يعِد العنوان الفرعي للكتاب الجديد الذي ألفه جاك سترو بمساعدة القارئ على «فهم إيران». ومع هذا، فإن ما يحصل عليه المرء خلال 390 صفحة يمكن وصفه على أفضل تقدير بأنه سوء فهم لإيران اليوم. وهو سوء فهم منع بريطانيا، بجانب عدد من القوى الغربية الأخرى، من تطوير سياسة واقعية للتعامل مع إيران، وساهم في إطالة أمد أزمة سببها السلوك المتشدد للجمهورية الإسلامية على الساحة الدولية.
وربما ينبع سوء فهم سترو من «افتتانه المطلق» بإيران التي تسكن خياله، ويحمل سوء الفهم ذلك ثلاثة جوانب:
أولاً: يعتقد سترو لأن إيران حضارة قديمة وقدمت شعراء عظماء وتبرع بشكل خاص في صناعة السجاد وتقدم للعالم واحداً من أروع المطابخ، ولهذه الأسباب، فإنها تستحق التسامح مع النشاطات الغريبة التي تتورط فيها في عدد من المجالات الأخرى مثل احتجاز رهائن والترويج للكراهية وانتهاك حقوق الإنسان وتصدير الإرهاب تحت مسمى الثورة. ويبدو الأمر أشبه بإظهار التسامح تجاه ستالين لأن المرء يشعر بتقدير تجاه بوشكين وتشايكوفسكي ويستمتع بطبق من البورشتش الروسي. ودعونا نتساءل كيف كان سيكون الحال إذا تسامحنا تجاه هتلر لأننا نحب فريدريك شيلر وبيتهوفن وسلطة البطاطا؟ في الواقع، مسألة أن كورش الكبير كان ملكاً عظيماً، بل وربما راعى حقوق الإنسان في إيران، مثلما يشير سترو، لا يبرر القتل الجماعي للسوريين على يد جيش مرتزقة يقوده ملالي إيران ـ وهو مثال واحد على تجاوزات النظام الإيراني الحالي.
ثانياً: يدور «سوء الفهم» حول اعتقاد سترو الغريب بأن النخبة الخمينية الحاكمة تتضمن فصيلاً «إصلاحياً» يتوق لبناء علاقات وثيقة مع الأنظمة الغربية الديمقراطية، وبالتالي يجب دعمه لإلحاق الضعف بالفصيل «المتشدد» الذي يقوده «المرشد الأعلى» علي خامنئي، والتخلص منه تماماً نهاية الأمر. لكن من هم «الإصلاحيون» الذين يدعي سترو أنه اكتشف وجودهم داخل إيران؟ يذكر سترو عدداً من الأسماء منها الرئيسان السابقان هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي، والرئيس الحالي حسن روحاني، والمرشحان الرئاسيان السباقان حسين موسوي ومهدي كاريبا، وكلاهما قيد الإقامة الجبرية، بجانب عدد من المسؤولين الحاليين أو السابقين من رتب أدنى، مثل محمد جواد ظريف وكمال خرازي، الذي وصفه سترو بـ«صديقي القديم» ومصطفى تاج زاده.
تكمن المشكلة هنا في أن سترو عجز عن ذكر إصلاح واحد جرى اقتراحه، ناهيك عن تنفيذه، من جانب الفصيل «الإصلاحي» المزعوم في طهران. الأسوأ من ذلك أن سترو ينسى أنه وقعت أعداد أكبر لعمليات إعدام وإلقاء قبض على أشخاص لأسباب سياسية في ظل خاتمي وروحاني عما حدث أثناء رئاسة محمود أحمدي نجاد الذي من المفترض أنه من الفصيل «المتشدد».
ثالثاً: يتضح من الكتاب أن سترو يرى أنه عند التعامل مع الجمهورية الإسلامية، ثمة خياران لا ثالث لهما: إما ابتلاع أي شيء تفعله إيران ولو على مضض، أو شن حرب شاملة ضدها.
جدير بالذكر، أن سترو كان واحداً من أقوى الأصوات المؤيدة لشن حرب لتدمير نظام صدام حسين في العراق، ولطالما أكد على أن النظام البعثي في بغداد لم تعد تجدي معه محاولات الإصلاح.
ومع ذلك، عندما ينتقل الحديث إلى الجمهورية الإسلامية، يتحول وزير الخارجية البريطاني السابق إلى حمامة سلام مسالمة تماماً، ويرى أن السبيل العقلاني الوحيد لتغيير سلوك إيران هو الاعتماد على الجهود الدبلوماسية. ويزعم سترو لنفسه بعض الفضل عما نعرفه اليوم بالخطة المشتركة الشاملة أو «الاتفاق النووي الإيراني» الذي تزعمته إدارة أوباما. وكان سترو أول من روّج لهذه الفكرة لدى وزيرة الخارجية الأميركية في رئاسة جورج دبليو. بوش، كوندوليزا رايس، عام 2006 قبل أن ينقله رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، إلى منصب آخر.
