ملتقى الرواية في فلسطين نجح بمن استطاع إليه سبيلاً

أيام لا تُنسى، تلك التي أمضاها عدد من الأدباء القادمين من بلاد الهجرات مع زملائهم أدباء وروائيي فلسطين المحتلة. كانت تلبية الدعوة لا تقبل التردد لحضور الملتقى الثاني للرواية العربية في فلسطين. وكان الأمل أن يتمكن جميع المدعوين الذين زاد عددهم على الأربعين من الحضور. لكن سلطات الاحتلال تماهلت عن النظر في طلب تصاريح الدخول للآتين من البلاد العربية، وكذلك لأدباء وروائيي غزة، بهدف عرقلة الفعالية التي باتت لها، بعد دورتها الأولى، أصداء واسعة.
لم يحضر الكويتي طالب الرفاعي، ولا العمانية بشرى خلفان، ولا اليمني علي المقري، ولا السوداني أمير تاج السر، ولا التونسية وئام غداس، ولا المصريان أشرف عشماوي وفاطمة البودي، ولا الليبية نجوى بن شتوان، ولا الجزائري أمين زاوي، ولا غيرهم من الروائيين والناشرين، لكن صورهم تألقت على الشاشة الكبيرة التي تصدرت مسرح بلدية رام الله، وكان غيابهم يدل على خشية المحتل من الكلمة، ومن تلاقي الكاتب مع شخصياته الحقيقية. إنه «خوف الغزاة من الذكريات» و«خوف الطغاة من الأغنيات»، كما وصفه محمود درويش في واحدة من أشهر قصائده. ورغم الغياب، نجح الملتقى بمن حضر من الأدباء الذين يحملون جوازات بلاد المهجر. كما نجح بفضل الحشد الجميل من روائيي فلسطين وشعرائها ومثقفيها من جانبي الخط الذي اخترعوه وسمّوه «الأخضر».
انطلق الملتقى في ذكرى استشهاد الشاعر والروائي والصحافي المناضل غسان كنفاني، عام 1972 في بيروت. وكان حفل الافتتاح الذي ساهمت في إحيائه «فرقة الرافدين للفنون الشعبية» عرساً بمعنى الكلمة، حين خرج أهالي رام الله بالمئات للترحيب بالأدباء والتعبير عن فرحتهم باللقاء. كانت عبارة «كسر الحصار» تتكرر بينهم. وكذلك التذكير بأن «زيارة السجين لا تعني التطبيع مع السجّان». لكن المشاركة لم تكن زيارة لسجين بل لشعب يبذل دماء أبنائه وبناته منذ أكثر من نصف قرن لكي لا يتنازل عن حريته. وكان من الجميل ألا تقتصر جلسات الملتقى على مدينة رام الله، بل تنقلت ما بين البيرة وطولكرم وبيت لحم ووصلت حتى مخيم الدهيشة. ساروا في دروب تحفّ بها صور الشهداء مرسومة على الجدران التي تحولت إلى جرائد ولافتات. وكم كان مثيراً أن تعقد في خيمة الاعتصام هناك ندوة عن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، أدارها الروائي الفلسطيني أسامة العيسة، ابن المخيم، وحرص على حضورها مثقفون وصحافيون منهم الكاتبة الإسرائيلية أميرة هاس التي اشتهرت بتقاريرها التي تدين الاحتلال، وبسببها تعرضت لأقسى ما يمكن أن يتعرض له صحافي من نبذ وشتائم. وأميرة تتكلم مع الحضور باللهجة الفلسطينية، وقالت إنها تتعلم العربية الفصحى لكي تقرأ الروايات التي ينشرها الكتّاب العرب.
في جلسة عن كتابة المنفى، وقف فلسطيني متقدم في السن وانتقد الروائيين الجالسين على المنصة، لأنهم يقيمون خارج أوطانهم ودعاهم للعودة والعمل فيها ومن أجلها. واحتدم الجدل حول كلامه. وكان الرد حول أشكال التعسف التي يتعرض لها الأديب في البلاد العربية. والسؤال هو: هل تنتهي علاقة الكاتب بوطنه بمجرد مغادرته له؟ ألا يكتبون جميعاً عن الأوطان حتى وهم في المنافي البعيدة والمَهاجر؟ خشي المشرفون على الجلسة من تطور النقاش إلى معركة كلامية. ما الضير؟ كان الرأي أن ملتقى فلسطين هو الأجدر من أي منتدى غيره على احتواء هذا النوع من المواجهات. هنا لا رقابة على الكلام من أي نوع. يطلب وزير الثقافة الكلام فيقول له مدير الجلسة إن دوره لم يحن بعد، وإن هناك من طلب الكلام قبله. ولعل من حظوظ أدباء فلسطين أن وزراء ثقافتهم هم من الروائيين. وهم يقدمون أنفسهم بأنهم من أهل الكلمة قبل كونهم من أهل السياسة.
لم يكن المشاركون يعرفون أن لرام الله والبيرة سيدة تجلس في مقعد المحافظ. إن الدكتورة ليلى غنّام هي أول امرأة عربية تشغل هذا المنصب. وهي ذات شخصية آسرة وحضور بهيج بحيث إن بلدات مجاورة تطالب بها. لقد تخصصت في الخدمة الاجتماعية وتحمل الماجستير في الإرشاد التربوي. ولها شهادة دكتوراه في الصحة النفسية من جامعة المنيا في مصر، قالت إن ظروفها لم تكن سهلة، وتأخرت ست سنوات عن الالتحاق بالجامعة، لأن شقيقيها كانا في السجن. وفي عشائها مع الروائيين اعتذرت عن تأخرها على ندوتهم لأنها كانت، وهي المحجبة، تحضر صلاة في الكنيسة على روح الفنان المناضل الراحل وليم نصار.
زار المشاركون في الملتقى متحف الرئيس عرفات، ووضعوا إكليل ورد على ضريحه. شاهدوا مكتبه البسيط والغرفة التي كان ينام فيها على سرير مرتجل أثناء حصار الإسرائيليين له في المقاطعة. ثم عقدوا جلسة حول نشر الكتب وتوزيعها في إحدى قاعات المتحف. كانوا يشعرون بأن روح «الختيار» تحوم فوق رؤوسهم فلم يشتبك الكتّاب مع الناشرين ولا مع قراصنة الروايات، ولم يرفعوا الصوت كما جرى في ندوة «كتابة المنفى». ويمكن لمن تسنى له حضور مؤتمرات عربية كثيرة أن يشهد بأن لا مكان للملل في ندوات ملتقى فلسطين، ولا لإغفاءة أو لهروب من القاعة بحجة تدخين سيجارة.