الوساطة الفرنسية تراوح مكانها... والتنازلات الإيرانية لم تحصل

إيمانويل بون و احد المسؤوليين الايرانيين.
إيمانويل بون و احد المسؤوليين الايرانيين.
TT

الوساطة الفرنسية تراوح مكانها... والتنازلات الإيرانية لم تحصل

إيمانويل بون و احد المسؤوليين الايرانيين.
إيمانويل بون و احد المسؤوليين الايرانيين.

لم يُعلن الكثير عما عاد به مبعوث الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إيران، بعد جولة محادثات شملت 4 مسؤولين رئيسيين، بمن فيهم رئيس الجمهورية حسن روحاني. كذلك، لم تعرف بالضبط ردود فعل طهران على المقترحات التي حملها إيمانويل بون، والتي تريد منها باريس «تبريد» الوضع المتوتر في الخليج، وإيجاد الوسائل لتوفير «مساحة للحوار» بين الطرفين الإيراني والأميركي. لكن الواضح، وفق ما تراه مصادر رسمية في باريس، أن «لا أحد يريد تسهيل مهمة» الرئيس إيمانويل ماكرون الراغب في لعب دور الوسيط والقادر على التحدث للطرفين.
تطرح هذه المصادر سؤالين؛ الأول يتناول الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في تغريدة نشرها إبان وجود المبعوث الرئاسي الفرنسي في طهران، إلى الإعلان عن عزمه تشديد العقوبات المفروضة على إيران «إلى حد كبير»، متهماً إياها بتخصيب اليورانيوم «بشكل سري ومنذ زمن طويل». والسؤال الثاني يتناول العملية المنسوبة لـ«الحرس الثوري» الإيراني ومحاولته السيطرة على ناقلة نفط بريطانية في مياه الخليج، في هذا الوقت بالذات، وما ينظر إليه على أنه ردّ على احتجاز الناقلة الإيرانية «غريس 1» لدى سلطات جبل طارق، وبطلب أميركي ومساهمة البحرية البريطانية.
تقول القراءة الفرنسية الأولى إنه من الواضح أن أياً من الطرفين «لا يريد تسهيل مهمة باريس» الصعبة أصلاً، وإن الأمرين يدخلان في خانة التصعيد. وتذكر هذه المصادر أنه عندما جاء رئيس الوزراء الياباني إلى طهران، كان الردّ على محاولة التوسط التي سعى إليها الشهر الماضي، استهداف ناقلة يابانية بعمل تخريبي، في مياه خليج عمان، إلى جانب استهداف ناقلة نرويجية. وبالمقابل، فإن الرئيس الأميركي اغتنم الفرصة للإعلان عن عقوبات قاسية استهدفت قطاع الصناعات البتروكيماوية الإيراني. الأمر الذي ضرب اقتصاد هذا البلد في الصميم، تنفيذاً للقرار الأميركي القاضي بممارسة «أقصى الضغوطات» على إيران. وها هي أعمال مشابهة تتكرر بمناسبة «الوساطة» الفرنسية التي تبدو اليوم «الوحيدة» المطروحة في الساحة. وفي حال تم إجهاضها عمداً أم مصادفة، فإن قنوات التواصل غير المباشرة بين الطرفين مرشحة للانسداد. وللتذكير، فإن المبادرة الفرنسية التي لم يفصح عنها علناً ورسمياً تقوم على حثّ الطرفين على القيام بـ«خطوات» متبادلة لخفض التصعيد في مرحلة أولى، بدعوة إيران إلى الامتناع عن القيام بأعمال استفزازية والتراجع عن تخليها عن بعض التزاماتها، وأبرزها نسبة تخصيب اليورانيوم. وبالمقابل، فإن واشنطن مدعوة لـ«تجميد» عدد من العقوبات التي فرضتها، ومنها العقوبات على تصدير النفط، فيما تلتزم البلدان الأوروبية الثلاثة «فرنسا وبريطانيا وألمانيا» بـ«تفعيل» الآلية المالية لتعويض طهران عن الخسائر الاقتصادية والمالية التي منيت بها بسبب العقوبات الأميركية. وأول من أمس، لخصت أوساط إيرانية المبادرة الفرنسية بأنها تطرح «التجميد مقابل التجميد». لكن هذه القراءة تبتعد عن الرؤية الفرنسية التي ترى أنه يتعين على إيران، إن كانت حقيقة مهتمة بالخروج من «الورطة» التي وقعت فيها، أن تقدم «تنازلات» مهمة، من شأنها إقناع واشنطن بقبول التخفيف من القيود التي فرضتها وتسهيل معاودة الحوار «مع كل الأطراف».
حتى مساء أمس، لم يلحظ في الأجواء ما يشي بأن السفير إيمانويل قد حصل من الإيرانيين على ما يريد، رغم تأكيد روحاني أن بلاده لم تغلق باب الحوار. وما فهم من التصريحات الإيرانية أن طهران متمسكة بشروطها، وأنها لم تعد تملك سوى ورقتين لمواجهة العقوبات الأميركية، ولتعزيز مواقعها في حال فتح باب التفاوض مجدداً. ويمثل الخروج التدريجي من الاتفاق النووي الورقة الأولى، فيما التوتير الأمني في الخليج أو في أماكن أخرى يعد الورقة الثانية. والحال أن السير بهما سيحرمها أكثر فأكثر من داعميها الذين يدعونها للبقاء داخل الاتفاق، رغم العقوبات، ويعدونها بالتدخل وبمساعدتها، قدر الإمكان، على الالتفاف عليها. وما حصل في مياه الخليج في الساعات الأخيرة يدفع الأمور باتجاه التصعيد، وستكون له نتائج سلبية على الوساطات، وأولها المبادرة الفرنسية إن لم يكن القضاء عليها. فمن جهة، سيدفع تفاعل مسألة الباخرة الإيرانية المحتجزة في مالطا وتوقيف ربانيها وما يمكن اعتباره رداً إيرانياً في مياه الخليج العلاقات بين البلدين إلى التصعيد، وسيقضي بالتالي على أي رغبة بريطانية لمساعدة إيران. وتنظر لندن إلى ما حصل على أنه تنفيذ للتهديدات التي صدرت عن أكثر من مرجع إيراني في الأيام الأخيرة، وبالتالي سوف تفتقد طهران أحد الأعمدة الأوروبية الثلاثة التي بقيت ملتزمة بالاتفاق النووي وداعمة له.
في حديث لقناة إخبارية فرنسية، قال رئيس الأركان الفرنسي إن الأمور في الخليج ما زالت تحت السيطرة. ولكن السؤال المطروح اليوم، وسط أجواء التصعيد هو؛ إلى متى؟ فمع وجود قوات بحرية متعددة الجنسيات والمشارب لمواكبة البواخر وتأمين حراستها، ومع وجود قوات «الحرس الإيراني» البحرية، ليس ثمة من يضمن عدم وقوع حادث يساء تفسيره. وفي ظل غياب التواصل المباشر بين الأطراف، يصبح الوضع مفتوحاً على الاحتمالات كافة، وبينها أسوأها.