جدير بالذكر، أنه على مدار العقدين الماضيين، زار سترو إيران سبع مرات، خمس منها وزيراً للخارجية. وفي واحدة من هذه الزيارات كان جزءاً من وفد برلماني يضم لورد لامونت والزعيم الحالي لحزب العمال جيريمي كوربن الذي كان يعمل حينها لحساب قناة «بريس تي في» المملوكة للحرس الثوري الإسلامي في إيران. وفي واحدة من زياراته الخاصة لإيران، وكان برفقته زوجته واثنان من الأصدقاء، تعرض كوربن لمضايقات وجرى إخراجه من إيران نهاية الأمر على يد واحدة من الوكالات الأمنية التاسعة العاملة داخل الجمهورية الإسلامية.
ووجه سترو انتقادات للرئيس دونالد ترمب لرفضه الدبلوماسية السرية في وقت يرى زعماء إيران أي محاولة علنية للتقارب باعتبارها إهانة لنظامهم. وزعم أن «الاتفاق النووي» كان ليكتمل حال عقد مزيد من المحادثات السرية حول قضايا أخرى تهم القوى الغربية، بما في ذلك تدخل الجمهورية الإسلامية في الشؤون الداخلية لكثير من الدول العربية. ويرى سترو أن الخطة المشتركة الشاملة الأولى كان يمكن أن يتبعها الكثير من الخطط المشابهة للتعامل مع قضايا حقوق الإنسان، سعياً وراء تهميش وتقويض نفوذ «المرشد الأعلى» نهاية الأمر.
ومع ذلك، لم يقدم سترو أي دليل على أن هذا الاتفاق مختلف عن أي اتفاقيات أخرى أبرمت مع الجمهورية الإسلامية على مدار الأربعين عاماً الماضية، وسيترك تأثيراً دائماً على استراتيجية وسلوك النظام الخميني. الحقيقة أن حكام إيران الخمينيين أتقنوا دبلوماسية الخداع والتراجع. وفي أي لحظة يشعرون بوطأة ضغوط شديدة عليهم، يسارعون لتقديم تنازلات، يجري التراجع عنها لاحقاً بمجرد تخفيف الضغوط عليهم. الأهم عن ذلك، أن سترو أخفق في إدراك أن «المعتدلين» من وجهة نظره بما فيهم روحاني وخاتمي يفتقرون إلى الدعم الشعبي اللازم لتهميش خامنئي، ناهيك عن التخلص منه تماماً.
على مدار صفحات الكتاب، طرح سترو عدداً من الافتراضات تشيع بين من يطلقون على أنفسهم «محللين مختصين بالشأن الإيراني»، منها تقسيم السلطات داخل النظام الإيراني بين المسؤولين المنتخبين والآخرين غير المنتخبين. في هذا الإطار، يدعونا سترو للاعتقاد بأن خامنئي، الذي من المفترض أنه غير منتخب، يتمتع بشرعية أقل عن روحاني، مثلاً، باعتبار الأخير مسؤولاً منتخباً. ومع هذا، فإن الحقيقة أن مجلس الخبراء، المنتخب عبر التصويت الشعبي، هو من يتولى انتخاب خامنئي. في الوقت ذاته، فإن روحاني، مثل سابقيه، لم يكن باستطاعته أن يصبح رئيساً دون صدور حكم تنفيذي من «المرشد الأعلى».
أيضاً، فإن سترو خاطئ في اعتقاده بأن المجلس الإسلامي، الذي يصفه عن طريق الخطأ بأنه «المجلس الاستشاري الإيراني»، يخضع لمجلس الأوصياء الذي يصفه، عن طريق الخطأ كذلك، بأنه «صنيعة المرشد الأعلى» وحده.
وسعياً لتعزيز افتراضه بأن الملالي لديهم أحقية تكاد تكون فطرية في حكم إيران، يبالغ سترو في أهمية الدور الذي اضطلع به رجال الدين الشيعة على الساحة السياسية الإيرانية على مدار القرون الخمسة الأخيرة. على سبيل المثال، تحولت فتوى تحرم تدخين التبغ أطلقها آية الله مغمور من وجهة نظر سترو إلى حدث جلل. ومع أن رجال الدين لعبوا دوراً بالفعل في الثورة الدستورية عام 1906، لكن فقط باعتبارهم قوة فرعية. أيضاً، ساند الملالي الشاه في طرده رئيس الوزراء محمد مصدق عام 1953، حدث وصفه سترو بأنه «انقلاب» دبرته الاستخبارات البريطانية ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه). أما مسألة أن الشاه عيّن وطرد بالفعل مصدق من منصب رئيس الوزراء مرتين دون أن يتحدث أي شخص عن انقلاب، فيتجاهلها سترو تماماً.
الواضح أن سترو يمقت الشاه بهلوي ويحاول جاهداً تقديمه في أسوأ صورة ممكنة، ربما سعياً لتبرير ثورة الملالي عام 1979.
أيضاً، يبالغ سترو في الدور الذي لعبه البريطانيون في إيران. كانت النخبة الإيرانية الحاكمة الفاسدة، وبخاصة خلال العقود الأخيرة من الحكم القاجاري، قد استغلت تدخل بريطانيا وروسيا، العدوين الإمبرياليين لإيران آنذاك، ذريعةً لتشتيت الأنظار بعيداً عن فسادها وافتقارها إلى الكفاءة.
