صحّة مراسلي الحروب النفسية... أولوية مهملة

TT

صحّة مراسلي الحروب النفسية... أولوية مهملة

تغطية الحروب والعمل الميداني في المناطق المنكوبة تؤثّر على صحة الصحافيين النفسية، وقد تقود تجاربهم في الميدان إلى تداعيات صحية جراء التعرض للصدمات، ويعاني البعض منهم من الاكتئاب والعزلة واضطراب ما بعد الصدمة والقلق وغيرها من المشاكل، خصوصاً أن المراسل الحربي يصبح، إلى حد ما، مدمناً على جرعات الأدرينالين التي يفرزها دماغه وهو في الخطوط الأمامية... خطوط النار.
لذلك، خصص المؤتمر الدولي لحرية الإعلام الذي نظمته كل من بريطانيا وكندا وعقد أعماله في لندن، الأسبوع الماضي، جلسة لمناقشة هذه القضية التي تغيب عن جداول أعمال وأولويات القطاع الإعلامي، في معظم الأحيان.
خلال الجلسة، شارك المتحدثون تجاربهم الشخصية في هذا السياق، وعرضوا حلولاً واستراتيجيات للتعامل مع القضية وعدم الاستخفاف بها، خصوصاً عند الصحافيين المتعاونين الذين لا يتلقون امتيازات الموظفين الدائمين بوسائل إعلام.
وأدارت الجلسة كلوثلايد ريدفيرن مديرة «صندوق روري بيك»، وكانت نسوية بامتياز، حيث شاركت بها كل من كارن بيك، اختصاصية الصحة النفسية لدى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وسيرينا تشودري محررة دورية أفريقيا لدى وكالة «رويترز» للأنباء، وكايت باركينسون صحافية ومراسلة ميدانية متعاونة.
افتتحت روري بيك الجلسة بقولها: «هنالك ضغط على الصحافيين الميدانيين، خصوصاً المتعاونين منهم، عند تغطيتهم لمناطق منكوبة، إذ تفوق توقعات وطلبات وسائل الإعلام لقدرتهم، وتنسى هذه الوسائل الإعلامية أحياناً أهمية صحتهم النفسية». وأضافت: «يجب عليها أن تكون أكثر إنصافاً عند التعامل مع المتعاقدين والمتعاونين».
بدورها، قالت كارين بيك، اختصاصية الصحة النفسية لدى «بي بي سي»، التي كانت في الجيش البريطاني سابقاً، وأجرت بعدها دورات لصحافيي «بي بي سي» لتأهيلهم قبل إرسالهم لمناطق مضطربة، إنها كلفت قبل عامين بإجراء تقرير عن وضع موظفي «بي بي سي» النفسي.
وكشفت أن المهمة كانت أكثر صعوبة مما توقعت، وأن قضية الصحة النفسية مهمة جداً في المنظومات الإعلامية. وأضافت: «لا نريد من موظفينا أن يفقدوا شعورهم ويتجردوا من تداعيات تجاربهم، إن كانت ميدانية أو داخل الاستديو، لكن تترتب علينا مسؤولية مساعدتهم للتعامل معها، خصوصاً في حالات تعرضهم للصدمات».
وأكدت على أن «بي بي سي» تحرص على التواصل الدائم مع الصحافيين المتعاونين للتأكد من أن حالتهم النفسية جيدة.
الصحافية الميدانية المستقلة كايت باركينسون لم يحالفها الحظ في هذا المجال. وكشفت من خلال حديثها أنها اضطرت أن تعمل مراسلة ميدانية متعاونة مدة 7 سنوات دون انقطاع، غطَّت فيها النزاع في ليبيا، والعراق، ودول مضطربة غيرها. كما تعرَّض المصور الذي كان يرافقها، والذي أصبح اليوم زوجها، إلى إطلاق نار وأُصيب. ولأنهما كانا متعاونين، لم يُوفَّر لهما الدعم الفوري الجسدي والنفسي. وبعد تجارب قاسية في الميدان، قررت كيت الانتقال للعيش في باريس، إلا أن الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية أفجعتها. ولاحظت كايت أنها تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، وتلقت العلاج. تعمل الصحافية «المتقاعدة» اليوم على تطوير تطبيق يوظف تقنية العالم الافتراضي لتهيئة الصحافيين قبل اتخاذ قرار التغطية الميدانية.
عندما وصلت سيرينا تشودري إلى بغداد لتأدية مهمتها الأولى مراسلةً ميدانيةً مع «رويترز»، لم تكن قد أكملت 24 عاماً. وكشفت لنا أنها مكثت هناك مدة عامين (المدة الأقصى التي تسمح بها وكالة الأنباء لصحافييها لأداء مهمة ميدانية)، وكان الترتيب أن تغطي الأخبار من هناك لمدة 6 أسابيع، ثم تسافر في إجازة مدتها 3 أسابيع. ومع ذلك، أكدت أن رغم الإجازات الطويلة أثّرت التغطية على نفسيتها، وترتب الضغط شيئاً فشيئاً. وأضافت: «الصحة النفسية من أهم الأمور المرتبطة بسلامة الصحافيين الميدانيين، ولذا قامت (رويترز) بإنشاء مبادرة لمساعدة صحافييها، والمتعاونين معها». وتوفر الوكالة المساعدة باللغة التي يفضل المراسل استخدامها.



فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.