حبوب الطلْع تساعد العلماء على تعقب آثار الجرائم

ترصد المخدرات وتتعرف على مواقعها

حبوب الطلع تحت المجهر
حبوب الطلع تحت المجهر
TT

حبوب الطلْع تساعد العلماء على تعقب آثار الجرائم

حبوب الطلع تحت المجهر
حبوب الطلع تحت المجهر

تنتشر بذور الطلع في كل مكان، ما يعني أنها تعرف الخبراء بـالمكان الذي كنتم توجدون فيه، أو لنقل إنها على الأقل هدية سهلة بيد أي شخص يعرف ما يبحث عنه. هذا الشخص هو أندريو لورنس، واحد من عالمين متخصصين بالطلع، يعملان اليوم لصالح الحكومة الأميركية. ويمضي لورنس معظم وقته في هذه الأيام يراقب الطلع الملتصق على الجثث، وعلى المخدرات.

حبوب الطلع
ينتشر غبار الطلع في كل مكان في هذه الفترة من العام. حالياً، وفي أي مدينة متوسطة الارتفاع، يحتوي كل متر مكعب في الهواء الخارجي على ما يقارب 100 ألف بذرة طلع، بينما يحتوي كل متر مكعب من الهواء في الأماكن المقفلة على 5 آلاف بذرة، وهي بغالبها غير مرئية للعين المجردة، وتكون هذه الأرقام أعلى طبعاً في المناطق الريفية. باختصار، يمكن القول إن غبار الطلع يغطي كل واحد منا وكل جسم يحيط بنا.
عندما يحتك غبار الطلع بملابسنا أو شعرنا، لا يتركهما أبداً. وتحتوي بعض بذور الطلع على الأشواك، بينما يأتي كثير منها مغطى بمادة دهنية تلتصق كالغراء. ينخفض عدد بذور الطلع قليلاً مع كل دورة عند الغسل بالغسالة، ولكنه لا يختفي تماماً أبداً. وحسب لورنس: «لن تستطيعوا أبداً انتزاعه عن ملابسكم أو شعركم، لأنه يرافقكم منذ اليوم الذي اشتريتم فيه الملابس».
يحتوي العالم على نحو 380 ألف نبتة مختلفة، ولكل واحدة منها بذرة طلع تتميز بشكل خاص. وتأتي هذه البذور على شكل أقفاص هندسية قاسية، مهمتها احتواء المادة الجنسية الذكرية في رحلتها من النبتة الأم، على أمل الوصول إلى الأجزاء الأنثوية في نبتة أخرى. وبذور الطلع ليست السائل المنوي الخاص بالنبات، بل «النموذج الأولي من المني»، أي أنها تملك القدرة على التحول إلى حيوانات منوية، ولكن فقط إذا اتصلت بالميسم، أي الجزء الأنثوي في نبتة أخرى.
تحفز المادة العضوية الموجودة في الطلع، أي حمولة «النموذج الأولي من المني»، الحساسية على أنواعها. ولكن بحث لورنس يستهدف قشرة الطلع الخارجية، وهي على حد تعبيره «هيكل خارجي» غير قابل للتدمير، مضيفاً: «هكذا عرفنا الشكل الذي كانت عليه البيئة قبل 500 مليون سنة من اليوم. هذه المعرفة حصلنا عليها من خلال استخدام بذور الطلع».
تعتبر بذور الطلع أمثلة مبهرة على الهندسة المركبة في أجسام أصغر حجماً من الشعرة البشرية، إذ إن كل واحدة من هذه البذور تأتي بتصميم خاص بنبتتها، ووظيفة لورنس هي التمييز بينها.

مكافحة المخدرات
يقع مختبر لورنس في شيكاغو. وترسل سلطات الأمن وجهات إنفاذ القانون عادة المخدرات التي تصادرها من الحدود الأميركية مع المكسيك إلى لورنس وشريكته في المختبر، شانون فرغسون، عالمة الطلع الوحيدة الأخرى التي تعمل مع الحكومة الفيدرالية. وكانت فرغسون بدأت العمل مع هيئة الجمارك وحماية الحدود كطالبة متدربة في العام 2015. ومن ثم التحقت للعمل في المختبر عام 2017، بعد الحصول على شهادة الدكتوراه.
مع تصاعد جهود مكافحة الاتجار بالأفيون، بات لورنس وفرغسون يحصلان على كمية متزايدة من مكعبات الفينتانيل ونظائره. وقال لورنس إنه وزميلته يسعيان لمعرفة المكان الذي تأتي منه هذه المواد، مؤكداً أن بذور الطلع زوّدتهما بمعلومات جديدة، ولكنه رفض الدخول في التفاصيل.
في مارس (آذار) الماضي، عمّمت هيئة الجمارك وحماية الحدود منشوراً يشجع أي ولاية أو جهة محلية لإنفاذ القانون صادرت أكثر من كيلوغرام من الفينتانيل أو الأفيون، على إرسالها إلى لورنس وفرغسون، ليتمكنا من تحديد أصل هذه المواد المخدرة.
يحتاج العالمان المتخصصان إلى كيلوغرام كامل من المخدرات للحصول على كمية كافية من بذور الطلع قادرة على تحديد أصل المخدرات، أي موقع انطلاقها، أو على الأقل ما مجموعه 200 بذرة طلع، يعملان على عدّها وتصنيفها يدوياً تحت المجهر. واختبر عالما الطلع ما يقارب 15 عينة من الفينتانيل خلال السنة ونصف السنة الماضية.