في الواقع، ليس بإمكان أي قوة أجنبية فرض إرادتها ولو على أشد الأمم ضعفاً دون مساعدة على الأقل من بعض العناصر داخل الطبقة الحاكمة بهذا البلد. وتعكس المقولة الفارسية المشهورة «كله من صنع الإنجليز!» مشاعر سخط دفينة تجاه الدور الذي لعبه البريطانيون في الشؤون الإيرانية خلال قرن.
ومع هذا، فإن هذه المقولة غالباً ما يجري استغلالها مزحةً أكثر عنها تعليقاً جاداً على أحداث تاريخية. في الواقع، لم يكن هناك قط وجود بشري بريطاني كبير في إيران. وكانت شركة النفط الأنغلو ـ إيرانية تعمل على أقل من 1 في المائة من مساحة إيران، وفي ذروة نشاطها وظفت ما يقل عن 200 من غير الإيرانيين، معظمهم من الحراس والسائقين السيخ من إقليم البنجاب. علاوة على ذلك، لم تظهر بريطانيا بين أكبر خمسة شركاء تجاريين لإيران قط، ولم تتمكن من منافسة فرنسا وألمانيا، ومنذ عام 1960، أصبحت عاجزة عن منافسة الولايات المتحدة مع اجتذاب الدول الثلاث للكثير من الإيرانيين الساعين لاستكمال تعليمهم العالي بالخارج.
وقد غزا البريطانيون إيران بالفعل، بالتنسيق مع السوفيات، عام 1941 وليس عام 1942 مثلما ذكر سترو، لكنهم لم «يحتلوا كامل إيران»، مثلما يبدو أنه يعتقد. في الحقيقة تمركزت القوات الاستطلاعية التي كانت تتألف في الجزء الأكبر منها من مجندين من الهند، داخل واحدة من خمس محليات إيرانية، وبدءاً من عام 1943 خضعت هذه القوات لقيادة أميركية حتى الانسحاب الكامل بعد ذلك بعامين. أما خرافة «المهمة الإنجليزية» فقد جرى تصميمها لإطالة أمد العداء بين الأمتين اللتين عايشتا تقلبات بين علاقات الانجذاب والكراهية مثلما الحال مع الكثير من العلاقات البشرية على مر التاريخ.
أما رواية «عزيزي عمي نابليون» التي ألفها إيرج بزشكزاد فتستخدم عبارة «هذه مهمة إنجليزية» مزحةً. والمفارقة، أنها كتبت في سبعينات القرن الماضي، وليس الأربعينات حسبما يؤكد سترو.
بوجه عام، من الممتع قراءة كتاب سترو، لكنه يتضمن الكثير للغاية من الأخطاء في سرد الوقائع، وكذلك تكهنات دون أدلة تدعمها. مثلاً، أشك في أن نجل آية الله خامنئي الثاني، مجتبى، لديه أي فرصة في خلافة والده كـ«مرشد أعلى»، حتى وإن ظل النظام قائماً. أيضاً، يبالغ سترو في مكانة آية الله ناصر مكرم شيرازي وآية الله صادق لاريجاني الذي يترأس حالياً مجلس تشخيص مصلحة النظام. ربما يشعر سترو بالإعجاب تجاه لاريجاني لقدرته على الحديث بالإنجليزية «بطلاقة»، لكنه يفتقر إلى مكانة حقيقية في إطار هيئة رجال الدين الشيعة.
جدير بالذكر، أن اللغة الأم لخامنئي الفارسية وتنتمي والدته إلى أصفهان، وثمة ادعاءات بأنه من نسل الشاعر كمال الدين إسماعيل. أما والده فمن أذربيجان ويتحدث اللغة الأذرية، واحدة من اللغات الالتائية.
يذكر أن آية الله الخميني لم تكن لديه معرفة واسعة بالفلسفة اليونانية؛ لأن معظم أعمال الفلاسفة اليونانيين، بما في ذلك أفلاطون وأرسطو التي ذكرها سترو لم تترجم بعد إلى الفارسية أو أي لغة أخرى داخل العالم الإسلامي.
كما أن بعض ادعاءات سترو غريبة لدرجة لا تستحق التعليق عليها. مثلاً، يقول: «إيران واحدة من أكثر المجتمعات علمانية، فالناس يضحكون على ما يقوله الملالي». ومع هذا، يعتقد أن الملالي سيحكمون إيران ربما إلى الأبد. ومع هذا، يقول: «تحت السطح، إيران بعيدة كل البعد عن الهدوء، فالنظام يسير باتجاه وغالبية الشعب في اتجاه آخر».
وبالنسبة لشخص يبدو منحازاً إلى صف الجمهورية الإسلامية، يعد هذا بمثابة اعتراف خطير!
فهم إيران... أم سوء فهمها؟
وزير خارجية بريطانيا السابق يصدر كتاباً مليئاً بالمغالطات
فهم إيران... أم سوء فهمها؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة