امتحان رئيس التحرير

امتحان رئيس التحرير
TT

امتحان رئيس التحرير

امتحان رئيس التحرير

في السطور التالية سيمكنك أن تقرأ وقائع مقابلة مفترضة بين ممول يستعد لامتلاك وسيلة إعلام تقليدية، وبين مرشح لمنصب رئيس التحرير؛ وهي وقائع أمكنني استلهامها عبر حضور عدد من الاجتماعات التمهيدية لإطلاق وسائل إعلام جديدة، في دول عربية عدة.
الممول: هل يمكن أن توضح لي مفهومك لدورك كرئيس تحرير؟
المُرشح: أنا أفهم دوري ببساطة، على أنه يتلخص في ضمان استدامة الوسيلة وازدهارها، عبر توفير المتطلبات اللازمة لذلك من الناحية الفنية.
الممول: بداية غير مشجعة. مطلوب أن أنفق كل هذه الأموال لكي أحصل فقط على استدامة عمل الوسيلة وازدهارها. ليس هذا هو العائد الذي خططت للحصول عليه. أريدك أن تجعل وسيلتي صوتي وسلاحي الذي يرهب أعدائي... يخزيهم ويزعجهم. أريد أن أرى فيها صورتي، كما يجب أن تكون... أي كما أحب أن تكون.
المُرشح: أنا أيضاً أحب لك أن تحصل على ما تريد؛ لكن لاحظ أن وسيلة الإعلام مجرد أداة، مهما عظم شأنها. لا تُحمِّلها أكثر من طاقتها، ولا تجعلها تقوم مقام أدوات أخرى؛ بعضها يخص سياساتك وقراراتك وعلاقاتك. اعتمد عليها في إدراك أهداف ذكية، قابلة للتحقق، وقابلة للقياس.
لا تقع في الأخطاء ذاتها التي وقع فيها آخرون، عندما حرقوا وسائل إعلام أنفقوا عليها المليارات، لمجرد أنهم أرادوا لها أن تصبح أذرع دعاية مباشرة.
الممول: تخيل أنك أجَّرت عازفاً ليعزف ألحانك المفضلة، فما كان منه إلا أن أصر على أن يعزف بطريقته التي لا تطربك، أو أنك تعاقدت مع سائق ليأخذك بسيارتك التي تملكها وتملأها بالوقود، إلى جهة محددة؛ لكنه أصر على أن يقود بطريقته التي لا ترضيك، وأن يسلك سبلاً لا تروق لك... هل هذا إنصاف؟
المُرشح: من حق من يدفع للزمار أن يسمع اللحن الذي يعجبه، ومن حق من يملك السيارة ويدفع للسائق أن يحدد وجهة السير، ذلك أمر مهم. كما أن حرمان المالك من حق السيطرة على الخط التحريري لوسيلته خطر كبير؛ لأن ذلك قد ينفي ذرائع التملك، فتبور صناعة الإعلام. لكن، ورغم أن هذين المثلين لا ينطبقان تماماً على حالتنا؛ فإن العزف على الناي فن، وقيادة السيارة مهنة، وكليهما يتم وفق أصول وقواعد معينة، ويخضع لشكل من أشكال التنظيم، والأفضل للأطراف كافة في هذا الصدد، أن يُطلب من الفنان أو المهني أن يقدم أداءً معيناً، وأن يُترك له اختيار كيفية تحقيقه، على أن يكون منسجماً مع القواعد المرعية.
الممول: يعني هذا أنك لن تفعل كل ما سيُطلب منك. سأتوقع إذن شيئاً من الممانعة أو عدم الالتزام الكامل بما أريده ويحقق مصلحتي.
