استطاع تنظيم «داعش» الإرهابي بالساحل الأفريقي توسيع عملياته في النصف الأول من سنة 2019، لتشمل 7 دول بالساحل، وصولاً إلى بحيرة تشاد. ويأتي هذا التمدد العنيف رغم الجهود الدولية والإقليمية التي تقودها فرنسا، والتي تضم 20 دولة، بالإضافة لنشاط القوات الخاصة الأميركية بالنيجر، وبعثة الأمم المتحدة المكونة من 15 ألف جندي.
وفي إطار المواجهة المفتوحة مع المجموعات الإرهابية، تسارع دول الساحل من خطواتها وجهودها الكبيرة لتطوير تنسيقها الأمني، والتعاون مع نظيراتها بغرب أفريقيا. وفي هذا السياق، استطاعت قوات عسكرية مشتركة من دول بغرب أفريقيا شن هجوم لها يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي، قتل فيه 42 من مقاتلي «داعش» في منطقة بحيرة تشاد، مما يشكل ضربة قوية للتنظيم الذي ينشط بشكل مطرد في نيجيريا وتشاد والنيجر والكاميرون وبوركينا فاسو.
وتأتي هذه العملية في الوقت الذي نشر فيه فرع «داعش» بالساحل والصحراء بمجلته (النبأ)، بتاريخ 20 يونيو (حزيران) الماضي ما اعتبره هجمات كثيرة بمنطقة الساحل الأفريقي، منها إسقاط مروحية تابعة لقوات فرنسية على الحدود بين مالي والنيجر، ومقتل عدد من أفراد جيش مالي ومرافقيهم الأجانب، كما أشار التنظيم إلى أنه قتل جنديين أميركيين، ودمر آلية تابعة لقواتهما في دولة النيجر. أما في مالي، فقد ذكرت «النبأ» أن «داعش» قتل أحد قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
ومن جهته، أعلن الجيش الفرنسي أن 3 من جنوده أصيبوا في شمال شرقي مَالي يوم الجمعة منتصف الشهر الماضي، خلال الهبوط الاضطراري لطائرتهم الهليكوبتر في أثناء عملية هجومية مع الجيش المالي على معقل للجماعات الإرهابية بالمنطقة. وقد أسفرت هذه العملية التي استمرت يومي 13 و14 يونيو (حزيران) عن مقتل 20 من الإرهابيين.
ويبدو أن المواجهة المريرة مع التنظيمات الإرهابية المتنوعة، بمنطقة الساحل وبحيرة تشاد، تأخذ منعطفاً جديداً، يتمثل في قدرة «داعش» وتنظيمات أخرى على الوصول لمناطق ظلت محتكرة من طرف جماعة «بوكو حرام».
ويظهر هذا التوسع والتمدد الجغرافي أن التنظيمات المتطرفة بالساحل والصحراء تتمتع بدينامية، وقدرة على الاستقطاب، في مجتمعات محلية مثخنة بالصراعات الإثنية والقبلية. كما أن المساحات والعنصر البشري يعبر من جهة عن قدرة «داعشية» فائقة على التكيف مع الوضع الجديد الذي استحدثه التحالف الدولي منذ 2015 بالمنطقة. ومن جهة ثانية، يظهر التوسع أن أنصار البغدادي بالساحل استفادوا من حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة الممتدة من ليبيا شمالاً إلى الصومال شرقاً، مروراً بالسودان.
ربما هذا ما يفسر تزايد هجمات المجموعات المتطرفة في دول الساحل، خصوصاً بمالي والنيجر وبوركينا فسو، فقد أصبحت الهجمات شبه يومية في جغرافية واسعة جداً، مما أظهر محدودية الجهود الدولية الهادفة إلى القضاء على الإرهاب التي تقودها الأمم المتحدة والقوات الفرنسية في المنطقة.
فقد شهدت المنطقة هجمات متكررة راح ضحيتها عشرات الأشخاص من المدنيين، آخرها هجوم نفذته مجموعة إرهابية ضد مدنيين في قريتي ساغو وتويكودوغو، شمال بوركينا فاسو، يوم 22 يونيو (حزيران) الماضي، أسفرت عن مقتل نحو 15 شخصاً.
