أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟

إشكالية قانونية وتعقيدات إنسانية تبحث عن حل

أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟
TT

أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟

أطفال {الدواعش} وأسرهم... قنبلة موقوتة؟

هل باتت قضية عوائل الدواعش تمثل قنبلة موقوتة تكاد تنفجر في وجه الجميع، مهددة أمن وسلام واستقرار العالم عامة، والمجتمع الأوروبي على نحو خاص؟... يبدو أن السبب المباشر هو انتماء أعداد كبيرة منهم لدول أجنبية، وجلهم من أبناء القارة الأوروبية، وقد خلف المقاتلون الأجانب من «الدواعش» وراءهم في أراضي المعارك بسوريا والعراق عشرات الآلاف، ما بين نساء وأطفال، بعضهم فر آباؤهم وأزواجهم إلى الخارج، فيما البعض الآخر يقبع وراء جدران السجون، وبين هؤلاء وأولئك تبقى هناك حالة من القلق والترقب وربما الحيرة في التعاطي وتقرير المصير.

من الواضح جداً أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» هي من ألقت الأضواء، وأثارت ملف هؤلاء الأطفال القابعين في مخيمات أو مراكز احتجاز، وهم بحسب البيان الصادر عن المديرة التنفيذية لليونيسيف السيدة هنريتا فور في مايو (أيار) الماضي، من بين الأطفال الأشد ضعفاً في العالم، ويعيشون في ظروف فظيعة، وسط تهديدات مستمرة إزاء صحتهم وأمنهم ورفاههم، ولا يتوفر لهم إلا دعم أسري ضئيل، فالعديد منهم وحيدون تماماً برغم أن معظمهم قد تقطعت السبل بهم رفقة آبائهم أو مقدمي رعاية آخرين.
هل نحن أمام إشكالية قانونية تتعلق بجماعة إرهابية خلفت وراءها أطفالاً ينبغي أن يدفعوا ثمن جرائم الآباء، أم أننا إزاء معضلة إنسانية لأطفال أبرياء لا ذنب لهم، ولد معظمهم في مناطق النزاع التي سيطر عليها «الدواعش»، أو أنهم سافروا إلى المنطقة بصحبة والديهم، فيما البقية ومعظمهم أولاد ذكور، تم تجنيدهم قسراً، أو خدعوا فانضموا للجماعات المسلحة، أو أجبروا على الانضمام لهذه الجماعة كي يتمكنوا من النجاة، وهم جميعاً ضحايا لظروف مأساوية وانتهاكات جسيمة لحقوقهم، ويجب التعامل معهم والاعتناء بهم كأطفال؟
ووفقاً لدراسة نشرها مؤخراً المركز الدولي لدراسات التطرف في جامعة «كينجز كوليدج» في لندن، هناك على الأراضي السورية والعراقية، وجد نحو 41 ألف مواطن أجنبي من ثمانين دولة، هؤلاء تركوا وراءهم 4640 ولداً أقل عمراً من 17 عاماً، و760 طفلاً ولدوا ما بين سوريا والعراق، وتشكل النساء نسبة 13 في المائة من المنتسبين إلى «داعش»، ويشكل 4 في المائة فقط من العائدين إلى بلادهم اعتباراً من يونيو (حزيران) 2018. والشاهد أن هؤلاء الأطفال يواجهون رفضاً مضاعفاً، فغالباً ما يكونون موصومين من قبل مجتمعاتهم المحلية، كما تتخلى عنهم حكومات بلادهم الأصلية، وهم يواجهون تحديات قانونية ولوجيستية وسياسية هائلة في الحصول على الخدمات الأساسية أو العودة إلى بلدانهم الأصلية.
غير أن خطورة هذه المجموعات الصغيرة من أطفال «الدواعش» ما بين 12 و17 عاماً، هي خطورة مضاعفة على الأمن الدولي وأمن الإقليم على حد سواء، والمسألة لا تتعلق بالبراءة مرة وإلى الأبد... ما معني ذلك؟
وفي تقرير لها أوائل العام الجاري، أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلى أن قادة «الدواعش» قد استخدموا هؤلاء الأطفال ليقوموا بدور «الكشاف»، أي فرق الاستطلاع في الجيوش الحديثة، معتمدين على أن أحداً لن يشك فيهم لصغر سنهم، ومن ثم الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، والتي عليها يتم التخطيط والقيام بالعمليات الإرهابية المطلوبة». ولم يكتف «الدواعش» بهذا فقط، لكنهم يستخدمون الأولاد الصغار والقصر بمثابة جواسيس في الداخل، وعيون في الخارج، وفي أحيانٍ أخرى طهاةَ لتجيز الطعام للكبار.
