ساركوزي... اعترافات أم تصفية حسابات؟

الرئيس الفرنسي الأسبق يخاطب عواطف الفرنسيين ويتخذها ستاراً للعودة إلى الحياة السياسية

ساركوزي... اعترافات أم تصفية حسابات؟
TT

ساركوزي... اعترافات أم تصفية حسابات؟

ساركوزي... اعترافات أم تصفية حسابات؟

على خطى سلفه الرئيس الأسبق جاك شيراك، فاجأ الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الرأي العام الفرنسي والدولي بكتاب جديد يحمل اسم «العواطف» يتناول خلاله مسيرته السياسية منذ نعومة أظافره حتى انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية في 2007، الأمر الذي من شأنه فتح باب التكهنات والتوقعات حول احتمال ظهور جزء ثان للكتاب يتناول تجربته داخل أروقة قصر الإليزيه (2007 - 2012).
يقع الكتاب في 400 صفحة من القطع المتوسط، وصدر فجأة هذه الأيام عن دار النشر الفرنسية «لوبسرفتوار» بعد سرية تامة، إذ لم تعرف وسائل الإعلام عن الكتاب شيئا حتى قبل ظهوره رسميا ببضعة أيام، على عكس ما كان يحدث من قبل مع ظهور أي إصدار لشخصية سياسية مهمة، على الرغم من الاستعدادات الضخمة التي تم إنجازها سراً تمهيداً لصدور الكتاب، منها على سبيل المثال طباعة 200 ألف نسخة من الكتاب الجديد.
يتناول ساركوزي، البالغ من العمر 64 عاما، بداياته السياسية ومراحل تكونه حزبيا بين أروقة حزب «الحركة الشعبية» منذ الاجتماع الأول في مدينة «نيس» الفرنسية عام 1975، ثم اجتماعه مع رئيس الوزراء آنذاك جاك شيراك، وكذلك مسيرته المهنية حتى تقلده حقيبــــة الداخلية في عام 2004، وهي فترة تمثل، كما يقول، أســـــعد فترات حياته المهنية، ثم وصــــــوله إلى قصر الإليزيه في السادس عشر من مايو (أيار) 2007 وهو التاريخ الذي يتوقف عنده الكتاب، ليؤكد أنه تاريخ مهم في حياته العامة وإعلان نتائــــج فوزه عـــــــبر التلفـاز بنسبة 53 في المائة، الأمر الذي مثل له «جيشاناً من الفرحة وللمحيطين به الذين أجهشوا بدموع غزيرة من الفرحة».
هناك فصول في الكتاب قال عنها البعض إنها مليئة بالمجاملة، مثل موقفه من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته بريجيت، التي وصفها بأنها «رقيقة وبسيطة وسيدة رفيعة المقام»، ومدحه لـ«التصرفات الراقية» لإيمانويل ماكرون لأنه أرسل دراجتين بخاريتين تابعتين للشرطة لمرافقة موكب والدة ساركوزي، وهي لفتة يقدرها كثيرا ساركوزي.
إلا أن الرئيس الفرنسي السابق يقول في مكان آخر إنه «إذا كان الشباب عنصرا مهما للوصول إلى السلطة، فإن هذا العنصر يمثل نقطة ضعف خاصة فيما يتعلق بممارسة السلطة ذاتها»، في إشارة واضحة منه إلى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وفيما يتعلق برئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب، فقد وصفه بـ«المخلص والكفء إلا أنه يفتقر إلى الكاريزما». وفيما يتعلق بالرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران، يسترجع ساركوزي ذكريات رحلته معه إلى «سمرقند» مؤكداً إلى أي مدى استفاد ساركوزي من هذه الشخصية الرائعة المفعمة بالإنسانية تجاه شاب مفعم بالطموح. وعلى جانب آخر، نجد ساركوزي يتجه نحو تصفية الحسابات، فيصف رئيس الوزراء الفرنسي السابق فرنسوا فيون، الذي شغل منصب رئيس الوزراء خلال فترة رئاسة ساركوزي، بأنه قادر على فعل أشياء لم يكن يتخيلها، إلا أنه مع ذلك يلقى عليه باللوم، لا سيما فيما يتعلق بإسراعه وتيرة الإجراءات القضائية المتعلقة بمحاكمته. وفيما يتعلق بمستشاره الاستراتيجي السابق باتريك بيسون، يقول ساركوزي إنه لم يكن يقدره مطلقاً، فقد كان يشعر دائما أنه شخص غريب بالنسبة له.
وعن سيغولين رويال، وزيرة البيئة التي خسرت انتخابات الرئاسة ضده، يقول الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي إنها قادرة دائما على تأكيد شيء غير مقتنعة به تماماً.
يشدد ساركوزي على أن كتابه ليس مذكرات شخصية بمفهومها التقليدي، ولكنه «كتاب شخصي» إيمانا منه بأن حياته الشخصية «تتعلق بالشعب الفرنسي العظيم الذي منحه قبلة الحياة ببلوغه قصر الإليزيه»، وأنه يشعر بامتنان كبير تجاه كل فرنسي ساهم بالدفع به نحو بلوغ هذه المكانة.
وبالتالي يوحي ساركوزي باحتمال عودته مجددا للحياة السياسية، لا سيما في ظل النداءات الكثيرة التي أطلقها أنصار حزب اليمين له مؤخرا، مطالبين إياه بالعودة للساحة السياسية مرة أخرى بعد الإخفاق المدوي الذي منيت به قائمتهم في الانتخابات التي أجريت في 26 من مايو 2019. وبعيدا عن هذا وذاك، الكتاب مليء بالمعلومات حول كواليس الأحداث، خاصة ما حدث بالضواحي الفرنسية في خريف 2005 وهو الحادث الذي يعد الأصعب من نوعه في حياة ساركوزي السياسية لعدة أسباب؛ منها أنه جاء في قمة أزمته مع الرئيس شيراك من جانب، ومن جانب آخر، كشفت تلك الأحداث عن مشكلات مجتمعية نشأت وتنامت في قلب المجتمع الفرنسي خلال الثلاثين عاما الماضية، وأثرت كثيرا على المجتمع الفرنسي، إضافة إلى ذلك أن ساركوزي يطرح عبر صفحات كتابه هذا بعض الأفكار والرؤى اللافتة، منها على سبيل المثال فكرة ضرورة إنشاء هيئة دولية عامة للسكان، منوط بها وضع الخطط والسياسات المهمة المتعلقة بالسياسة السكانية لتخطيط النمو السكاني للعالم أجمع، مشدداً على أن هذا التحرك إنما يمثل أحد أهم تحديات القرن الحادي والعشرين. وعلى المسار الزمنى، يأتي ظهور الكتاب بعد فترة وجيزة من الانتخابات الأوروبية التي تراجعت خلالها أحزاب يمين الوسط لصالح الأحزاب الشعبوية وأحزاب اليمين المتشدد، الأمر الذي يمثل خطورة على مستقبل ليس فقط الجمهورية الفرنسية، ولكن أيضا مستقبل القارة الأوروبية.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.