فرنسا متأرجحة نحو التغييرات السورية... إقدام أم تروٍّ؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)
TT

فرنسا متأرجحة نحو التغييرات السورية... إقدام أم تروٍّ؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً في مؤتمر صحافي مشترك في وارسو مع رئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك بمناسبة زيارة رسمية الخميس (د.ب.أ)

لا تشذ فرنسا في مقاربتها للملف السوري عن غيرها من الدول الأوروبية وغير الأوروبية وتتأرجح مواقفها بين الرغبة في الإقدام على الدخول بتفاصيله، والتروي بانتظار أن يتضح المشهد السوري وما تريده السلطة الجديدة وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع (المكنى سابقاً أبو محمد الجولاني).

كذلك تريد باريس تنسيق مواقفها وخطواتها مع شريكاتها في الاتحاد الأوروبي رغم أن الدول المعنية ليست كلها منخرطة في الملف السوري بمقدار انخراط باريس أو برلين أو مدريد، وأفادت الخارجية الفرنسية بأن الملف السوري سيكون موضع مناقشات بين وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم الاثنين المقبل.

ما تقوله المصادر الفرنسية، يُبين أن باريس، كغيرها من العواصم، «فوجئت» بسرعة انهيار النظام الذي تصفه بأنه «نظام قاتل» مسؤول عن وفاة 400 ألف شخص وكل يوم يمر يكشف عن المزيد من «فظاعاته»، فضلاً عن أنه أساء دوماً للمصالح الفرنسية خصوصاً في لبنان، ولم يحارب الإرهاب بل «شجعه» كما دفع ملايين السوريين إلى الخارج.

وتعدّ فرنسا أن سقوط نظام بشار الأسد شكل «مفاجأة»؛ إلا أنه شكل «بارقة أمل» للسوريين في الداخل والخارج، ولكنها مُكَبّلة بعدد كبير من التحديات والمخاطر؛ منها الخوف من «تمزق» سوريا، وأن تمر بالمراحل التي مر بها العراق وليبيا سابقاً، وأن تشتعل فيها حرب طائفية ونزاعات مناطقية وتنشط مجموعات «إسلاموية وجهادية»، وتدخلات خارجية، وأن تنتقل العدوى إلى لبنان كما حصل في السنوات 2015 و2016.

ملاحظات باريسية

وإزاء مفردات خطاب «معتدلة» تصدر عن أحمد الشرع والهيئة التي يرأسها وعلى ضوء صورة الحكومة الانتقالية التي رأت النور برئاسة محمد البشير، تتوقف باريس عند عدة ملاحظات: الأولى، اعتبار أن ما جرى «يفتح صفحة جديدة»، وأن الهيئة المذكورة لم ترتكب تجاوزات كبرى واعتمدت حتى اليوم خطاباً «معتدلاً» ووفرت ضمانات «كلامية»؛ إلا أن ما يهم فرنسا، بالدرجة الأولى، «الأفعال وليست الأقوال».

