في حديثه الأخير لجريدة «فايننشال تايمز»، على هامش قمة العشرين في مدينة أوساكا اليابانية، نشرته السبت الماضي، ارتدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خريج جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق «كي جي بي» (KGB)، عباءة المفكر، ليطلق حكمه على ظاهرة كبرى في تاريخ الإنسانية، وهي الليبرالية، بأنها بالية، ولم تعد تصلح لزمننا المعاصر. ولو استخدم مصطلح «الرأسمالية» لفهمنا، رغم أن روسيا لم تعد بلداً اشتراكياً. هل كان يتحدث فعلاً عن الليبرالية كآيديولوجية، كما قال، أم عن شيء آخر؟
لقد تطورت الليبرالية كفكر ابتداءً من القرن السادس عشر، ورسخت مبادئ إنسانية نزفت البشرية من أجل تحقيقها دماً كثيراً، ومن أول هذه المبادئ أن رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم، وأنه لا بد من عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حتى وصلنا إلى المفهوم الحالي لحقوق الإنسان، الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية في إعلان الأمم المتحدة، وحق اللجوء الإنساني والسياسي، وهو قيمة عليا تقدسها المجتمعات المتحضرة، رغم الاتجاهات العنصرية والشعبوية المتنامية، وغير ذلك من المبادئ الأساسية، التي يدرسها طلاب المراحل التعليمية الأولى في كل بلدان العالم، ربما باستثناء روسيا.
الرئيس الروسي يختصر قروناً من الفكر الليبرالي الإنساني في ثلاث كلمات، كما يذكر في المقابلة ذاتها:
الهجرة، والحدود المفتوحة، والتعددية الثقافية.
ومع ذلك، فإن هذه الظواهر الثلاث التي ينتقدها، ويعتبرها «قيماً بالية» هي، إلى جانب ظواهر إيجابية أخرى، التتويج الأسمى للفكر الليبرالي منذ عصر التنوير في القرن الثامن عشر وبعده، ولحد الآن.
ولكن الهجرة، ابنة القرن العشرين، لم تكن لتحصل لولا وجود الأنظمة القمعية الطاردة لأبنائها، سجناً وقتلاً ومنفى، ولم تكن السيدة أنجيلا ميركل، التي ينتقدها بوتين، لتفتح حدود بلادها لأكثر من مليون مهاجر سوري لولا طائرات روسيا وبراميل حليفها المتفجرة. إنه أعظم إنجاز قدمته ميركل، لأنها متشبعة بالمبادئ الليبرالية الحقيقية: الإنسان أخو للإنسان وملجأ له إذا ضاقت به السبل، أو تعرضت حياته للخطر، مهما كان عرقه ودينه ولونه.
والمغالطة الكبرى الأخرى هي مغالطة مزدوجة ألحقت الإهانة أولاً، وبكل اطمئنان، بالبلدان التي تتبنى «الفكرة الليبرالية»، حسب تعبيره، وثانياً بالمهاجرين أو المهجرين البائسين، الذين احتضنتهم هذه البلدان. يقول الرئيس الروسي بالنص: «الفكرة الليبرالية تسمح لهؤلاء المهاجرين أن يقتلوا، ويسرقوا، ويغتصبوا، وهم يتمتعون بالحصانة، لأن حقوقهم كلاجئين محمية».
كيف يمكن أن يستقيم هذا الكلام مع المنطق السليم؟ كيف يشرّع الفكر الليبرالي لهؤلاء المهاجرين القتل والسرقة والاغتصاب، ويمنحهم فوق ذلك الحصانة في بلدان لا حصانة فيها لأحد، من أعلى رأس في الدولة إلى أصغر مواطن؟
هنا، لا يستطيع العقل سوى أن يتوقف عن العمل.
القتل والسرقة والاغتصاب هناك، في تلك البلدان القمعية الطاردة التي فر منها اللاجئون بالملايين، ومنحتهم «الفكرة الليبرالية» الأمان والسلام والاطمئنان... والحياة.
إن مشكلة معظم السياسيين، خصوصاً أولئك الذين خرجوا من المعاطف العسكرية والأمنية، تكمن في شعورهم وإحساسهم الواعي وغير الواعي بالدونية تجاه المثقفين من هتلر، مروراً بصدام حسين ومعمر القذافي، وصولاً إلى فلاديمير بوتين، وكأن كل صولجانات السلطة، وسحرها العجيب، والأجهزة الرهيبة التي يحركونها، وكأنها لعب بين أياديهم، لا تكفي. إنهم بحاجة إلى هالة أخرى، هالة الفكر، حتى تتحقق الذات، ولو وهمياً.
وهذه الدونية المركبة تظهر بأشكال مختلفة، لا تقل خطراً عن بعضها البعض، من مسدس غوبلز الذي كان يتحسس مسدسه كلما سمع بكلمة ثقافة، إلى روايات صدام وقصص القذافي، في محاولتهما اليائسة للتخلص من العقدة المستحكمة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يشذ عن ذلك.
بوتين... مفكراً
بوتين... مفكراً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة