شخصيات تغتصب التاريخ في غفلته

شخصيات تغتصب التاريخ في غفلته
TT

شخصيات تغتصب التاريخ في غفلته

شخصيات تغتصب التاريخ في غفلته

تساءل صديقي الصحافي: هل من المعقول أن يصبح شخص مثل بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا العظمى؟
معقول جداً، يا عزيزي، فكل واقعي هو معقول، كما يقول الفلاسفة، أو على الأقل الفلاسفة الماركسيون. من غير المعقول ألا يكون جونسون رئيساً للوزراء؛ سيكون ذلك خروجاً عن المنطق... نغمة شاذة في إيقاع متوازن ينتظم الآن ربع الكرة الأرضية، في الأقل، في مراكزها الأكثر تأثيراً التي ترسم الآن مصير البشرية ومسارها اللذين يحثان الخطى سريعاً نحو مآلات مرعبة. من مفارقات التاريخ أنه ينتج لنا في ظروف معينة شخصيات تتوهم أنها ضمائر عصرها، وأن فيها تختزل سمات مرحلة ما، فتتماهى معها، حتى تلبسها. هكذا كان لويس بونابرت، ووينستون تشرشل، المعجب به جونسون كما يقول، وأدولف هتلر، وجمال عبد الناصر، وحافظ الأسد، وصدام حسين، ومعمر القذافي... إلخ.
كان كل هؤلاء يشعرون بطريقة ما أن التاريخ اختارهم لإنجاز مهمة كبرى تليق به وبهم، حتى لو كانت الموت.
في كتابه «الثامن عشر من برومير... لويس بونابرت»، يبين لنا كارل ماركس كيف أن الصراع الطبقي في فرنسا عام 1851 قد أوجد الظروف والعلاقات التي مكنت شخصاً سطحياً متوسط الذكاء من أن يصبح بطلاً.
قبل الجميع، صدق لويس بونابرت أنه صار بطلاً فعلاً، وأن التاريخ قد اصطفاه لتعديل اعوجاجه، فاستولى بانقلاب عسكري على كل الوسائل التي تتيح له تحقيق هذا الوهم.
يتكرر هذا الوهم الآن، لكن بشكل «مسخرة» هذه المرة، توافقاً مع العصر الذي نعيش. لقد مضى عصر المعارك الكبرى، التي بدأت في عز ديكتاتورية نابليون، وصارعت التاريخ والزمن، وخلقت قيماً جديرة بهذا الإنسان المعذب. ليس بعد.
فها نحن نقاد وراء شخصيات سطحية، متوسطة الذكاء، للأسباب نفسها التي تحدث عنها ماركس عام 1851، قبل أن تكتسح قوى التنوير ميادين المدن الكبرى التي كانت محصنة.
لكن هذا الوهم يعود ليس راكباً ظهر دبابة عسكرية، بل عربة شعبية. التضليل سلاح ماض أكثر من البنادق في واقع ليس صلداً كفاية، كما كنا نتوهم. وهكذا، يبدو أننا نعود وبسرعة مخيفة إلى عصور ما قبل التنوير، الذي احتاج إلى قرون كي يتحقق شيء منه.
صار الآخر عدواً، وعادت المرأة شيئاً... مجرد شيء للاستباحة.
في روايته «72 عذراء... كوميديا الأخطاء»، الصادرة عام 2014، يرسم لنا بوريس جونسون شخصية من دون مثل عليا أو قيم أو إيمان، شخصية يبدو العالم كله بالنسبة إليها «نكتة معقدة»، وكل شيء في هذا العالم قابل دائماً للانتزاع: الدين، والقانون، والمبادئ، والعادات... هذه كلها لا شيء، بل «عصي على جانبي الطريق تسند خطواتنا المترنحة».
أما النساء، فهن مجرد «سيقان طويلة، وعيون شهوانية، وأسنان جيدة، وشعر أشقر».
أي توافق بين الروائي والإنسان! كما يعلق مارك لوسن ساخراً، في عرضه لـ«الرواية» في الملحق الأدبي لجريدة «الغارديان» البريطانية، الصادر يوم السبت الماضي، ناصحاً أنصار رئيس وزراء بريطانيا المقبل بحرقها لأنها فضيحة بامتياز!
هذه سمة عامة بين الشعبويين في كل مكان: العالم قابل للانتزاع، وكل ما فيه من قيم أخلاقية وروحية ودينية مجرد وسائل لتحقيق هذا الانتزاع بأقصى ما يمكن. إنه الهوس، مرة أخرى، بأن التاريخ ألقى على أكتافهم الثقيلة مهمة صنعه وتشذيبه من «القيم البالية»، كما عبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بصراحة سبقه إليها الروائي بوريس جونسون.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.