وما تريده باريس عميلة انتقال سلمي للسلطة وأن تضم جميع المكونات وأن تحترم الحقوق الأساسية للمواطنين والأديان والطوائف، وأحد معاييرها أيضاً احترام وضع النساء وحقوقهن، كذلك، فإن باريس ستعمل لأجل هذه الأهداف مع الشركاء العرب وأيضاً مع تركيا وإسرائيل.

بيد أن فرنسا لا تريد لا الإسراع ولا التسرع، وإن كانت تتأهب لإرسال مبعوث إلى سوريا يرجح أن يكون الدبلوماسي جان فرنسوا غيوم، لكنها تستبعد الاعتراف السريع بالسلطات الجديدة.

وأكدت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان صادر عنها الخميس أن باريس ترى أنه «من السابق لأوانه في هذه المرحلة مناقشة رفع العقوبات المفروضة» على سوريا.

وكان وزير الخارجية المستقيل، جان نويل بارو، قد أجرى محادثات مع بدر جاموس، رئيس لجنة المفوضات السورية ومع ممثلين عن المجتمع المدني.

وقال بيان رسمي إن بارو ومحدثيه «عبروا عن الالتزام بتحقيق انتقال سياسي سلمي يشمل الجميع ويتماشى مع القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة، يحمي المدنيين والحقوق الأساسية والأقليات».

كذلك أشار إلى «الاتفاق على أهمية الحفاظ على مؤسسات الدولة واحترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها»، فضلاً عن «الإعراب عن قلقهم إزاء مخاطر التشرذم وانعدام الاستقرار والتطرّف والإرهاب، وضرورة استنفار الطاقات السورية والدولية من أجل تحاشيها».

اللاجئون

أما بالنسبة لملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، فإن باريس تقول إنها ليست من يقول لهؤلاء بالعودة أو بالامتناع عنها. إلا أنها بالمقابل تعدّ الشروط الضرورية لعودتهم مثل الأمن والعودة الكريمة «ليست متوافرة» رغم سقوط النظام القديم وقيام نظام جديد.

وتتوافق المواقف الفرنسية مع تلك التي صدرت عن مجموعة السبع، الخميس، التي أبدت الاستعداد لدعم عملية انتقالية في إطار يؤدي إلى حكم موثوق وشامل وغير طائفي في سوريا، مذكرة بأن العملية الانتقالية يجب أن تتسم بـ«احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان العالمية، بما في ذلك حقوق المرأة، وحماية جميع السوريين، بمن في ذلك الأقليات الدينية والعرقية، والشفافية والمساءلة».

لاجئون سوريون في تركيا يسيرون نحو المعبر الحدودي بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد (د.ب.أ)

وضمن هذه الشروط، فإن مجموعة السبع ستعمل مع أي حكومة سورية مستقبلية تلتزم بهذه المعايير وتكون نتاج هذه العملية وتدعمها بشكل كامل.

وبينما تقضم إسرائيل أراضي سورية، وتدفع تركيا بالقوات التي ترعاها في الشمال الشرقي إلى مهاجمة مواقع «قسد»، فإن مجموعة السبع دعت «الأطراف كافة» إلى الحفاظ على سلامة أراضي سوريا ووحدتها الوطنية واحترام استقلالها وسيادتها.

ومن جانب آخر، وفي الكلمة التي ألقتها بعد ظهر الخميس بمناسبة «القمة الاقتصادية الخامسة لفرنسا والدول العربية» التي التأمت في باريس، عدّت آن غريو، مديرة إدارة الشرق الأوسط والمغرب العربي في الخارجية الفرنسية، أن الوضع اليوم في المنطقة «بالغ التعقيد» في قراءتها للتطورات الأخيرة في سوريا وللوضع في الشرق الأوسط، وأن المنطقة «تشهد تحركات تكتونية» (أي شبيهة بالزلازل).

وتعتقد غريو أن هناك «حقيقتين» يتعين التوقف عندهما بشأن سوريا: الأولى عنوانها «انعدام اليقين»، والعجز عن توقع التبعات المترتبة على هذه التطورات ليس فقط في المنطقة ولكن أيضاً في الجوار الأوروبي، إذ إن المنطقة «تسير في أرض مجهولة» وتشهد تغيرات جيوسياسية رئيسية.

و«الحقيقة» الثانية عنوانها السرعة الاستثنائية التي تحصل فيها هذه التغيرات، مشيرة إلى أنه في عام واحد حصلت حرب غزة وحرب لبنان والحرب بين إسرائيل وإيران وانهيار النظام السوري، وهي تطورات غير مسبوقة، لا في أهميتها وتبعاتها ولا في زمنيتها.