ألمانيا تحيي ذكرى محاولة اغتيال هتلر قبل 75 عاماً

اليمين القومي يحاول استغلال الحدث التاريخي لصالحه

ميركل أمس مع إكسل سمند رئيس مؤسسة 20 يوليو (إ.ب.أ)
ميركل أمس مع إكسل سمند رئيس مؤسسة 20 يوليو (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا تحيي ذكرى محاولة اغتيال هتلر قبل 75 عاماً

ميركل أمس مع إكسل سمند رئيس مؤسسة 20 يوليو (إ.ب.أ)
ميركل أمس مع إكسل سمند رئيس مؤسسة 20 يوليو (إ.ب.أ)

في 20 يوليو (تموز) 1944، وضع الضابط الأرستقراطي الألماني العقيد كلاوس شينك غراف فون شتاوفنبرغ متفجرات موقوتة في حقيبته خلال اجتماع في مقر «القائد» الذي كان يسمى «وكر الذئب» بالقرب من راستنبورغ التي أصبحت اليوم في بولندا. محاولة الاغتيال أخفقت ومعها الانقلاب، ولم يصب الزعيم النازي أدولف هتلر سوى بجروح طفيفة. وتمثل العملية التي سميت «فالكيري» وشارك فيها عدد من المدنيين والعسكريين، عمل مقاومة ضد النظام النازي. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صرحت مؤخرا بأن «الذين تحركوا في العشرين من يوليو هم قدوة لنا». وترى المستشارة الألمانية أن الدستور الألماني المؤسس لدولة القانون «ما وُلِد بشكله الحالي» من دون عمل فون شتاوفنبرغ، الذي شارك في الحملة الأفريقية التي قادها الماريشال إيرفين رومل، وخسر إحدى عينيه وإحدى يديه خلالها. وتم إعدام فون شتاوفنبرغ وثلاثة ضباط آخرين من المتآمرين مساء اليوم الذي تمت فيه محاولة الاغتيال في الباحة الداخلية لمبنى «بندلربلوك» التابع لوزارة الدفاع. وأعدم النازيون في الأسابيع والأشهر اللاحقة 89 مشاركا وداعما آخرين لمحاولة الاغتيال.
وأمس أحيت ألمانيا ذكرى محاولة الاغتيال الفاشلة التي وقعت قبل 75 عاما، بينما يحاول اليمين القومي استغلال الحدث التاريخي لصالحه. ويبدو تصريح ميركل أقرب إلى توضيح، في بلد ما زال يشهد جدلا حول الكونت فون شتاوفنبرغ.
بمراسم أداء يمين لأربعمائة جندي في الجيش الألماني، أحيت الحكومة الألمانية الذكرى.
وتعهدت وزيرة الدفاع الجديدة، أنيغريت كرامب - كارنباور، لجنود جيشها خلال المراسم التي جرت في ميدان «باراده بلاتس» أمام مقر وزارة الدفاع في العاصمة برلين، ببذل كل الجهود من أجل تلبية مطالبهم. وقالت الوزيرة، التي تتزعم الحزب المسيحي الديمقراطي المنتمية إليه المستشارة أنجيلا ميركل: «بأدائكم اليمين اليوم، تعززون من قدرة الدفاع عن ديمقراطيتنا»، مضيفة أن الشكر وحده لا يكفي. وشارك في المراسم إلى جانب المستشارة ميركل أيضا، رئيس المحكمة الدستورية العليا أندرياس فوسكوله، والرئيس الألماني السابق يواخيم جاوك، ووزير المالية أولاف شولتس، ووزير الصحة ينز شبان. وقالت وزيرة الدفاع أمام الجنود وذويهم: «يتعين علينا الاهتمام بإحياء الذكرى، ونقلها للآخرين، والعمل على عدم فقدان الدروس المستفادة من التاريخ». وقالت في أول ظهور كبير لها بصفتها وزيرة للدفاع منذ توليها مهام منصبها قبل أيام قليلة: «خدمتكم تتطلب الاحترام والتقدير والدعم مني أولا قبل أي فرد»، مضيفة أنها تعلم أن ألمانيا بإمكانها الاعتماد على جنودها، وقالت: «وأنا أقول لكم: بإمكانكم الاعتماد علي!».
