إعلام جديد يتغوّل... وقديم تتزعزع ركائزه

عند رصد اتجاهات إنتاج المحتوى الإعلامي وتوزيعه، ومراجعة بحوث قياس أثر الرسائل الإعلامية، ومعدلات الإنفاق الإعلاني، يتضح أن الإعلام الذي اجتهدت البحوث الاجتماعية على مدى العقود الفائتة في تعيين دوره المفترض إزاء المجتمع بات إعلامين: الإعلام النظامي، والإعلام غير النظامي.
يمكن وصف الإعلام النظامي بأنه «إعلام تقليدي»؛ وهو الإعلام الذي يتجسد في وسائل الإعلام التي عرفتها البشرية، ونشطت بقوة في القرن العشرين تحديداً أو ما قبله.
وعلى الصعيد القانوني، فإنه يمكن قصر تعريف الإعلام النظامي على هذا الإعلام الذي يصدر عن مؤسسات إعلامية مُسجلة، وخاضعة في أدائها لنمط من أنماط المحاسبة والمساءلة العمومية، ويمكن بسهولة مخاطبتها ومحاولة التأثير في أدائها.
ووفق هذا التعيين، سيشمل «الإعلام النظامي» الصحف، والمجلات، والدوريات، ومحطات التلفزيون، والإذاعات، ومواقع «الإنترنت»، إذا كانت مُسجلة، أو حاصلة على تصريح أو ترخيص، وتخضع لنمط من أنماط ضبط الأداء والمساءلة بواسطة جهات عمومية تم إنشاؤها بقانون.
وفي المقابل، يمكن تعريف «الإعلام غير النظامي» بأنه جميع عمليات إنتاج المحتوى الإعلامي، وبثه، ونشره، وتوزيعه، من قبل جهات إنتاج غير نظامية، وغير مسجلة لدى الهيئات العمومية الضابطة للأداء الإعلامي، وهي عمليات إنتاج يمكن أن يقوم عليها أفراد عاديون أو مجموعات عمل من الهواة، ولا تخضع لأي نمط من أنماط المراجعة والمساءلة والضبط، إلا ما تقرره لذاتها، أو يجرمه القانون، أو يخرق المحددات والقيود المعمول بها لدى شركات التكنولوجيا العملاقة المشغلة لوسائط التواصل الاجتماعي.
واستناداً إلى ذلك، يتضح أن النسقين الإعلاميين (النظامي وغير النظامي) ينشطان في بيئة التأثير في الوعي الجمعي لأفراد الجمهور، ويتبادلان المحتوى، ويتقاسمان أدوات العمل أيضاً، كما يؤثران في المفاهيم والاعتقادات والسياسات، وبالتأكيد يشكلان معاً عالم الإعلام الذي نعرفه الآن.
بسبب طبيعة التلقي المتغيرة، وتعاظم الأدوات وتراجع المحددات والقيود التي تؤطر عمل الإعلام غير النظامي، فإن هذا الأخير يضغط على عالم الإعلام النظامي، ويجتهد في زعزعة ركائزه بشكل متسارع.
ثمة خمسة أطر لتأثير الإعلام غير النظامي في نظيره النظامي يمكن رصدها في هذا السياق؛ أولها أن الإعلام غير النظامي بات وسيلة اتصال حكومي ومؤسسي أكثر فاعلية، بشكل يخصم بوضوح من رصيد وسائل الإعلام التقليدية.
في الأسبوع الماضي، وقعت أزمة دبلوماسية نادرة بين الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا، وهي الأزمة التي أطاحت سفير تلك الأخيرة لدى الأولى، بعدما تم تسريب مراسلات سرية عبر صحيفة «ديلي ميل» انتقد فيها السفير البريطاني الرئيس ترمب، لكن هذا الأخير فضل الرد عبر تغريدات على «تويتر»، واصفاً فيها السفير البريطاني بأنه «غريب الأطوار وأحمق».
بسبب تغريدات ترمب، اضطر السفير البريطاني للاستقالة، وتضررت العلاقات بين البلدين. لم يتوقف ترمب عن التغريد منذ إعلان ترشحه لرئاسة بلاده، وهو نفسه الذي قال إنه «لولا (تويتر) لما أصبحت رئيساً».
عبر وسائل الإعلام الجديدة يقوم القادة بإعلان قرارات سيادية، والكشف عن تطورات سياسية خطيرة، وبحسب مؤسسة «بيرسون مارسيتلر» الأميركية فإن ثلثي قادة العالم باتوا يعتمدون على «تويتر» بشكل أساسي في التواصل مع العالم والجمهور.
لقد تضاءل دور وكالة الأنباء والصحيفة والإذاعة في نقل الأخبار المهمة والخطيرة، في مقابل صعود مطرد للوسائط الجديدة في هذا الصدد، وبحسب جون هول، رئيس شركة «إنفلونس أند كو»، فإن رؤساء منظمات الأعمال الكبار «يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من أي وقت مضى فيما يخص التفاعل مع جمهور منظماتهم».
أما الإطار الثاني، فيتعلق بالزيادة المطردة في إنتاج المحتوى الإعلامي عبر الوسائط الجديدة بواسطة مستخدمين من الهواة (غير الصحافيين)؛ ووفق بيانات «يوتيوب»، فإن المهيمنين على قوائم المشاهدات غير الموسيقية عبر هذا الموقع ليسوا سوى «نشطاء من غير المحترفين». لقد خلصت دورية «ديجيتال جورناليزم»، في دراسة أجرتها عام 2016 إلى أن «المحتوى الذي يصنعه الجمهور غيّر وجه الصحافة إلى الأبد... وبات يشكل جزءاً كبيراً من المحتوى العام».
ويتعلق ثالث هذه الأطر بعنصر التمويل، فبحسب إحصاءات شركة «ستاندرد أند بورز غلوبال»، فإن عائدات الإعلان على مواقع التواصل الاجتماعي تتزايد بموازاة انحسارها في وسائل الإعلام التقليدية، كما تتوقع شركة بحوث الإعلان والإعلام «ماغنا» Magna أن تنمو الأولى في العام الحالي بنسبة 13 في المائة لتصل إلى 237 مليار دولار، في حين ستنمو العائدات على الوسائط التقليدية بنسبة 2.5 في المائة فقط لتصل إلى 183 مليار دولار.
وفي الأسبوع الماضي، باتت فرنسا أول اقتصاد رئيسي في العالم يفرض ضريبة على المجموعات الرقمية العملاقة، بعدما اشتكت وسائل إعلام كبرى بينها عشر وكالات أنباء أوروبية مرموقة من أن تلك المجموعات تتربح من بث المحتوى الذي ينتجه منتجو الإعلام التقليديون، ويتكبدون نفقات ضخمة في جمعه وتحريره، من دون أن يحصلوا على جزء من العوائد التي تجنيها مواقع «السوشيال ميديا».
أما الإطار الرابع الذي يجسد التأثير الكبير للوسائط غير النظامية في نظيرتها النظامية فيتعلق بعنصر الدقة. في شهر يونيو (حزيران) الماضي، نشرت مؤسسة «إيبسوس» نتائج دراسة مهمة أجريت على عينة من 25 ألف شخص في 25 دولة، وهي الدراسة التي بينت أن 86 في المائة من المستطلعة آراؤهم أقروا بأنهم «وقعوا فريسة أخبار زائفة»، وأن «المنبر الأساسي لنشر المعلومات المضللة هو موقع (فيسبوك)».
ويأتي الإطار الخامس الخاص ببيانات التعرض ليشير بوضوح إلى أن معدلات التعرض للوسائط غير النظامية تتزايد بشكل حاد في مقابل التعرض للوسائط النظامية؛ إذ يؤكد تقرير صادر عن منصة إدارة وسائل التواصل الاجتماعي «هوت سويت» في عام 2019 أن أكثر من 45 في المائة من سكان العالم نشطون على هذه الوسائل، وأن أعدادهم تتزايد باطراد.
تلك إذن خمسة أطر أساسية توضح أن المجال الإعلامي غير النظامي بات يتغول على نظيره النظامي، وأنه يمتلك آليات تأثير أكبر وأعمق، وأهم ما يميزها أنها تأخذ اتجاهاً منتظماً في الصعود؛ وهو الأمر الذي سيشكل مشهداً إعلامياً لم تعرفه البشرية من قبل.