حفظ الأصول الأحيائية لإنقاذ العالم

من قبو البذور إلى قبو الميكروبات

حفظ الأصول الأحيائية لإنقاذ العالم
TT

حفظ الأصول الأحيائية لإنقاذ العالم

حفظ الأصول الأحيائية لإنقاذ العالم

في هذه اللحظة بالذات، تعيش مليارات الكائنات الحية المجهرية داخل أجسامنا وتؤثر في عمليات حيوية كثيرة، مثل التغذية والمناعة والنشاط الهرموني. وتشمل هذه الكائنات البكتيريا والفيروسات والفطريات، وهي تعرف باسم الأحياء الدقيقة، أو الميكروبات التي تنتشر ليس فقط في جسم الإنسان، بل في جميع الأوساط، كالتربة والهواء والماء. وإذا كان الاعتقاد السائد أن كل الميكروبات مضرّة، فالواقع أن بعضها ضروري للحياة.
ويسعى فريق من العلماء حالياً لإقامة بنك أحيائي، يضم عينات من الميكروبات البشرية والزراعية، يكون بمثابة ذخيرة احتياطية عالمية، كما هو الحال في «قبو سفالبارد» للبذور في النرويج.
على خطى قبو البذور العالمي
«قبو سفالبارد»، الذي يعرف أيضاً باسم «قبو يوم القيامة»، عبارة عن مخزن عالمي للبذور شُيّد في باطن جبل متجمد على أطراف القطب الشمالي، بهدف حماية الأصول الوراثية لمصادر الغذاء في حالات الكوارث، كانتشار وباء ما أو قيام حرب نووية.
ويجادل مجموعة من الباحثين من جامعة «روتجرز نيو برونزويك» في الولايات المتحدة بأن حفظ البذور لن يكون وحده كافياً لإنقاذ البشرية من المخاطر التي تهددها. فالميكروبات الضرورية لصحة الإنسان تفقد قدراً كبيراً من تنوعها، وهي تتأثر بكثير من العوامل، بما فيها النظام الغذائي والتاريخ الصحي والبيئة المحيطة. كما أن الكائنات المجهرية الأخرى تؤثر على صحة التربة والأوساط المائية، وهي تُعد ضرورية لتغذية سكان العالم الذين يتزايد عددهم باستمرار.
ويقترح الباحثون إنشاء قبو لتخزين الميكروبات من أجل استخدامها عند الحاجة، كما هو الحال في «قبو سفالبارد»، الذي لا تنحصر مهمته في حماية أصول المحاصيل في حالات الكوارث الكبرى فقط، بل يوفر أيضاً شبكة أمان ضد الخسارة العرضية التي تحصل في البنوك الوراثية التقليدية، بسبب سوء الإدارة والحوادث وفشل المعدات وخفض التمويل والكوارث الطبيعية، وكذلك نتيجة الحروب والنزاعات الأهلية التي لطالما تسببت في تدمير البنوك الوراثية حول العالم.
النزاع في سوريا مثلاً أثار مخاوف جدية حول وضع البنك الوراثي التابع للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)، الذي يقع مقره بالقرب من مدينة حلب. ولم تكن خسارة محتويات هذا البنك لتمثل خسارة للمركز فحسب، وإنما للبشرية جمعاء، نظراً لتراجع التنوع الحيوي في جميع أنحاء العالم.
ويعتبر المدير العام السابق لـ«إيكاردا»، الدكتور محمود الصلح، أن من أهم الخطوات التي اتبعها المركز للحفاظ على هذه الثروة الإنسانية من مخاطر النزاع الذي اندلع في سوريا منذ عام 2011 «حفظ وتكرار جميع عينات المواد الوراثية القيمة التي يحتفظ بها بنك (إيكاردا)، وتخزين 80 في المائة من هذه المجموعة في (قبو سفالبارد) العالمي للبذور في النرويج، كما تم حفظ 13 في المائة منها في مخازن في لبنان والمغرب، أنشئت خصيصاً لهذا الغرض».
ومن خلال المقاربة ذاتها، يسعى الباحثون من جامعة «روتجرز نيو برونزويك» إلى تشكيل مجموعات عمل إقليمية تقوم بجمع عينات ميكروبية متنوعة، وإرسالها لتحفظ في مكان آمن مستقر محايد سياسياً، للاستفادة منها عند الحاجة. ويمكن اعتبار مشروع «قبو الميكروبات» المقترح بمثابة عمل متمم لمشاريع دولية كثيرة تعنى بالأحياء الدقيقة، مثل مشروع «إيرث ميكروبيوم»، الذي تأسس في سنة 2010 في كاليفورنيا في الولايات المتحدة، كجهد تعاوني واسع النطاق لوصف الحياة الميكروبية على كوكب الأرض من خلال تحليل مئات آلاف العينات، وإنتاج أطلس مورثات يساعد في فهم الاتجاهات الإيكولوجية.
كما أن قبو الميكروبات يعد توسعة لمشروع قائم حالياً، تديره مجموعة «غلوبال ميكروبيوم كونسيرفانسي»، التي تعمل على جمع ودراسة وحفظ عينات تمثل التنوع البيولوجي الميكروبي الذي يعيش ضمن الجهاز الهضمي للبشر، في حين يسعى المشروع الجديد لتخزين جميع أشكال التنوع الميكروبي الآتية من الأوساط كافة، وكذلك حفظ عينات كاملة من التربة والرسوبيات، تضم الأنواع البيولوجية بحالتها السليمة.
تراجع التنوع الميكروبي العالمي
