مراجعة الحكم على ثقافتنا

TT

مراجعة الحكم على ثقافتنا

يقول غاندي: «إن ثقافة الأمة تكمن في قلوب وأرواح شعوبها»، فعجبي على بعض القوم الذين يقيسون أنفسهم بمرآة غيرهم! ولا أنكر هنا أنني أقصد قطاع منا نحن العرب، ممن وقعوا تحت براثن هذه المرآة، بالأخص الغربية، فنثبت عندما يأتينا الإطراء منهم، فنؤكد على سمو ثقافتنا وحضارتنا. وعندما يأتينا الانتقاد - وهو النمط الأغلب - فإننا نشعر بالاستياء، وهو أمر طبيعي، ولكن ما ليس طبيعياً هو أن نبدأ في مراجعة أو إعادة تقييم تاريخنا وثقافتنا وفكرنا بقدر من التشكك يجعل البعض يرفضه تشبثاً بقيم لثقافات الغير، لا سيما الغربية، وهو ما أوصلنا اليوم لأن يكون حكم بعضنا على تراثنا وفكرنا، بل وتاريخنا وحاضرنا، مرتبطاً ارتباطاً شديداً ومقارناً بوجهة نظر الغير فينا، حتى أصبحنا متأثرين برؤيتهم لنا، وبفكرهم عنا، وبنظرتهم إلينا، وهي بحق ظاهرة كارثية وجب التنبيه إليها. وواقع الأمر أن هذه قضية ذات شقين: الأول مرتبط بدوافع وأسلوب الغير، خصوصاً الغرب، في نقدنا وانتقادنا (وهو ما سأركز عليه في هذا المقال)، والثاني مرتبط بتلقينا نحن وتعاملنا مع هذا السلوك، وسنعالجه في المقال التالي، وذلك لأن المُصدر والمُستقبل لـ«الرؤية النمطية» (Stereotype) أو النقد على حد سواء يحتاجون إلى مراجعة. وفي هذا الصدد، فإنني أضع بعض النقاط، على رأسها:
أولاً: رغم وجود جذور صراعات سياسية واقتصادية وعسكرية بيننا كدول عربية - إسلامية وبين الغرب، لها تبعات ثقافية ودينية، فإنه يمكن إرجاع جذور «الرؤية النمطية» الحديثة لنا لتتقارب مع حركة الاستعمار الغربي على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، وما تبعه من اعتقاد بسمو الثقافة الغربية، حتى خرج علينا الشاعر «كيبلين» ليتوج فكراً مقيتاً من خلال قصيدته الشهيرة «عبء الرجل الأبيض» التي يشرعن فيها الاستعمار باعتباره مسؤولية الرجل الأبيض لإدخال الحضارة للعالم المتخلف، وفرض ثقافته عليه عنوة، ومن هنا بدأنا نلتقط فكرة تسيد ثقافة وطريقة الحياة الغربية على غيرها حديثاً.
ثانياً: ورغم حركة التحرر التي عمت العالم الثالث، ومنها الأقطار العربية، في منتصف القرن العشرين، فإننا لم نتحرر فكرياً بالقدر الكافي، بل لا زلنا نشهد امتداداً لهذا الفكر بأشكال وأنماط أخرى، وهنا لا يمكن التحدث عن هذه الظاهرة بمعزل عن المفكر العظيم «إدوارد سعيد» في كتابه «الاستشراق» (Orientalism) الذي ينتقد فيه هذه الرؤية الغربية التي منبعها استعماري ذاتي، فيؤكد أن الحكم علينا وعلى تراثنا كان مبعثه المصالح والرؤية الغربية الذاتية، وليس الدراسة النقدية الواقعية لمجتمعاتنا وتراثنا آنذاك. ومع الأسف، فقد امتدت ونمت هذه الرؤية النمطية اليوم، خصوصاً بعد زوال الصراعات الآيديولوجية بنهاية الحرب الباردة لتجعل ثقافتنا، وعلى رأسها ديننا الحنيف، هدفاً بتوصيفه مصدراً للعنف والإرهاب، استناداً إلى شراذم ضالة منا، فساهم بشكل كبير في خلق «الإسلاموفوبيا» التي هي امتداداً للعقل الباطن المرتبط بهذه بالاستشراق، فبدأت الانتقادات المختلفة تنال من طريقة حياتنا ارتباطاً بتسيد الثقافة الغربية، ومن ثم فلن يرضى عنا أغلبية الغرب حتى نتبع فكرهم ونهج حياتهم.
ثالثاً: واتصالاً بما تقدم، فإن كثيراً من المجتمعات ونخبها تصاب في مناسبات كثيرة بظاهرة وصفها علماء علم الاجتماع بـ«التمحور الإثني» (Ethnocentrism)، وهي ظاهرة علمية تمت دراستها منذ مطلع القرن الماضي، ووصلت لاعتقاد علمي بأن رؤية البعض للغير تنبع من واقع رؤيتهم لأنفسهم وثقافتهم وتاريخهم، فالقياس هنا يكون عبر الاعتقاد الذاتي بسمو الهوية الجماعية لمن يقيس، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، وهو ما سينتج عنه حتماً قياساً خاطئاً نتيجة للاختلال النسبي للمعايير المقارنة، وعلى رأسها الموضوعية، فيكون من ضمن نتائجه توجيه السهام الفكرية والثقافية لتضرب جذور هويتنا وفكرنا.
رابعاً: فإذا كان ما تقدم يعبر عن العلية تجاه بلورة هذه المنحى من الرؤية الغربية تجاهنا، فإن هذه الظاهرة تحتاج إلى تغليف فكري لهذا المضمون السلبي، وهو ما يبرر التوصيف الذي كثيراً ما نسمعه عنا، وهو أننا ضمن آخرين «مجتمعات تقليدية»، وهو البديل المهذب لنعتنا بـ«المجتمعات المتخلفة» أو غير المُحدثة، وقد سمعته كثيراً، فالمقصود في واقع الأمر هو أنها مجتمعات لا تقتفي أثر التجربة والقيم الغربية المُحدثة، ومن ثم رفضها للوصول إلى الحداثة المنشودة. إن هذه «الشوفينية الثقافية» المتسيدة لدى بعض العامة والنخب الغربية تتفاعل سلباً تجاهنا، فيتم انتقادنا دون علم أو احترام لثقافتنا وتراثنا، وقد وجب القول إنها ظاهرة أصابتنا نحن أيضاً في نظرتنا تجاه مجتمعات أخرى على مر تاريخنا، ولهذا حديث آخر.
خلاصة القول إننا أمام ظاهرة «شوفينية» تتحكم في رؤية كثيرين نحو حضارتنا وثقافتنا وتاريخنا، تقيسه بمقاييسها المرتبطة بتركيبة مجتمعاتها، ولكن مع التطور والانفتاح وثورة المعلومات، فإن هذا السلوك أصبح غير مقبول، ولكنه يظل مستمراً، فالأغلبية عبيد لتاريخهم، ولكن العبء الأكبر يقع في تعاملنا نحن مع هذا السلوك الذي يحتاج لمراجعة صريحة منا حتى لا يتم تخفيف أو ترقيق هويتنا وإذابتها تدريجياً، ولهذا حديث آتٍ.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.