أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟

إشكالية قانونية وتعقيدات إنسانية تبحث عن حل

أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟
TT

أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟

أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟

هل باتت قضية عوائل الدواعش تمثل قنبلة موقوتة تكاد تنفجر في وجه الجميع، مهددة أمن وسلام واستقرار العالم عامة، والمجتمع الأوروبي على نحو خاص؟... يبدو أن السبب المباشر هو انتماء أعداد كبيرة منهم لدول أجنبية، وجلهم من أبناء القارة الأوروبية، وقد خلف المقاتلون الأجانب من «الدواعش» وراءهم في أراضي المعارك بسوريا والعراق عشرات الآلاف، ما بين نساء وأطفال، بعضهم فر آباؤهم وأزواجهم إلى الخارج، فيما البعض الآخر يقبع وراء جدران السجون، وبين هؤلاء وأولئك تبقى هناك حالة من القلق والترقب وربما الحيرة في التعاطي وتقرير المصير.

من الواضح جداً أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» هي من ألقت الأضواء، وأثارت ملف هؤلاء الأطفال القابعين في مخيمات أو مراكز احتجاز، وهم بحسب البيان الصادر عن المديرة التنفيذية لليونيسيف السيدة هنريتا فور في مايو (أيار) الماضي، من بين الأطفال الأشد ضعفاً في العالم، ويعيشون في ظروف فظيعة، وسط تهديدات مستمرة إزاء صحتهم وأمنهم ورفاههم، ولا يتوفر لهم إلا دعم أسري ضئيل، فالعديد منهم وحيدون تماماً برغم أن معظمهم قد تقطعت السبل بهم رفقة آبائهم أو مقدمي رعاية آخرين.
هل نحن أمام إشكالية قانونية تتعلق بجماعة إرهابية خلفت وراءها أطفالاً ينبغي أن يدفعوا ثمن جرائم الآباء، أم أننا إزاء معضلة إنسانية لأطفال أبرياء لا ذنب لهم، ولد معظمهم في مناطق النزاع التي سيطر عليها «الدواعش»، أو أنهم سافروا إلى المنطقة بصحبة والديهم، فيما البقية ومعظمهم أولاد ذكور، تم تجنيدهم قسراً، أو خدعوا فانضموا للجماعات المسلحة، أو أجبروا على الانضمام لهذه الجماعة كي يتمكنوا من النجاة، وهم جميعاً ضحايا لظروف مأساوية وانتهاكات جسيمة لحقوقهم، ويجب التعامل معهم والاعتناء بهم كأطفال؟
ووفقاً لدراسة نشرها مؤخراً المركز الدولي لدراسات التطرف في جامعة «كينجز كوليدج» في لندن، هناك على الأراضي السورية والعراقية، وجد نحو 41 ألف مواطن أجنبي من ثمانين دولة، هؤلاء تركوا وراءهم 4640 ولداً أقل عمراً من 17 عاماً، و760 طفلاً ولدوا ما بين سوريا والعراق، وتشكل النساء نسبة 13 في المائة من المنتسبين إلى «داعش»، ويشكل 4 في المائة فقط من العائدين إلى بلادهم اعتباراً من يونيو (حزيران) 2018. والشاهد أن هؤلاء الأطفال يواجهون رفضاً مضاعفاً، فغالباً ما يكونون موصومين من قبل مجتمعاتهم المحلية، كما تتخلى عنهم حكومات بلادهم الأصلية، وهم يواجهون تحديات قانونية ولوجيستية وسياسية هائلة في الحصول على الخدمات الأساسية أو العودة إلى بلدانهم الأصلية.
غير أن خطورة هذه المجموعات الصغيرة من أطفال «الدواعش» ما بين 12 و17 عاماً، هي خطورة مضاعفة على الأمن الدولي وأمن الإقليم على حد سواء، والمسألة لا تتعلق بالبراءة مرة وإلى الأبد... ما معني ذلك؟
وفي تقرير لها أوائل العام الجاري، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلى أن قادة «الدواعش» قد استخدموا هؤلاء الأطفال ليقوموا بدور «الكشاف»، أي فرق الاستطلاع في الجيوش الحديثة، معتمدين على أن أحداً لن يشك فيهم لصغر سنهم، ومن ثم الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، والتي عليها يتم التخطيط والقيام بالعمليات الإرهابية المطلوبة». ولم يكتف «الدواعش» بهذا فقط، لكنهم يستخدمون الأولاد الصغار والقصر بمثابة جواسيس في الداخل، وعيون في الخارج، وفي أحيانٍ أخرى طهاةَ لتجيز الطعام للكبار.