أما الكارثة الكبرى، فهي إعدادهم ليكونوا مقاتلين ومفجرين انتحاريين... والسؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن أمام جيل من الأبرياء الذين غرر بهم، أم أننا في مواجهة مع قتلة وإرهابيي المستقبل، إن لم يتم التعامل معهم بالقدر اللازم من القانون والحكمة في ذات الوقت؟
الثابت وكما ظهر، من خلال أشرطة الفيديو الدعائية لـ«داعش»، أن أطفالاً صغاراً من «الدواعش»، قد قاموا بقطع رؤوس بعض الأسرى، وإطلاق النار على السجناء، كما أن بعضهم قد تلقى سنوات من حشو الرؤوس بالأفكار المتطرفة، وفي حالة الصبية الأكبر سناً يكونون قد تلقوا تدريبات عسكرية.
يصف بيتر نيومان مدير المركز الدولي لدراسة التطرف في جامعة «كينجز كوليدج»، في لندن وضع عوائل الدواعش والأطفال منهم على نحو خاص بالقول: «إنهم ضحايا الوضع لأنهم خالفوا إرادتهم، لكن هذا لا يعني أنهم في بعض الحالات يكونوا على الأقل مصدر خطر». والثابت أن قضية أطفال «الدواعش» غاية في التعقيد، ولا يوجد من لديه تصور كامل عن بدايات نشأتها وبالقدر نفسه لا يمتلك أحدهم تصوراً مستقبلياً شافياً وافياً عن مآل قضيتهم.
تقول بعض الروايات إن هؤلاء قد لحقوا بمعسكرات «الدواعش» في حالتين فقط، الأولى هي أن يكونوا قد هربوا مع أمهاتهم دون علم من الآباء، أو أن الآباء من المتطرفين قد اصطحبوهم عنوة معهم، ودون إبلاغ الأمهات، وربما كانوا من قليلي الحظ جداً، أي أبناء لعائلات إرهابية، رأى الأب والأم معاً أنه الوقت الملائم للذهاب إلى «الجهاد» كاسرة واحدة، ومن هنا وجدوا طريقهم إلى أرض المعركة.
هناك كذلك الذين جندوا بدورهم - أي الآباء والأمهات - عن طريق الأصدقاء خلال رحلاتهم إلى دول مجاورة مثل تركيا، أو من تم تجنيدهم داخل بلدانهم عن طريق الأصدقاء أيضاً أو من خلال عناصر التنظيم عبر الإنترنت، وبالتالي التحق معهم أبناء لصفوف التنظيم، أما الحالة الثانية فتتمثل في ولادة الأطفال داخل معسكرات التنظيم، وذلك بعد زواج السيدات الأوروبيات الملتحقات بصفوف «داعش» من مقاتليه.
ونحن بصدد هذه القصة المؤلمة تقابلنا عدة أسئلة... أولها هل تسمح الدول الأجنبية بعودة هؤلاء الأطفال إلى أراضيهم أو أراضي والديهم؟ أم أن الباب موصد أمامهم مرة وإلى الأبد؟
وإذا كان هذا هو الخيار؟ فهل يعني ذلك أن العالم وعما قريب جداً، سيجد ذاته في مواجهة جيل من منعدمي الولاء، ومنقطعي الصلة بأي قيم أو أخلاقيات إلا الإرهاب والعنف وسفك الدماء؟
أمر آخر، ذلك أنه إذا كان هناك من الدول من سيغلب الرحمة على العدل، فهل لدى مثل تلك الدول ما يكفي من البرامج اللازمة لإعادة تأهيل مثل هؤلاء، وحتى يعودوا أسوياء مرة أخرى، ويقدر لهم الاندماج في صفوف المجتمعات الأجنبية؟
يمكن القطع بأن ردات الفعل مختلفة من دولة إلى أخرى، كما أنه داخل الدولة الواحدة تتغير المواقف بحسب ضغوطات الرأي العام من جهة، وتوجهات المجتمع المدني من جهة ثانية.