عوامل رصد بيئية
لتحديد معنى كل نوع من أنواع الطلع في التحقيقات، درس لورنس عوامل متغايرة كثيرة.
لجأ أولاً إلى أنماط الرياح، ولكنها لم تساعده في تحديد خصائص كل نبتة. إذ تعمل شجرة الصنوبر مثلاً بالتلقيح الريحي، وتضم أكياساً هوائية تبقيها مرتفعة مع أي نسيم عليل، ما يعني أنه يمكن العثور على طلع الصنوبر على مسافة 62 كلم من أقرب شجرة صنوبر؛ حيث تتراكم كثافة بذور لقاح الصنوبر لتشكل عينة صالحة للدراسة. في حال وجد الباحثان أن 40 في المائة من بذور الطلع تعود لشجرة الصنوبر، هذا يعني أنهما على مقربة من غابة صنوبر، ما يضيق الخيارات الجغرافية بشكل كبير، أما في حال وجدا أن العينة تحتوي على واحد أو اثنين في المائة فقط من لقاح الصنوبر، فهذا قد لا يعني الكثير، بل «يؤكد أننا موجودون على كوكب الأرض» على حدّ تعبير لورنس.
يتحدث الباحثان أيضاً عن نوع آخر من النباتات، كنبتة السنفية المشعرة fire weed التي تتميز بزهور بنفسجية، ولها قصة مختلفة تماماً. إذ يشرح لورنس أن «نبتة السنفية المشعرة تنتج بذور لقاح قليلة جداً في كل موسم، وهي بذور شديدة الثقل، أي أنها لا تنتقل لمسافات طويلة. لذا، فإن العثور على بذور منها على الملابس أو المخدرات، يشير إلى أن أصحابها كانوا يعيشون في بيئة تنمو فيها هذه النبتة».
يقول لورنس إنه ينظر إلى العالم من وجهة نظر البقع النباتية، وليس بحسب حدود الدول وخطوط الحكومات، لأن «النباتات لا تأبه بالحدود البشرية».

تحقيقات جنائية
في يوليو (تموز) 2015، تلقى لورنس نباتات صغيرة، وبطانية، وحفنة من الشعر البشري. وكانت السلطات قد عثرت على جثة طفلة مجهولة الهوية في كيس للمهملات على ضفة جزيرة «دير» في بوسطن. هذه الفتاة، التي أشار إليها المحققون باسم «الطفلة دوي»، كانت في السنة الرابعة من عمرها. لم ينجح هؤلاء في تحديد هويتها أو من أين أتت، ولكن لورنس وجد دليلاً مهماً على وجود آثار من نباتات الزينة.
والقصة كما أوردتها صحيفة «بوسطن غلوب» في ذلك الوقت هي أن الطفلة دوي كانت تلعب بين أشجار الصنوبر والبلوط في إقليم نيو إنغلاند، تغطيها آثار من نبتتي التمر حنة والأرز اللبناني، النبتتان اللتان لا تعود جذورهما إلى الولايات المتحدة، ولكنها غالباً ما تُزرع في الضواحي. استنتج المحققون من السخام الممزوج ببذور الطلع على ملابسها أن الفتاة الصغيرة آتية من بيئة مدنية، ومن مكان قريب من بوسطن.
ونجح المحققون عبر تحاليل بذور الطلع في التأكيد على أن الطفلة آتية من مكان محلي قريب. وتم بعد أشهر قليلة، إدانة أمّ الطفلة وصديقها بقتلها. وقد ساهمت هذه القضية في إبراز أهمية عمل لورنس، وأثبتت أن هذا النوع من الأبحاث قد يساعد في حل القضايا الجنائية. وفي حديث له مع صحيفة «ذا أتلانتك»، قال لورنس إنه «شعر بالسرور لرؤية النتيجة النهائية وتأثير عمله عليها».
ومنذ ذلك الحين، بدأ يشارك في التحقيق في جرائم قتل أخرى، وقضايا الاتجار بالمخدرات كالميث (الميثامفيتالين البلوري، وهو مادة مخدرة قوية) والكوكايين والهيرويين، وهو يركز في الجزء الأكبر من عمله على الاختبارات العلمية.

حبوب الطلع لاستكشاف النفط ورصد الجرائم
> يضم العالم نحو 1000 عالم متخصص بدراسة بذور الطلع فقط، يعمل معظمهم في شركات النفط، التي تستخدم تحاليل متحجرات الطلع لتحديد مواقع وعمر مخازن النفط، «تعتبر فصائل الطلع المتحجرة على عمق معين مؤشراً إلى المنطقة الجيولوجية التي عاشت فيها هذه النباتات».
تأخرت الولايات المتحدة في البدء باستخدام الطلع كأداة جنائية، خاصة أن المملكة المتحدة ونيوزيلندا تستخدمانها منذ عقود. وتعتمد الولايات المتحدة الطلع كأداة للتحقيق فحسب، بينما تعتبر نيوزيلندا النتائج الصادرة عن تحاليل الطلع أدلة مقبولة في المحاكم. ولكن مع تصاعد أهمية التحقيقات المرتبطة بالأفيون في عصرنا الحالي، لا شك أن دور علم الطلع الجنائي سيكون كبيراً في الولايات المتحدة.
- «كوارتز»، خدمات «تريبيون ميديا»



«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً