوله: «إيران غير قادرة على تقديم دعم للحسينات، وهي تدعم مركزا واحدا، هو مركز الزهراء للتدريب النسوي، وأنها لم تنشط في التوجه لكسب النساء، أما معهد الإمام الصادق، فهو معهد تابع لوزارة التعليم السودانية».
ذكر وزير الخارجية السوداني علي كرتي في تصريحات نشرتها «الشرق الأوسط» عشية قراره، أن الرئاسة السودانية رفضت طلبا إيرانيا بوقف قرار إغلاق المركز الثقافي الإيراني. وقال كرتي: «كنا نتابع نشاط المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم عن كثب للتحقق من التزامه بالأنشطة الثقافية، بعيدا عن تحقيق مكاسب طائفية شيعية دخيلة على المجتمع السوداني».
ووصف نشاط المركز بأنه تهديد للأمن الفكري للبلاد، وأن الإيرانيين كانوا يعتقدون أن الحكومة السودانية راضية عن دوره في نشر المذهب الشيعي، مما جعل ممارساتهم مكشوفة، وأن صبر الخرطوم على طهران قد نفد، وأن السودان يريد تعزيز المصالح بعيدا عن «الإيذاء»، وأنه لن يسمح لإيران باستغلال حاجته على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، أو العسكري، لتحقيق مآربه على حساب المجتمع، والدين، والجوار، والصداقة، عربية كانت أو أفريقية.
من جهتها، فإن الحكومة الإيرانية لم تعلق على ما حدث، ومارست «التقية»، ما خلا تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الرسمية «فارس» عن مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان: «بعض التيارات السودانية تحاول التأثير على العلاقات الطيبة بين طهران والخرطوم».
يجمع المحللون على أن زواج المتعة السوداني الإيراني، يعيش أحلك أيامه، وأن القرار المحدود الذي اتخذته الخرطوم ضد طهران، يعد إعلانا وإيذانا بنهاية عسل ذلك الزواج الذي لم تحظ فيه الخرطوم بعلاقة زوجية يحترم فيها الجيران.
أما طهران فكعادتها ستمارس منهاجها في «التقية»، وقد لا تعامل الخرطوم بالمثل، وهو ما لم يرشح حتى الآن فعلا، فكلتا الحكومتين تضع حساب عودتهما لبيت الزوجية مرة أخرى، فزواج المتعة قابل لدفع المهر أكثر من مرة، خصوصا وأن الزوجين مطاريد جمعتهما «وحدة قاتلة» بين مجتمع الإقليم، بل مجتمعات العالم.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.