وترتبط صحة الإنسان والبيئة بسلامة الأحياء الدقيقة التي تعيش فيها وتؤثر عليها. وقد أمكن ربط الاختلالات في الميكروبات الهضمية، وكذلك عدم تعرض الأطفال للميكروبات المهمة تاريخياً، بكثير من أمراض العالم الحضري والصناعي، مثل مرض التهاب الأمعاء والربو واضطرابات المناعة الذاتية واضطرابات طيف التوحد والسكري والسمنة. ولذلك فإن الدراسات القائمة على مجتمع الميكروبات قد تحدث ثورة في مقاربتنا للأمراض التي تصيب عشرات الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم، خصوصاً مع اتساع التمدن.
وتواجه المجتمعات الصناعية الحضرية تناقصاً في التنوع الميكروبي داخل أجسام أفرادها، مقارنة بالمجتمعات التقليدية. فعلى سبيل المثال، يصل انخفاض هذا التنوع في ميكروبات أمعاء الأميركيين إلى نسبة النصف، مقارنة بميكروبات أمعاء الصيادين في قرى الأمازون المعزولة. وتنسب الأدلة العلمية زيادة الأمراض والاضطرابات بين البشر منذ مطلع القرن العشرين إلى حصول اضطرابات ميكروبية، لا سيما في سنوات العمر الأولى، تحت تأثير التصنيع وانتشار استخدام المضادات الحيوية ومواد التعقيم.
وترى الدكتورة ماريا غلوريا دومينغيز بيلو من جامعة «روتجرز» أن العالم «يواجه أزمة صحية متنامية تتطلب منا الحفاظ على تنوع الكائنات الحية المجهرية البشرية، بينما لا تزال متاحة»، وتضيف: «لقد تطورت هذه الميكروبات مع البشر على مدى مئات الآلاف من السنين، وهي تساعدنا على هضم الطعام، وتقوية جهاز المناعة لدينا، وحمايتنا من الجراثيم الغازية. وعلى مدى بضعة أجيال، شهدنا خسارة مذهلة في التنوع الميكروبي الذي ترافق مع ارتفاع عالمي في الاضطرابات المناعية وغيرها».
وبشكل مشابه، تؤثر الكائنات الدقيقة بالبيئة المحيطة بنا وتتأثر بها. وعلى سبيل المثال، تطورت خلال ملايين السنين أنواع من البكتيريا تستطيع مص النيتروجين (الآزوت) الموجود في الغلاف الجوي، وتحويله إلى مواد مغذية يمكن للنباتات أخذها عبر الجذور. وشكلت هذه البكتيريا المثبتة للنيتروجين علاقة تكافلية مع بعض أنواع البقوليات، مثل الفول والبازلاء والفاصولياء والبرسيم.
وبعد اختراع الأسمدة الكيميائية في مطلع القرن العشرين، أخذت العلاقة بين الزراعة والميكروبات تشهد تراجعاً كبيراً. وإلى جانب الآثار السامة للأسمدة الكيميائية على الأوساط الحية، اعتادت البكتيريا الحرة على التربة الغنية بالنيتروجين، فتوقفت عن تثبيت النيتروجين الجوي لأن هذه العملية تستلزم طاقة كبيرة. بمعنى آخر، جرى تعطيل البكتيريا المثبتة للنيتروجين، وتدمير الموئل الحيوي لأنواع الأحياء الدقيقة الأخرى التي لا تملك ترف الانتقال إلى مواطن أخرى، كما تفعل الحيوانات الكبيرة.
ولذلك يعتبر الدكتور جاك جيلبرت، من جامعة «روتجرز»، أن الحفاظ على التنوع العالمي للكائنات الحية الدقيقة يتطلب «الحد من الأضرار البيئية التي تلحق بالأوساط التي تعيش فيها، من خلال إدارة أفضل لنظمنا البيئية. وهذا يعني تحسين ممارساتنا الطبية، كترشيد استخدام المضادات الحيوية لمنع تدمير الميكروبات البشرية، وكذلك تصويب استغلالنا للتربة الزراعية، من خلال تقليل عمليات الحراثة، واستخدام الأسمدة الاصطناعية والمبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب».
وينادي الباحثون في الجامعة ذاتها بتضافر الجهود العالمية للحفاظ على الوضع الميكروبي الحالي في قطاعي الزراعة والطب، ودراسة أساليب تسريع تعافي النظم التالفة، كأن يتم تصميم تجمعات البكتيريا التي يغذي بعضها بعضاً لتخلق نظاماً مستداماً عند دمجها في جسم الإنسان. كما أن اختيار مجموعات محددة من الكائنات الحية الدقيقة بكميات مناسبة، أو ما تُعرف بالبروبيوتك، يمكن أن يساهم في تحسين مرونة ومقاومة وإنتاجية المحاصيل والثروة الحيوانية.
ولا تزال فكرة قبو الميكروبات قيد التطوير، إذ تتطلب فرق استكشاف من جميع أنحاء العالم، إلى جانب بناء القدرات الإقليمية، وتعزيز آلية البحث التعاوني المنهجي. وهي قبل كل ذلك تستوجب توافقاً لتنفيذها من قبل العلماء والمانحين والمنظمات غير الحكومية والسياسيين والمؤسسات المتعددة الجنسيات.
إن استعادة عينة ميكروبية مخزنة تحت الأرض بالقرب من القطب الشمالي لا يستدعي فقط فهم آلية عمل البيئة المجهرية، وإنما ضمان حد أدنى من المعارف عن الطبيعة الفيزيائية والبيولوجية للوسط الذي أخذت منه تلك العينة. وفي يوم من الأيام، ومع توفر المعارف والموارد الكافية، ستلعب الميكروبات المخزنة دوراً حاسماً في إعادة بناء وإنقاذ النظم الإيكولوجية المتضررة في أنحاء العالم.


