«قوة رمزية» تشكّل ثقافة النخبة وتوجّه أفكار الناس عبر التاريخ

الشقير يحقق كتاب اليعقوبي التراثي في الفكر الاجتماعي الصادر قبل 1100 عام

«قوة رمزية» تشكّل ثقافة النخبة وتوجّه أفكار الناس عبر التاريخ
TT

«قوة رمزية» تشكّل ثقافة النخبة وتوجّه أفكار الناس عبر التاريخ

«قوة رمزية» تشكّل ثقافة النخبة وتوجّه أفكار الناس عبر التاريخ

نفض باحث سعودي الغبار عن كتاب نادر يعدّ من نفائس التراث العربي في الفكر الاجتماعي، وأعاده إلى الواجهة، وهو كتاب «مشاكلة الناس لزمانهم وما يغلب عليهم في كل عصر» - «جداول للنشر» - الصادر قبل 1100 عام لمؤلفه المؤرخ أحمد بن إسحاق اليعقوبي (توفي 905)، الذي يبحث فيه تأثير ثقافة النخب واهتماماتهم على سلوك الناس العاديين في حياتهم اليومية، الذين يبحثون عن الرمز ويحاكون نمط حياته واهتماماته، وهو ما لاحظه علماء الاجتماع، فالأفراد ينتمون إلى حقول مميزة تخضع لمنطق واحد ضمن نسق ذهني ومعرفي واحد أو من خلال ظاهرة انتشار الأفكار في المجتمع، ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة: «الناس على دين ملوكهم».
حقق الباحث عبد الرحمن الشقير هذا الكتاب مع دراسة في النظريات الاجتماعية المتوافقة مع مضمونه. وعدّ المحقق أن هذا الكتاب يدلنا على مصادر نشأة الأفكار وقوانين تغيرها في المجتمع؛ إذ تتبع مؤلفه اليعقوبي ظاهرة انتشار القيم والعادات والتقاليد والاهتمامات والموضة، أو ما يشيع بين الناس عموماً، وتوصل إلى تسلسل أسبابها، وهرمية انتشارها، فهي وفق ملاحظته تبدأ من الخليفة، ثم يقلّده كبار رجال دولته، مثل ولاته ووزرائه وعماله، ثم يقلّدهم من تحتهم، حتى يصير هذا التقليد عادة منتشرة في المجتمع؛ فالخلفاء كانوا رمزاً اجتماعياً ومصدراً أساسياً لتوجيه أفكار الناس واهتماماتهم. يقول اليعقوبي في مقدمة كتابه: «فأما ملوك الإسلام، فإن المسلمين في كل عصر تبع للخليفة، يسلكون سبيله، ويتبعون مذهبه، ويعملون على قدر ما يرون منه، ولا يخرجون عن أفعاله وأخلاقه وأقواله».
وأوضح الشقير في دراسته أن اليعقوبي تتبع الظاهرة عبر ثلاثة قرون، بدراسته الدقيقة للتاريخ الاجتماعي لواحد وثلاثين خليفة التي شملت الخلافة الراشدة، والعصرين الأموي والعباسي الأول.
وتؤكد ملاحظة اليعقوبي على أن التفاعل الاجتماعي أقوى تأثيراً من المهام الرسمية، فجميع الخلفاء مهمتهم الرئيسة هي إدارة الدولة سياسياً وعسكرياً وإدارياً ومالياً، ولكن سماتهم الشخصية وتفاعلهم الشعبي مع المجتمع هو الذي يترك الصورة الذهنية عنهم، وهو الذي يتأثر به رجالهم؛ بوعي منهم، أو بلا وعي. ويستنتج المحقق من ملاحظة اليعقوبي هذه أن السمات الشخصية للخلفاء الأمويين وبعض العباسيين تركز على الاستهلاك الثقافي المتمثل في التسامي بالذات والبناء الحضاري والفكري والعلمي، في حين بدأت ظاهرة الاستهلاك المظهري مع بعض الخلفاء العباسيين، ويبدو أن سبب ذلك توسع الفتوحات وزيادة دخل الدولة وبروز ظاهرة دخول العناصر التركية في المناصب العليا للدولة.
وشدد المحقق على أن ملاحظة اليعقوبي الاجتماعية للخلفاء تتكرر في كل زمان ومكان عند الملوك والرؤساء والوزراء، ولكنها تقل نسبياً في العصر الحديث، خصوصاً في الدول التي تعلي من شأن الديمقراطية، كما أن الإعلام الجديد انتزع هذه الميزة من السياسيين، فقد أخرج للمجتمع مشاهير جدداً، وأكثرهم إما من رموز الفن والرياضة، وإما من المعنيين بمخاطبة الشباب والمراهقين، وإما مشاهير تصنعهم شركات التسويق لهدف محدد ثم يختفون، أو حتى الترويج لسلعة أو الترويج لموضة.
كما يتضح من موضوع هذا الكتاب والإسقاطات التي استدل بها اليعقوبي لتدعيم فكرته أنه لا يرى أن هناك استقلالية للوعي، بل إن الوعي الجمعي ظاهرة اجتماعية، ومن ثم فإنه لا يكفي أن نثبت ظاهرة «(الناس على دين ملوكهم) تاريخياً واجتماعياً دون فحص لماهية هذه الظواهر التي تتغير مع كل خليفة».
وذكر المحقق أن «الشعوب التقليدية كانت تمثل القوة المحركة لتجانس المجتمع، من خلال بحثها عن الرمز والولع بتقليد نمط حياته في اللبس والاهتمامات، ومحاكاته. أما في العصر الحديث فقد تمايز الأفراد في إنتاج المعرفة وتقديم الذات في الحياة اليومية من خلال سيادة الروح الفردانية».
ومن ثم؛ فإن مصادر تلقي القيم والعادات الجديدة والموضة، لم تعد حكراً على القادة السياسيين، حتى لو امتلكوا وسائل الإعلام في مجتمعاتهم؛ إذ تغير الوضع مع العولمة، وعصر تدفق المعلومات، ووسائل التأثير القوية التي تمتلك أساليب بث القيم الجديدة من خلال الآداب والفنون والسينما والثقافة، فصارت الأفكار تنتشر بطريقة شبكية معقدة، وليست عمودية من أعلى إلى أسفل الهرم الاجتماعي كما كانت الحال في السابق. لقد صارت عامة وليست محتكرة من قبل البعض.
من هنا، يقول الشقير إن الإنسان في مجتمع العصر الإسلامي الأول لا يختلف عن إنسان اليوم في ممارسة حياته اليومية، وفي سعيه لتحسين تقديم ذاته من أجل تحقيق المكانة الاجتماعية أو الاعتراف به من خلال محاكاة النخب والمشاهير؛ إذ إن متابعة الموضة اليوم هي إعادة إنتاج لفكرة «الناس على دين ملوكهم»، من حيث إن الإنسان العادي يبحث عما يحقق له المكانة الاجتماعية في تقليد رموز المجتمع ومشاهيره في عاداتهم ولبسهم وهواياتهم.
والموضة بمفهومها الواسع تشمل كل فكرة متجددة موسمياً، أو مؤقتاً، في جميع المجالات التي يتعامل معها الإنسان، مثل: اللبس والأثاث والتصميم والعادات، وتكتسب قوتها من اهتمام المشاهير والنخب بها، وتفقد أهميتها إذا أهملوها؛ إذ إن المشاهير والنخب يملكون عنصر «الثقة» في لبسهم وفي اهتماماتهم واستخداماتهم للأشياء اليومية. ويترتب على ذلك تقليد الآخرين لهم.
ومن أبرز قوانين منطق التقليد التي فككها «تارد»، منطق انتقال العادات من الطبقات العليا إلى الطبقات الدنيا، وهي في صميم موضوع هذا الكتاب، إذ يقول: «ويكفي أن نعرف في أي اتجاه يسير التيار الرئيسي لنماذج التفكير والسلوك لكي نحدد مركز السلطة الحقيقية، ولا شيء أسهل من هذا التحديد إذا كانت الدولة تقوم على نظام أرستقراطي؛ إذ نلاحظ دائماً وفي كل مكان أن النبلاء يقلدون الملوك والحكام، وأن الشعب يقلد النبلاء بمجرد أن يصبح هذا التقليد في إمكانه، وقد حدث ذلك في فرنسا أيام لويس الرابع عشر (1638 - 1715م)، ووصف سان سيمون تلك الظاهرة بقوله: إنها جرح لا يلبث حين يتغلغل في الجسم وأن يصبح سرطاناً يسري بين الأفراد؛ وذلك لأنه ينتقل إليهم سريعاً من البلاط إلى باريس، ثم إلى الأقاليم، ثم إلى مجموعات الشعب».
ويتوقف «تارد» عند هذه الملاحظة ليؤكد على تسلسلها من أعلى إلى أدنى، وأنها شاملة، وليست منحصرة على سلوك محدد: «إن الدور الرئيسي الذي كانت تلعبه طبقة النبلاء، وسمتهم المميزة هي أنهم كانوا يمثلون طابع المبادأة أو على الأقل تيار الاختراع، وقد ينبع الاختراع من بين صفوف الشعب، ولكنه لكي ينتشر يحتاج إلى قمة اجتماعية ينحدر منها، كما ينحدر الماء من المسقط ليفيض بعد ذاك في الأنهر والقنوات. وفي كل زمان ومكان كانت الطبقة الأرستقراطية هي الطبقة المتفتحة لتلقي كل جديد من الخارج، كما كان وضعها يؤهلها لاستيراده». ويشرح تارد نظرية التقليد بأنها تنتقل من المركز إلى الأطراف، وتبدأ من العواصم لتنتقل إلى القرى.
ويرى الشقير أخيراً أنه يمكن القول بأن مشاكلة الناس لزمانهم اليوم لا تزال ظاهرة مستمرة، ولكن المجتمع يعيد إنتاجها بحسب الإمكانات المتاحة في كل عصر، وقد اتخذت اليوم شكلاً جديداً مختلفاً عن زمان الأمس، وصار طابع المشاكلة يتغير بصفة دورية وسريعة متضمنة توفير بدائل لها في الموضة والعادات، ولكنها بدائل خاضعة لسيطرة الشركات المتنفذة والموجهة لسلوك الأفراد.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.