مياه صالحة للشرب تحت البحر اللبناني المالح تعوض جفاف الشتاء

22 نبعا عذبا في الأعماق تنتظر قرارات حاسمة لحل الأزمة

محمد السارجي نقيب الغواصين  -  المياه العذبة في قعر البحر
محمد السارجي نقيب الغواصين - المياه العذبة في قعر البحر
TT

مياه صالحة للشرب تحت البحر اللبناني المالح تعوض جفاف الشتاء

محمد السارجي نقيب الغواصين  -  المياه العذبة في قعر البحر
محمد السارجي نقيب الغواصين - المياه العذبة في قعر البحر

من يذهب إلى بحر لبنان لا يرجع وهو عطشان. في المياه المالحة يبحث اللبنانيون عن مياه عذبة، تعوض جفاف الشتاء وغياب السياسة المائية للحفاظ على ثروة باتت تضاهي النفط. وفيما ترتفع بعض الأصوات مطالبة بشراء المياه التي أصبحت نادرة في لبنان من تركيا، هناك من يؤكد على وجود مياه صالحة للشرب تحت مياه البحر اللبناني.
«إنه حدث قد يقلب الموازين في المنطقة». هكذا يصف بعض الخبراء الإعلان عن ينابيع عذبة تخرج من قعر البحر اللبناني، في هذا الوقت بالذات، وفي منطقة تشكل الثروات الطبيعية فيها لب الصراع والنزاع.
ينابيع المياه العذبة في قعر البحر محور الدراسة الجديدة التي تعدها باخرة «قانا» العلمية التابعة لـ«المجلس الوطني للبحوث العلمية» بهدف إيجاد بديل لعطش لبنان. إلى قاع البحر كانت الرحلة لمعرفة مصدر الفوران الحاصل على سطح البحر، حيث ترصد الجزيئات العضوية التي تتحرك بطريقة عشوائية، وكلما تعمقت أكثر تتغير كثافة المياه، فتجد نصفه شفافا ونصفا آخر تكتنفه الغشاوة، تحاول التحديق أكثر لكن المشهد على حاله، ليكون «البرزخ الفاصل بين المياه العذبة والمالحة ويحول دون أن يتمازجا».
ويسجل نقيب الغواصين المحترفين في لبنان محمد السارجي، اكتشافا مائيا عذبا جديدا في عمق البحر في المياه الإقليمية اللبنانية. ويمكن للاكتشاف أن يضاف إلى الثروة المائية اللبنانية لو أحسن استخدامه أو استخرجت مياهه بكمياتها الكبيرة. وقد أطلق فريق الغواصين على اكتشافهم الذي وثقوه بالصور تسمية «فوار هايدي».
ويشير السارجي في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «هذه المياه موجودة منذ آلاف السنين، وبكميات ضخمة بلا شك» و«أجزم بأنها تغطي حاجة الشعب اللبناني من مياه الشرب بل وتزيد، بحيث يمكن للبنان تصدير هذه الثروة إلى الخارج، بدءا بمنطقة الخليج وغير الخليج».
البحر اللبناني يحتوي على 22 نبعا عذبا تتدفق من القاع وعلى امتداد الشاطئ من الناقورة جنوبا إلى العبدة شمالا، في شكا يقع أحدها وفي صور يقع القسم الأكبر منها، وتحديدا في منطقة القاسمية، حيث تخرج من عمق يتراوح بين 37 و45 مترا، وبغزارتها تكاد تضاهي تدفق مياه الليطاني، وتتم عملية رصدها عبر الفقاقيع المنبعثة من المياه المتدفقة صعودا حيث تخرج المياه باردة ولذيذة غير مالحة رغم أنها من البحر.
ويكشف السارجي أنه «منذ العام 1995 وهو يتحدث عن هذا الكنز المائي العذب لكنه لم يجد آذانا صاغية»، موضحا أنه «في القاسمية يتواجد أكثر من 10 فوارات ضخمة تستطيع وحدها أن تسقي لبنان والشرق الأوسط»، مؤكدا أن «المياه المالحة لا تلتقي بالمياه العذبة بسبب قوة الدفع والضغط المنبثقتين من الينابيع، وبغزارتها تشكل بركا على وجه الماء على مساحة 200 متر».