وفي الخارج، يعتبر فون شتاوفنبرغ بطلا بلا أدنى شك كما ظهر في فيلم هوليودي كان بطله توم كروز في 2008. لكن في ألمانيا نفسها، ما زال الجدل دائرا إذ يعتبر منتقدوه أنه تأخر في التحول من مؤيد للنازية إلى مدبر هجوم ضد هتلر. كما اعتبر لفترة طويلة «خائنا» في مجتمع ما زال يحمل آثار سنوات الحكم النازي، على حد قول يوهانس توشيل مدير النصب، في مقال نشرته صحيفة «دي تاغيستسايتونغ» التي تصدر في برلين.
وقال كورت سالتيربرغ الجندي الذي كان حاضرا يوم الهجوم، في مقابلة مع صحيفة «فرانكفورتر ألغماينة تسايتونغ»، إنه «في نظرنا، كان فون شتاوفنبرغ جبانا لم يستخدم مسدسا بل متفجرات مع جهاز توقيت ليتمكن من الخروج سالما».
ولم يعترف فعليا بالمقاومة ضد النازية قبل ثمانينات القرن الماضي. لكن المؤرخين يتحفظون على ذلك. وقال المؤرخ هرفريد مونكلر لإذاعة «إن دي آر» إنه «مع بعض الاستثناءات لم يكونوا ديمقراطيين يؤمنون بذلك». ويلخص المؤرخ غيرد أوبرشير في كتاب نشر مؤخرا الأمر بالقول إنهم كانوا يدافعون عن رؤية نخبوية مناهضة للتعددية، وباختصار «صورة بعيدة جدا عن مجتمع منفتح وديمقراطي». وهذا ما يغري اليمين القومي المتطرف. فقبل عام، رفع حزب البديل من أجل ألمانيا صورة للكولونيل، مؤكدا أن «العصيان المدني والفكر النقدي هما من واجبات المواطن». ويرى توشل أن هدف اليمين القومي واضح وهو أن يظهر ضحية «لديكتاتورية ميركل» ليكرر خطاب هذا الحزب ويكتسب عبر استناده إلى مقاومة النازية، شرعية لنشاطاته السياسية. وكتب أن «نموذج عدد قليل من الأشخاص قاوموا النازية يعود إلى التقاليد الليبرالية في تاريخ ألمانيا (...) وليس إلى متطرفين يمينيين أو رجعيين».
وفي سياق متصل، طالب رئيس حزب «البديل من أجل ألمانيا» يورغ مويتن، الجناح اليميني القومي داخل حزبه، والمعروف باسم «الجناح»، بالنأي بوضوح عن أي توجهات متطرفة. وقال مويتن في تصريحات لصحف مجموعة «فونكه» الإعلامية الصادرة أمس السبت، كما نقلت عنها الوكالة الألمانية: «أطالب (الجناح) بالنأي المطلق عن أي تطرف... هذا أمر حتمي. نحن نريد أن نكون حزبا شعبيا. ومن أجل ذلك لا ينبغي لنا التساهل مع أي حماقة». تجدر الإشارة إلى أن المتحدث باسم «الجناح»، الرئيس الإقليمي للحزب في ولاية تورينغن بيورن هوكه، أثار غضب كثير من الساسة في الحزب بسبب إعلانه الحرب مؤخرا على القيادة الاتحادية للحزب. وأكد مويتن أنه يشاطر ساسة الحزب الانتقادات ضد هوكه، وأضاف: «لكني أعتقد أنه سمع الطلقة. لقد قال بوضوح هذا الأسبوع إنه يدعم تماما القيادة الاتحادية المنتخبة للحزب، بصرف النظر عن انتقادات معتدلة في حالات فردية». وذكر مويتن أن «الجناح» تيار حزب طبيعي تماما، فهو «محافظ قومي على نحو حازم، لكن على أرضية الدستور».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