محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ

«رجل الظل» يتقدم إلى الواجهة

محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ
TT

محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ

محمد ولد الغزواني...رئيس موريتانيا الهادئ

قبل أسبوعين، وقف الرئيس الموريتاني المنتهية ولايته محمد ولد عبد العزيز أمام عشرات الآلاف من أنصاره في العاصمة نواكشوط، طلب منهم التصويت لصديقه محمد ولد الغزواني، ووصفه بـ«رئيس موريتانيا المقبل». وكان ولد الغزواني يقف إلى جواره ينظر إلى الأرض محتفظاً بهدوئه المعهود، حتى لكأن الحديث ليس عنه ولا يعنيه، وبالفعل صوّت الموريتانيون لصالح الرجل وانتخب رئيساً للبلاد.
لقد سبق أن وقف محمد ولد عبد العزيز وصديقه محمد ولد الغزواني وقفات أخرى كثيرة غيّرت مجرى التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا، وتركت أثرها القوي خلال العقدين الأخيرين. أولى هذه الوقفات جاءت عندما أطاحا معاً عام 2005، في انقلاب عسكري أبيض، بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع الذي حكم البلاد لأكثر من عشرين سنة (1984 - 2005)، ثم عندما وقفا خلف انتخاب الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عام 2007، مغلقين الباب أمام انتخاب زعيم المعارضة التاريخي أحمد ولد داداه.
إلا أن الرجلين سرعان ما اصطدما بالرئيس الذي اختاراه واجهة مدنية لإدارة البلاد، فوقفا خلف أزمة بين الرئيس وغالبيته البرلمانية انتهت بانقلاب عسكري أبيض جديد عام 2008، توصلا بعده إلى قناعة راسخة بصعوبة إدارة البلاد من وراء ستار، وأنه لا بد أن يتوليا الحكم بشكل مباشر.
استقال ولد عبد العزيز من الجيش عام 2009، وترشح للانتخابات الرئاسية ليحكم البلاد طيلة عشر سنوات، مع نهايتها كان صديقه ولد الغزواني يتلقى رسالة تقاعده من الجيش، فأعلن ترشحه للرئاسيات الأخيرة. وها هو الآن يفوز بها ويصبح رئيساً للبلاد، خلفاً لصديقه.
لقد بدا واضحاً أن الأمور تسير كما خطط لها الرجلان قبل قرابة عقدين من الزمن، وربما قبل ذلك، فالرجلان جلسا معاً على مقاعد الدراسة في الأكاديمية الملكية العسكرية بمدينة مكناس المغربية، أواخر سبعينات القرن الماضي.

«رجل الظل»
وطيلة المسار العسكري والسياسي الذي جمع الرجلين، كان ولد عبد العزيز «رجل الأضواء»، بينما فضل ولد الغزواني أن يكون «رجل الظل»، محيطاً نفسه بهالة من الغموض والسرّية التامة. وهو مَن تولى مهام عسكرية كثيرة شديدة الحساسية، كقيادة المخابرات العسكرية والأمن الوطني، وختمها بسنوات من قيادة أركان الجيوش خاض فيها معركة شرسة ضد الإرهاب.
أما بعد التقاعد ودخول معترك السياسة، فها هو الرجل يدخل دائرة الضوء، بشكل تدريجي وبحذر شديد، لكنه لا يزال وفياً لعاداته في السرية والكتمان، رغم تصدره للمشهد السياسي وتربّعه على عرش القرار في البلاد.

خلفية شخصية وعائلية
يتحدر ولد الغزواني من مدينة بومديد، وهي مدينة يغلب عليها الطابع الريفي، تقع وسط البلاد، وتنتصب بجوارها هضبة تكانت وكتلها الصخرية السوداء الهائلة التي تتحول مع كل فصل خريف إلى شلالات لا تتوقف لعدة أشهر... وفي المقابل تقع هذه المدينة عند بوابة المجابات الكبرى الممتدة نحو الشرق الموريتاني لتتصل بالصحراء الكبرى.
وهكذا كانت بومديد مكاناً مناسباً للانعزال، في ظل وعورة الطرق المؤدية إليها وانقطاعها شبه التام عن العالم.
هذه الصفات هي التي دفعت أجداد ولد الغزواني إلى تأسيس المدينة قبل أكثر من قرن من الزمن، فجعلوا منها مركزاً لطريقة صوفية مبنية على الزهد والتجرّد من متاع الدنيا، حظيت بسمعة واسعة في موريتانيا وخارجها.

مشيخة ونفوذ
في هذه الأجواء وُلد محمد ولد الغزواني عام 1956، أي قبل الاستقلال بأربع سنوات فقط، كان له أربعة إخوة غير أشقاء يكبرونه، وأخت واحدة هي شقيقته. وكان والده الشيخ محمد ولد الشيخ الغزواني هو خليفة جده، الذي كان صاحب النفوذ الروحي والسياسي والاجتماعي.
وبالتالي، تربّى ولد الغزواني في بيت مشيخة ونفوذ، واحتكّ خلال طفولته بالأمراء وشيوخ القبائل والعلماء، لا سيما أن بيت والده ما كان يخلو من ضيف قادم من أحد أطراف موريتانيا. لكن الطفل الصغير الذي فتح عينيه في هذا البيت الميسور، بدأ حياته بالتوجّه إلى الكتاتيب، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس بعض متون اللغة العربية والسيرة النبوية والفقه، إذ كان مستقبل من هو في موقعه ومكانته الاجتماعية معروفاً سلفاً، وهو المتحدر من أسرة علم وتصوف.
كان الطفل يكبر، والدولة الموريتانية الفتية تحاول الوقوف على قدميها، وتدفع حكومة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه أعيان المجتمعات وشيوخ القبائل نحو تدريس أبنائهم في «المدارس العصرية»، وكان والده يتنقل بين المدن الموريتانية ويلتقي بالمسؤولين الإداريين في الدولة الفتية، يحدثونه عن مستقبل البلد وأهمية التعليم العصري، والآفاق التي يمكن أن يفتحها أمام المنخرطين فيه. ويومذاك قرر أن ابنه محمد سيتجه إلى هذه المدارس، بعدما استوفى القدر الكافي من «المحظرة التقليدية». كان ذلك القرار غير مألوف وغير مستساغ في مجتمعه المحافظ والتقليدي، لكنه غيّر أقدار الطفل الذي وُلِد بين الهضاب والمجابات الكبرى.
درس ولد الغزواني في كثير من المدن الموريتانية، من كيفه، بوسط البلاد، إلى كيهيدي وروصو في أقصى الجنوب على ضفاف نهر السنغال، ووصولاً إلى العاصمة نواكشوط على ضفاف المحيط الأطلسي. وفي كل محطة كان يحتك بأطفال ومراهقين آتين من مختلف مناطق موريتانيا.
كان في البداية يلفت الانتباه باسمه الطويل، محمد ولد الشيخ محمد أحمد ولد الشيخ الغزواني، غير أنه فيما بعد تحوّل إلى ذلك الطالب الذي ينظر إليه الجميع باحترام كبير. ويقول رئيس البرلمان الموريتاني الشيخ ولد بايه، وهو عقيد سابق في الجيش الموريتاني: «لقد درست معه الثانوية، في روصو ونواكشوط، خلال الفترة من 1973 إلى 1976. وهو الوحيد من بيننا الذي كان يحترمه الجميع. لم تكن لديه أي مشاكل مع أي أحد، وبعدما دخلنا الجيش، كانت علاقته طيبة مع الجميع».

هادئ جداً... وصارم
ولد الغزواني، وهو متزوج من طبيبة أسنان، ولديه خمسة أبناء، ثلاثة منهم من زوجتين سابقتين، يصفه المقرّبون منه بأنه هادئ جداً، إلا أنه يخفي وراء هدوءه قدراً كبيراً من الصرامة والجدية، ثم إنه يصغي أكثر مما يتكلّم، كما أنه مثقف وأديب، ويتحدث لغة عربية رصينة، ولديه ثقافة فرانكفونية محترمة.
انخرط ولد الغزواني في صفوف الجيش الموريتاني «متطوعاً»، شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1978، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من أول انقلاب عسكري تشهده البلاد أطاح بنظام الرئيس المؤسس المختار ولد داداه. وكان الجيش حينها منهكاً بسبب حرب الصحراء والضربات الموجعة التي تلقاها من جبهة «البوليساريو»، التي كان مقاتلوها على أبواب العاصمة نواكشوط.
أسقط الجيش نظام ولد داداه، وأعلن الانسحاب من الحرب، وظهر قادة الانقلاب كالأبطال الذين أنقذوا البلد المهدد بالانهيار. ظهروا وهم يرتدون زيهم العسكري المُزركش يلوحون بعلامات النصر وسط المتظاهرين الفرحين في شوارع العاصمة نواكشوط... إنه مشهد علق في أذهان كثير من الشباب الموريتانيين خلال تلك الفترة، ودفع كثيرين منهم للانخراط في صفوف الجيش، ربما يكون من بينهم ولد الغزواني الذي قاد بعد قرابة ثلاثة عقود انقلابين عسكريين.
وبعد انضمامه إلى الجيش، توجه إلى المغرب حيث تلقى تكويناً عسكرياً في الأكاديمية الملكية العسكرية بمكناس ليتخرج فيها ضابطاً، رفقة صديقه محمد ولد عبد العزيز وضباط آخرين كانوا شركاء في انقلابي 2005 و2008، من أبرزهم الجنرال حننا ولد سيدي، الذي يتولى حالياً قيادة القوة العسكرية المشتركة لدول الساحل الخمس.
حصل ولد الغزواني على شهادة البكالوريوس في الدراسات القانونية، ثم الماجستير في العلوم الإدارية والعسكرية، وتلقى دراسات وتدريبات عسكرية عليا في الأردن، وتدرّج في المناصب والرتب العسكرية حتى رقّي عام 2008 إلى رتبة جنرال في الجيش الموريتاني رفقة صديقه ولد عبد العزيز، كما سبق أن تولى قيادة المخابرات العسكرية عام 2004، وإدارة الأمن الوطني عام 2005، في عام 2008 أصبح قائد الأركان الوطنية، وفي عام 2013 أصبح قائد الأركان العامة للجيوش وهو المنصب الذي استمر فيه حتى تقاعده نهاية العام الماضي (2018).
خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2012 أصيب ولد عبد العزيز بطلق ناري في البطن، بسبب خطأ من ضابط شاب اشتبه في سيارته التي كانت تمرّ بجوار قاعدة عسكرية شمال البلاد، نُقل الرئيس على جناح السرعة إلى العاصمة الفرنسية لتلقي العلاج. في حينه بقيت البلاد في قبضة ولد الغزواني لذي رفض مطالب البعض بإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية وتجاهل عروضاً تغريه بالانقلاب على صديقه «الجريح»، الذي استغرق علاجه 45 يوماً.
ومنذ تولى ولد الغزواني قيادة الأركان الوطنية عام 2008، وهو يمسك بملف «الحرب على الإرهاب»، فنجح في إصلاح المؤسسة العسكرية، وأعاد هيكلة الجيش الموريتاني، وضاعف من تسليحه، وخاض حرباً شرسة ضد تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الذي كان مقاتلوه يشنون هجماتهم في أحياء العاصمة نواكشوط... إلا أن استراتيجية الرجل الأمنية أوقفت هذه الهجمات منذ عام 2011.

انتقادات ووعود
ولئن كان ولد الغزواني قد نجح في كبح جماح الخطر الإرهابي، فإنه واجه العديد من الانتقادات، خصوصاً فيما يتعلق بترقيات العسكريين التي قيل إنه كان يمارس فيها المحسوبية والزبونية، وأن بعض الضباط تعرض للظلم. كذلك انتقد أيضاً لفشل استراتيجيته في الحد من الجريمة التي ارتفعت بشكل مخيف خلال السنوات الماضية، وأصبحت بعض أحياء العاصمة نواكشوط، خارج نطاق التغطية الأمنية وتسيطر عليها عصابات السطو والنهب، ووقعت عمليات سطو مسلح في وضح النهار على البنوك والمحلات التجارية.
مع هذا، رفع ولد الغزواني ورقة الأمن والتنمية خلال حملته الانتخابية الأخيرة، وقدّم جملة من التعهدات التي قال إنه سيحققها خلال خمس سنوات مقبلة، من أبرزها الحد من الفقر ومكافحة الفساد والعدالة في توزيع الثروة، وتسوية ملفات حقوق الإنسان، مؤكداً أنه سيعمل على «إنصاف» مَن وصفهم بـ«الفئات المغبونة»، بيد أن الوعد الأكبر الذي قدمه هو شق قناة تربط نهر السنغال بمدينة ألاك، لمسافة تزيد على 50 كيلومتراً. هذا مشروع يتطلب إمكانيات كبيرة وتقف في وجهه عراقيل سياسية ودبلوماسية قد تؤثر على العلاقات مع دول الجوار، خصوصاً السنغال ومالي، لكن الرجل يراهن على المشروع للحد من الفقر والبطالة، إذ تعهد في السياق نفسه بإنعاش قطاع الزراعة، من خلال استصلاح 5 آلاف هكتار سنوياً لصالح الفئات الأكثر فقراً، وتشجيع القطاع الخاص على استصلاح ألفي هكتار سنوياً على ضفاف النهر.
وعود كثيرة وكبيرة أطلقها الرجل في حملته الانتخابية، ولكن هذه الوعود لم تحجب حقيقة أنه يرث بلداً مثقلاً بالمشاكل، من انتشار البطالة وتدهور التعليم وضعف القطاع الصحي، وصولاً إلى أزمة اجتماعية وعرقية تهدد الأمن في البلد الهش، ما يجعل مهمة الرجل صعبة ومعقدة.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.