التعيينات في قيادة الاتحاد الأوروبي تعكس توازناً أفرزته الانتخابات الأخيرة

وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فان دير لين
وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فان دير لين
TT

التعيينات في قيادة الاتحاد الأوروبي تعكس توازناً أفرزته الانتخابات الأخيرة

وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فان دير لين
وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فان دير لين

في التاريخ الأوروبي القديم حضارتان أرستا الدعائم الفكرية التي قامت عليها المدارس السياسية التي سادت في أوروبا إلى اليوم. الحضارة الرومانية التي رفعت صرحها على منطق القوة وسخّرت له أدوات الحرب والفتح والقمع والتهديد بالدمار، والحضارة الإغريقية التي قامت على قوة المنطق واحتكمت إلى القانون والتوافق والمبادئ الإنسانية والقيم الديمقراطية.
والمعركة السياسية الطاحنة التي دارت رحاها في القمة الأوروبية الأخيرة لتوزيع المناصب العليا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، كانت أقرب ما تكون إلى هذا الصراع المتجدد بين المدرستين، الرومانية واليونانية، والذي كان في أساس الحروب والصراعات الدموية المتواصلة التي أثخنت الجسم الأوروبي طوال قرون حتى قيام مشروع الاتحاد في خمسينات القرن الماضي. كلٌّ من المعسكرين يدّعي الفوز في معركة التعيينات التي ما زالت تنتظر البتّ في البرلمان الأوروبي. المعسكر الروماني الذي يعتبر أنه أنقذ هذا الملفّ الشائك بالتوافق وحافظ على تماسك الأسرة في هذه المرحلة الدقيقة، والمعسكر الإغريقي الذي يفاخر بأنه أجبر الخصم على التراجع.
صحيح أن حزمة التعيينات تستوفي معظم شروط التوازن المطلوبة: بين الكتل السياسية التي أفرزتها الانتخابات الأوروبية الأخيرة، والأثرياء والفقراء، والكبار والصغار، والغرب والشرق الجديد، وحتى بين الأجناس. لكنها جاءت أدنى بكثير من الطموحات المعلنة، ودون مستوى التحدّيات الضخمة التي تواجه المشروع الأوروبي في ظلّ التحولات الدولية الأخيرة واهتزاز العلاقات الأوروبية - الأميركية على كل الصعد، والتفكّك الذي يعاني منه على الصعيد الداخلي مع صعود اليمين المتطرف والحركات الشعبوية.
المرشّحة لرئاسة المفوضية الأوروبية، وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فان دير لين، شخصية سياسية مغمورة حتى في بلادها، رصيدها الأكبر هو ولاؤها التام للمستشارة أنجيلا ميركل، وأكثر ما يلفت الانتباه في سيرتها الذاتية أنها أمّ لسبعة أولاد في بلد لا يتجاوز معدّل عدد الأبناء في أسره الاثنين... ناهيك من الاتهامات التي لم يبتّها القضاء الألماني بعد بانتحال أطروحتها لشهادة الدكتوراه. أما المرشّحة الفرنسية لرئاسة المصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد التي ترأس حاليا صندوق النقد الدولي، فهي مجازة في القانون وتدرّبت في علوم الاقتصاد بجهد ذاتي في السنوات الأخيرة، لكن سجلّ معارفها النقدية ضعيف جداً في رأي الخبراء ومن المرجّح أن تواجه صعوبة في كسب ودّ حكّام المصارف المركزية وتقديرهم.
البلجيكي شارل ميشيل الذي يرأس حكومة بلاده حاليا، لا تُعرف له مهارات تفاوضية مميزّة لتولّي رئاسة المجلس الأوروبي التي تقتضي قدرة عالية على تقريب وجهات النظر وتحقيق التوافق. أما الإيطالي ديفيدي ساسّولي الذي لا يتمتع بثقل سياسي يذكر في بلاده، فإن انتخابه أمس رئيساً للبرلمان الأوروبي بتأييد أقلّ من نصف أعضائه في الجولة الثانية، كان ثمرة الاستياء الواسع في صفوف معظم الكتل التي تحتجّ على تهميش البرلمان مرة أخرى لدى اختيار القيادات العليا في مؤسسات الاتحاد.
وحده الإسباني جوزيب بورّيل المرشّح لمنصب مفوض لشؤون العلاقات الخارجية، يبدو مؤهلاً بالكفاءات اللازمة. فهو إلى جانب تولّيه حالياً حقيبة الخارجية في حكومة سانتشيز، سبق له أن رأس البرلمان الأوروبي وتولّى حقائب وزارية عدة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