أما الكارثة الكبرى، فهي إعدادهم ليكونوا مقاتلين ومفجرين انتحاريين... والسؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام جيل من الأبرياء الذين غرر بهم، أم أننا في مواجهة مع قتلة وإرهابيي المستقبل، إن لم يتم التعامل معهم بالقدر اللازم من القانون والحكمة في ذات الوقت؟
الثابت وكما ظهر، من خلال أشرطة الفيديو الدعائية لـ«داعش»، أن أطفالاً صغاراً من «الدواعش»، قد قاموا بقطع رؤوس بعض الأسرى، وإطلاق النار على السجناء، كما أن بعضهم قد تلقى سنوات من حشو الرؤوس بالأفكار المتطرفة، وفي حالة الصبية الأكبر سناً يكونون قد تلقوا تدريبات عسكرية.
يصف بيتر نيومان مدير المركز الدولي لدراسة التطرف في جامعة «كينجز كوليدج»، في لندن وضع عوائل الدواعش والأطفال منهم على نحو خاص بالقول: «إنهم ضحايا الوضع لأنهم خالفوا إرادتهم، لكن هذا لا يعني أنهم في بعض الحالات يكونوا على الأقل مصدر خطر». والثابت أن قضية أطفال «الدواعش» غاية في التعقيد، ولا يوجد من لديه تصور كامل عن بدايات نشأتها وبالقدر نفسه لا يمتلك أحدهم تصوراً مستقبلياً شافياً وافياً عن مآل قضيتهم.
تقول بعض الروايات إن هؤلاء قد لحقوا بمعسكرات «الدواعش» في حالتين فقط، الأولى هي أن يكونوا قد هربوا مع أمهاتهم دون علم من الآباء، أو أن الآباء من المتطرفين قد اصطحبوهم عنوة معهم، ودون إبلاغ الأمهات، وربما كانوا من قليلي الحظ جداً، أي أبناء لعائلات إرهابية، رأى الأب والأم معاً أنه الوقت الملائم للذهاب إلى «الجهاد» كاسرة واحدة، ومن هنا وجدوا طريقهم إلى أرض المعركة.
هناك كذلك الذين جندوا بدورهم - أي الآباء والأمهات - عن طريق الأصدقاء خلال رحلاتهم إلى دول مجاورة مثل تركيا، أو من تم تجنيدهم داخل بلدانهم عن طريق الأصدقاء أيضاً أو من خلال عناصر التنظيم عبر الإنترنت، وبالتالي التحق معهم أبناء لصفوف التنظيم، أما الحالة الثانية فتتمثل في ولادة الأطفال داخل معسكرات التنظيم، وذلك بعد زواج السيدات الأوروبيات الملتحقات بصفوف «داعش» من مقاتليه.
ونحن بصدد هذه القصة المؤلمة تقابلنا عدة أسئلة... أولها هل تسمح الدول الأجنبية بعودة هؤلاء الأطفال إلى أراضيهم أو أراضي والديهم؟ أم أن الباب موصد أمامهم مرة وإلى الأبد؟
وإذا كان هذا هو الخيار؟ فهل يعني ذلك أن العالم وعما قريب جداً، سيجد ذاته في مواجهة جيل من منعدمي الولاء، ومنقطعي الصلة بأي قيم أو أخلاقيات إلا الإرهاب والعنف وسفك الدماء؟
أمر آخر، ذلك أنه إذا كان هناك من الدول من سيغلب الرحمة على العدل، فهل لدى مثل تلك الدول ما يكفي من البرامج اللازمة لإعادة تأهيل مثل هؤلاء، وحتى يعودوا أسوياء مرة أخرى، ويقدر لهم الاندماج في صفوف المجتمعات الأجنبية؟
يمكن القطع بأن ردات الفعل مختلفة من دولة إلى أخرى، كما أنه داخل الدولة الواحدة تتغير المواقف بحسب ضغوطات الرأي العام من جهة، وتوجهات المجتمع المدني من جهة ثانية.
على سبيل المثال لا الحصر، فإن فرنسا أعلنت أنها تريد إعادة قسم من نحو 150 طفلاً من أبناء «دواعش» فرنسيين تم الإبلاغ عن وجودهم في سوريا في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، الذين يبحثون عن حل لمسألة المقاتلين الأجانب الشائكة في ظل رفض الغربيين استعادتهم. وفي ألمانيا يتم مناقشة قضية استعادة أطفال الدواعش الألمان إلى ألمانيا وفق اعتبارات أمنية، لا سيما بعد أن حذر رئيس هيئة حماية الدستور (المخابرات الداخلية الألمانية) هانس غيورغ ماسن قائلاً: «نرى خطراً في عودة الأطفال الذين خالطوا الإرهابيين، وتلقوا تعاليم منهم من مناطق الحرب إلى ألمانيا».