مصدر هذه الفوارات يعود للمياه الجوفية، التي تتجمع في آبار بباطن الأرض وتشق طريقها إلى قعر البحر، و«استخراج هذه المياه لا يكلف شيئا نظرا لكونها لا تحتاج إلى تنقيب، بل هي تقدم نفسها لنا فتصعد إلى سطح البحر وتشكل بركا من السهل رؤيتها بالعين المجردة».
ويضيف السارجي أن «سحب المياه العذبة إلى اليابسة يتم بواسطة الجاذبية. والآلات التي تستخدم لهذا الغرض بسيطة جدا إن لم نقل بدائيه وتكلفتها منخفضة»، مشددا على أن «إمكانية الاستفادة من المياه العذبة سهلة جدا».
ويتابع: «هناك اكتشاف لمخترع فرنسي صنع جهازا بكلفة مليون دولار أميركي، يوضع في المياه العذبة في قعر البحر، ويفصل المياه الحلوة عن المالحة»، لافتا إلى أنه «في طرابلس تستفيد الدولة من فوار نبع (أبو حلقة) الذي يبعد أمتارا قليلة عن الشاطئ، بعد أن طمرت المياه، وهي تسقي اليوم أهل المدينة منه، لكننا لا نحبذ الطمر ولا توجد حاجة إلى ذلك».
المراحل الثلاث التي تسبق عملية «استخراج المياه، تبدأ بمسح بحري وجوي ومن ثم تحديد المواصفات الجيولوجية وكمية المياه، أما المرحلة الأخيرة فهي تحديد نوعية الآبار. جميع الينابيع حددنا لها أسماء، وهناك خريطة تظهر تواجد كل منها، وكل شيء جاهز بانتظار القرار الرسمي بالتنفيذ» كما يقول السارجي.
ومن جهته، يعلق رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة النائب محمد قباني لـ«الشرق الأوسط»: «إننا منفتحون على أي حل لأزمة المياه، والجولة التي قمنا بها في البحر في موازاة شاطئ بيروت لم تسمح لنا باكتشاف أي نبع مياه»، عادا أن «استخراج المياه من البحر بحاجة إلى آلية تكنولوجية محددة، وهي عملية معقدة إلى حد ما، وليس فقط إلى غطّاسين كما هو مطروح»، وإذ يرى أن أي دراسة مطروحة في هذا المجال يجب أن تكون مستوفية الشروط. يشدد على أنه في حال تم استخراج المياه العذبة من البحر فهي «لن تكون كافية لتغطية احتياجات كل اللبنانيين، بل ستكون جزءا من الحل وليست حلا جذريا».
12 شهرا وأكثر سيقضيها مركب «قانا» في البحر اللبناني بحثا عن المياه العذبة، وفي ظل دخول معالجة أزمة شح المياه في سباق ماراثوني لإيجاد الحلول السريعة، يبقى السؤال: «هل سيشرب اللبنانيون فعلا من البحر؟» والإجابة هنا - من الأرجح - أنها تحتاج إلى الكثير من الدراسات، في ظل المعلومات المتضاربة، قد تبدأ بالجدوى الاقتصادية ولا تنتهي بنوعية المياه.
إشارة إلى أن لبنان «بلد الأنها» نظرا لوجود 16 نهرا رئيسيا، 3 منها داخلية هي: العاصي والحاصباني والوزاني، بينما يوجد لدى كل من العاصي والنهر الكبير الجنوبي حدود مشتركة مع سوريا. وتتسم غالبية الأنهار بخصائص مشتركة كونها تسير في الأودية، وتتجه من الشرق إلى الغرب وتصب في البحر الأبيض المتوسط. ورغم ذلك يبدو أن لبنان ذاهب إلى أزمة مياه تتطلب حلولا جذرية هذه المرة وليست آنية كما كل مرة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)