مقالات ذات صلة

استمرار البحث عن ناجين وإحصاء القتلى في مايوت الفرنسية بعد الإعصار

أوروبا دمر الإعصار «تشيدو» أنحاءً شاسعة من مايوت بعد أن صاحبته رياح تجاوزت سرعتها 200 كيلومتر في الساعة (أ.ف.ب) play-circle 00:38

استمرار البحث عن ناجين وإحصاء القتلى في مايوت الفرنسية بعد الإعصار

بحث عمال الطوارئ عن ناجين، الاثنين، وسابقوا الزمن لاستعادة الخدمات الأساسية في مايوت، وهي من الأراضي الفرنسية ما وراء البحار، حيث يُخشى مقتل الآلاف.

«الشرق الأوسط» (موروني)
بيئة درجات الحرارة المرتفعة سجلت أرقاماً قياسية (أرشيفية - رويترز)

صعوبة في تفسير الارتفاع القياسي في درجات الحرارة العالمية

يُعدّ الاحترار الذي يواجهه العالم منذ عقود بسبب غازات الدفيئة المنبعثة من الأنشطة البشرية مسألة معروفة، لكنّ درجات الحرارة العالمية التي حطّمت الأرقام القياسية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الجهاز الجديد يتميز بقدرته على العمل ميدانياً مباشرة في المواقع الزراعية (جامعة ستانفورد)