وفي بلجيكا، أعلن وزير المال البلجيكي ألكسندر دي كرو، أن بلاده ستعيد ستة أيتام بلجيكيين من أبناء مقاتلين من المخيمات النازية التابعة للسلطات الكردية، واشترطت ألا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً.
وبالوصول إلى أستراليا نجد أن رئيس وزراءها سكوت موريسون ينجح في إخراج 8 أيتام من أولاد مقاتلين أستراليين في تنظيم «داعش» من مخيم الهول... هل هذه الأعداد الضئيلة تكفي لحل الإشكالية؟
بالقطع لا وهذا ما دعا منظمة «اليونيسيف» للحديث من جديد الأسبوع الماضي على لسان المفوضة الأممية السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليه، دول العالم على استعادة زوجات وأطفال مواطنيها من مقاتلي الدواعش قائلة: «يتعين إعادة أفراد الأسر الأجنبية، إلا إذا كانت ستتم محاكمتهم عن جرائم وفقاً للمعايير الدولية، وأشارت إلى أنه على الدول أن تتحمل مسؤولية مواطنيها الذين انخرطوا في الحرب السورية. تلفت السيدة باشيليه المفوضة الأممية إلى أن هؤلاء الأطفال قد عانوا على وجه الخصوص من انتهاكات جسيمة لحقوقهم، بما في ذلك أولئك الذين يتم تلقينهم أو تجنيدهم من قبل تنظيم «داعش» لتنفيذ أعمال عنف. كما ترى السيدة باشيلية أنه يجب فتح أولوية لإعادة تأهيلهم وحمايتهم ولمصالحهم، وحذرت أيضاً من سحب جنسيات من ذهبوا للقتال ضمن صفوف «داعش» في سوريا أو العراق، مشيرة إلى أن ترك أشخاص من دون جنسية ليس خياراً مقبولاً أبداً، ومضيفة أن الأطفال هم أكثر من يعانون من جراء مثل هذه التدابير لأنها تتسبب في مشاكل لهم في الالتحاق بالمدارس والحصول على رعاية صحية. ويبقى السؤال: «هل من سيناريو لدى اليونيسيف» من أجل هؤلاء الأطفال ومستقبلهم وحل إشكالياتهم؟
ترى «اليونيسيف» أنه ينبغي تزويد الأطفال من مواطني الدول الأعضاء أو من المولودين لمواطني تلك الدول بتوثيق مدني بالإضافة إلى حماية هؤلاء الأطفال من حالة انعدام الجنسية أو من تحولهم إلى أشخاص عديمي الجنسية».
كما تذهب المنظمة الأممية المنوط بها حماية أطفال العالم إلى دعم عودة هؤلاء الأطفال عودة آمنة كريمة وطوعية إلى بلدانهم الأصلية، وإعادة إدماجهم فيها، وفيما يخص الأطفال المحتجزين، يجب ضمان أن احتجازهم هو إجراء مطبق كملاذ أخير ولأقصر مدة ممكنة.
أما بالنسبة للأطفال الذين دخلوا سن المسؤولية الجنائية والمتهمين بارتكاب أعمال إجرامية، فلا بد من التأكد من تطبيق المعايير المعترف بها دولياً للمحاكمات العادلة، وقضاء الأحداث كما يجب التعامل مع هؤلاء الأطفال بوصفهم ضحايا أساساً، وليسوا مرتكبي انتهاكات، ويجب أخذ مصلحة كل طفل بعين الاعتبار عند اتخاذ أي قرار بشأنهم، بما في ذلك إعادتهم إلى أوطانهم، وأن يمتثل القرار للمعايير القانونية الدولية. ويبقى السؤال: «هل يبقى الحل إنسانيا أم أمنياً؟ وهل أجهزة الأمن والاستخبارات حول العالم تتفق شكلاً وموضوعاً، مع توصيات «اليونيسيف» أم لا تزال هناك اعتراضات جوهرية تعيق الحل؟
يبقى السؤال مطروحاً والبحث عن الجواب جارياً.


مقالات ذات صلة

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

أفريقيا عناصر من الجيش السوداني خلال عرض عسكري (أرشيفية - أ.ف.ب)

5 نزاعات منسية خلال عام 2024

إلى جانب الحربين اللتين تصدَّرتا عناوين الأخبار خلال عام 2024، في الشرق الأوسط وأوكرانيا، تستمر نزاعات لا تحظى بالقدر نفسه من التغطية الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».