المُرشح: سنعود هنا للمثلين السابقين. أفضل طريقة لحل هذا الإشكال هي أن تخبر عازف الألحان باللحن الذي يطربك؛ لكن لا تحاول أن تعزف أنت. أو أن تخطر السائق بوجهتك؛ لكن لا تقد بنفسك. واحرص أيضاً على أن يكون اللحن المطلوب قابلاً للتعبير عنه بآلة الناي، وأن تكون الوجهة المطلوب الوصول إليها بالسيارة ليست أبعد من طاقتها.
الممول: سأحتاج أحياناً أن أُروج لمواقفي، وأن أطعن أعدائي، وأن أبرز الفارق الأخلاقي بيني وبينهم. فهل ستساعد الوسيلة في تحقيق ذلك؟
المُرشح: ثمة أخطاء لا يجب أبداً أن تتورط الوسيلة في ارتكابها. إنها أخطاء يمكن أن تطيح عالمها، وتقوض الثقة بها، وبالتالي تحولها إلى كيان تافه عديم النفع. لا يجب أن يطلب شخص تدمير ممتلكاته، ولذلك لا ينبغي أن يطلب مالك وسيلة إعلام من القائمين على وسيلته ارتكاب هذه الأخطاء.
الأخطاء ببساطة هي: اختلاق الوقائع، وتشويه الحقائق، والتحريض على العنف، وإشاعة الكراهية والتمييز. عبر ارتكاب تلك الأخطاء تكون الوسيلة قد خرجت من تصنيف وسائل الإعلام إلى تصنيفات أخرى بغيضة. ما دام المطلوب خارج حدود هذه الأخطاء، فلا بأس أبداً من تحقيقه.
لكن لاحظ أيضاً أن ثمة بعض المخالفات الأخرى التي تحد من تأثير الوسيلة وتخصم من وجاهتها، وهي مخالفات لا ينبغي الوقوع فيها؛ ومنها أن نحجب خبراً عرفه العالم، أو سيعرفه؛ لأنه لا يخدم مصلحتنا، إذ إن حجبنا إياه لا يعني عدم وجوده، ولكنه يعني ببساطة أننا لسنا مهنيين بما يكفي لنشره. لقد تغيرت بيئة الاتصال العالمية، بحيث بات التعتيم على الرسائل عبر المنع جزءاً من ماضٍ لن يعود أبداً. أنا سأنشر تلك الأخبار؛ لكن بطريقة مهنية، توفر أسباباً موضوعية يمكن أن تحد من أثرها الضار. غياب تلك الرسائل في وسيلتك لا يعني ببساطة سوى ترك المجال لوسائل أخرى لتداولها، وتشكيل وعي الناس حيال ما تحمله من وقائع أو أفكار.
الممول: هل سيكلفني هذا الأمر الكثير؟
المُرشح: القدرة على ضخ المال أحد أهم عناصر القوة الكامنة في أي مؤسسة إعلامية. التوظيف الجيد للموارد سيجلب عوائد مذهلة. الشح والتقتير لن يعززا القدرة التنافسية. عوائد تشغيل وسائل الإعلام ليست مالية في كثير من الأحيان، وإلا ما امتلكت الدول وسائل إعلام وأنفقت على تشغيلها ببذخ.
الممول: لكن عالم الإعلام يتغير. الوسائل التقليدية تتراجع... أليس كذلك؟
المُرشح: هذا صحيح. لذلك، فإن خطتي هي أن نتغير بما يتوافق مع تلك التطورات المتسارعة. يجب أن نتمركز جيداً في واقعنا «التقليدي»، وأن نحظى بحجم التأثير والنفاذ الذي يناسب أهدافنا وكتلتنا الحيوية، ولأن «كل تمكين بغير تلوين لا يُعول عليه»، فسنشرع في تطوير منصاتنا الجديدة، لنقدم رسائلنا بصورة أكثر توافقاً مع التغير في طبيعة التلقي والمتلقين. سيُركز الجهد الرئيس في استراتيجيتنا على المستقبل، من دون أن يهمل الحاضر.
الممول: شكراً لك. دعني أفكر.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.