على سبيل المثال لا الحصر، فإن فرنسا أعلنت أنها تريد إعادة قسم من نحو 150 طفلاً من أبناء «دواعش» فرنسيين تم الإبلاغ عن وجودهم في سوريا في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، الذين يبحثون عن حل لمسألة المقاتلين الأجانب الشائكة في ظل رفض الغربيين استعادتهم. وفي ألمانيا يتم مناقشة قضية استعادة أطفال الدواعش الألمان إلى ألمانيا وفق اعتبارات أمنية، لا سيما بعد أن حذر رئيس هيئة حماية الدستور (المخابرات الداخلية الألمانية) هانس غيورغ ماسن قائلاً: «نرى خطراً في عودة الأطفال الذين خالطوا الإرهابيين، وتلقوا تعاليم منهم من مناطق الحرب إلى ألمانيا».
وفي بلجيكا، أعلن وزير المال البلجيكي ألكسندر دي كرو، أن بلاده ستعيد ستة أيتام بلجيكيين من أبناء مقاتلين من المخيمات النازية التابعة للسلطات الكردية، واشترطت ألا تتجاوز أعمارهم 12 عاماً.
وبالوصول إلى أستراليا نجد أن رئيس وزراءها سكوت موريسون ينجح في إخراج 8 أيتام من أولاد مقاتلين أستراليين في تنظيم «داعش» من مخيم الهول... هل هذه الأعداد الضئيلة تكفي لحل الإشكالية؟
بالقطع لا وهذا ما دعا منظمة «اليونيسيف» للحديث من جديد الأسبوع الماضي على لسان المفوضة الأممية السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشيليه، دول العالم على استعادة زوجات وأطفال مواطنيها من مقاتلي الدواعش قائلة: «يتعين إعادة أفراد الأسر الأجنبية، إلا إذا كانت ستتم محاكمتهم عن جرائم وفقاً للمعايير الدولية، وأشارت إلى أنه على الدول أن تتحمل مسؤولية مواطنيها الذين انخرطوا في الحرب السورية. تلفت السيدة باشيليه المفوضة الأممية إلى أن هؤلاء الأطفال قد عانوا على وجه الخصوص من انتهاكات جسيمة لحقوقهم، بما في ذلك أولئك الذين يتم تلقينهم أو تجنيدهم من قبل تنظيم «داعش» لتنفيذ أعمال عنف. كما ترى السيدة باشيلية أنه يجب فتح أولوية لإعادة تأهيلهم وحمايتهم ولمصالحهم، وحذرت أيضاً من سحب جنسيات من ذهبوا للقتال ضمن صفوف «داعش» في سوريا أو العراق، مشيرة إلى أن ترك أشخاص من دون جنسية ليس خياراً مقبولاً أبداً، ومضيفة أن الأطفال هم أكثر من يعانون من جراء مثل هذه التدابير لأنها تتسبب في مشاكل لهم في الالتحاق بالمدارس والحصول على رعاية صحية. ويبقى السؤال: «هل من سيناريو لدى اليونيسيف» من أجل هؤلاء الأطفال ومستقبلهم وحل إشكالياتهم؟
ترى «اليونيسيف» أنه ينبغي تزويد الأطفال من مواطني الدول الأعضاء أو من المولودين لمواطني تلك الدول بتوثيق مدني بالإضافة إلى حماية هؤلاء الأطفال من حالة انعدام الجنسية أو من تحولهم إلى أشخاص عديمي الجنسية».
كما تذهب المنظمة الأممية المنوط بها حماية أطفال العالم إلى دعم عودة هؤلاء الأطفال عودة آمنة كريمة وطوعية إلى بلدانهم الأصلية، وإعادة إدماجهم فيها، وفيما يخص الأطفال المحتجزين، يجب ضمان أن احتجازهم هو إجراء مطبق كملاذ أخير ولأقصر مدة ممكنة.
أما بالنسبة للأطفال الذين دخلوا سن المسؤولية الجنائية والمتهمين بارتكاب أعمال إجرامية، فلا بد من التأكد من تطبيق المعايير المعترف بها دولياً للمحاكمات العادلة، وقضاء الأحداث كما يجب التعامل مع هؤلاء الأطفال بوصفهم ضحايا أساساً، وليسوا مرتكبي انتهاكات، ويجب أخذ مصلحة كل طفل بعين الاعتبار عند اتخاذ أي قرار بشأنهم، بما في ذلك إعادتهم إلى أوطانهم، وأن يمتثل القرار للمعايير القانونية الدولية. ويبقى السؤال: «هل يبقى الحل إنسانيا أم أمنياً؟ وهل أجهزة الأمن والاستخبارات حول العالم تتفق شكلاً وموضوعاً، مع توصيات «اليونيسيف» أم لا تزال هناك اعتراضات جوهرية تعيق الحل؟
يبقى السؤال مطروحاً والبحث عن الجواب جارياً.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.