جهاز مبتكر ينتِج من الهواء مكوناً أساسياً في الأسمدة

أعلن فريق بحثي مشترك من جامعتَي «ستانفورد» الأميركية، و«الملك فهد للبترول والمعادن» السعودية، عن ابتكار جهاز لإنتاج الأمونيا.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
بيئة جانب من الساحل الشمالي لجزيرة سردينيا الإيطالية (فيسبوك)

باحث بريطاني: «المناطق الزرقاء» المشهورة بعمر سكانها المديد مجرد خدعة

تشكل الفكرة القائلة إنّ «المناطق الزرقاء» المشهورة في العالم بطول عمر سكانها وارتفاع نسبة المعمرين فيها، مجرد خدعة تستند إلى بيانات غير صحيحة؟

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق معرض مستدام وصديق للبيئة من إنشائه إلى تصميمه ومكوّناته (تصوير: تركي العقيلي)

من التصميم إلى الإنشاء… ابتكارات مستدامة تُشكِّل معرضاً دولياً في السعودية

تبرز تقنية «الشجرة التفاعلية» وسط القاعة. فعندما يقترب الزائر تدبُّ الحياة في الشجرة ويُعرَض وجهٌ عليها لتبدأ بسرد قصتها ممثّلةً الأشجار المُعمِّرة في السعودية.

غازي الحارثي (الرياض)

ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية يُهدد خطط المناخ

ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية (أرشيفية - رويترز)
ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية (أرشيفية - رويترز)
TT

ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية يُهدد خطط المناخ

ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية (أرشيفية - رويترز)
ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية (أرشيفية - رويترز)

أظهرت أوراق بحثية أن الأراضي الرطبة الاستوائية حول العالم بات ينبعث منها كميات من غاز الميثان أكثر من أي وقت مضى، وهو ما يُثير القلق من أن أهداف المناخ العالمية أصبحت بعيدة المنال، وفق «رويترز».

وتحتوي الأراضي الرطبة على كميات هائلة من الكربون في صورة مواد نباتية ميتة، تتحلل ببطء من خلال الميكروبات الموجودة في التربة.

ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تسريع هذه العملية، ما يزيد من التفاعلات الحيوية التي ينتج عنها غاز الميثان. كما تؤدي الأمطار الغزيرة إلى حدوث فيضانات، ما يتسبب في زيادة رقعة الأراضي الرطبة.

وكان العلماء يتوقعون منذ فترة طويلة زيادة انبعاثات غاز الميثان من الأراضي الرطبة، مع ارتفاع درجات الحرارة، ولكن من عام 2020 إلى 2022 أظهرت عينات مأخوذة من الهواء وجود تركيزات أعلى من غاز الميثان في الغلاف الجوي.

وتشير 4 دراسات نُشرت في الأشهر القليلة الماضية إلى أن الأراضي الرطبة الاستوائية هي السبب الأكثر ترجيحاً في ارتفاع مستويات الميثان، إذ أسهمت المناطق الاستوائية في ارتفاع مستويات ذلك الغاز بأكثر من 7 ملايين طن خلال السنوات القليلة الماضية.

وقال روب جاكسون، أستاذ البيئة بجامعة ستانفورد، الذي يرأس المجموعة التي تنشر الميزانية العالمية للميثان: «تركيزات الميثان لا ترتفع فحسب، بل ارتفعت في السنوات الخمس الماضية أسرع من أي وقت مضى».

وأعلنت بعض الدول عن خطط طموح لخفض غاز الميثان. وقالت الصين العام الماضي إنها ستسعى جاهدة للحد من حرق الانبعاثات من آبار النفط والغاز.

ووضعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اللمسات الأخيرة على لائحة جديدة الأسبوع الماضي، سيلتزم بموجبها منتجو النفط والغاز في الولايات المتحدة بدفع رسوم على بعض انبعاثات الميثان، لكن من المرجح إلغاء هذه اللائحة في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترمب.

وقالت وزيرة البيئة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، إيف بازيبا لـ«رويترز»، على هامش قمة الأمم المتحدة المعنية بالمناخ (كوب 29)، إن بلادها تعمل على تقييم انبعاثات غاز الميثان من غابات المستنقعات والأراضي الرطبة في حوض الكونغو.

وجاء في تقرير ميزانية الميثان لعام 2024 أن الكونغو هي أكبر مصدر لانبعاثات الميثان في المناطق الاستوائية.