أسلوب المواجهة
وتأتي هذه الموجة القاسية من الهجمات الإرهابية لتطرح تساؤلات كثيرة على سياسة مواجهة الإرهاب بالساحل. فرغم أن هذه الجهود تمكنت في شهر مايو 2019 من إطلاق سراح الرهائن المختطفين في بوركينا فاسو (فرنسيان وأميركي وكوري جنوبي)، فمن المؤكد أن تصاعد وتيرة أنشطة الجماعات الإرهابية أصبح حقيقة واقعية متزايدة الخطورة، ولم تنجح حتى الآن جهود قوات «برخان»، ولا جيوش منطقة الساحل السبعة، في هزيمة الإرهاب أو إضعافه في المنطقة، بل على العكس من ذلك، فإن تكرار اختطاف الرهائن والهجمات شبه اليومية، وما يصاحبه من استقطاب حاد لشباب القبائل من طرف الجماعات الإرهابية، كل ذلك يؤكد أن هذه التنظيمات المتطرفة متجذرة بشكل جيد في النسيج الاجتماعي، وقادرة على تنفيذ هجماتها في كل بلدان منطقة الساحل الأفريقي. ففي مايو 2019، قتل 28 من جنود النيجر، في مواجهة مع مجموعة إرهابية تابعة لتنظيم «القاعدة»، بل إن العمليات الإرهابية واصلت توسعها وصولاً إلى خليج غينيا. لقد كان من المفترض أيضاً أن يكون «جيش الساحل لمحاربة الإرهاب» جاهزاً لهذه المهمة.
ورغم الدعم المالي الكبير، وفتح فرنسا لمعسكرات للتدريب في كل من مالي وبوركينا فاسو سنة 2018، فإن دول الساحل (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد) ما زالت غير قادرة على تسلم مهام قوات «برخان»، في قيادة الحرب على الإرهاب التي أعلن أنها مؤقتة وتهدف لتأهيل جيوش مجموعة «جي 5».
كما أن هذه الصعوبات تنعكس على الدور المفترض الذي يجب أن يقوم به مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي، والآليات الأمنية التي تضم 11 دولة أفريقية في تحالف ضد الإرهاب، يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج غينيا، وصولاً إلى غرب أفريقيا.
ومن جانب آخر، تواجه الدول الخمس للساحل والمساعي الدولية صعوبات تتعلق بطبيعة الجغرافية السياسية والبشرية للمنطقة الممتدة من خليج غينيا إلى الساحل والصحراء، ذلك أن التعقيدات الإثنية وانقساماتها القبلية الواسعة تنعكس على الوضع السياسي والأمني، وتصبح أكثر عمقاً وعنفاً، كلما سيطرت إثنية معينة على السلطة، وفشلت في تحقيق العدالة المجالية وإشراك الإثنيات الأخرى في السلطة. ومن الناحية التاريخية، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن منطقة الساحل هي منطقة مترابطة ومتداخلة سكانياً وسياسياً وجغرافياً، وبالتالي يجب وضع سياسة مندمجة وفعالة تعي عمق الترابط الأمني القائم تاريخياً بالمنطقة. إن هذا التشابك والترابط التاريخي هو واحد من العوامل الأساسية المفسرة للتقدم المقلق والسريع للجماعات الإرهابية، مثل جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» التي تكونت في مارس (آذار) 2017، بقيادة إياد أغ غالي، أو تنظيم «داعش» الذي استطاع في زمن قياسي الوصول لدولة توغو وكوت ديفوار وبنين، وإعلان هذا التنظيم الإرهابي عن مسؤوليته عن عملية إرهابية بداية الأسبوع الأخير من يونيو (حزيران) 2019. ومن جهة أخرى، تعاني منطقة الساحل والصحراء من ثقل وانعكاسات الصراع المسلح بليبيا، والاضطرابات السياسية بالسودان، ويبدو أن القيادات السياسية لدول الساحل واعية بخطورة عدم استقرار محيطها الإقليمي، خصوصاً في الشمال والجنوب، وهذا ما دفع قادة دول الساحل الخمس، في الاجتماع الطارئ الذي عقد مؤخراً بتشاد، إلى إصدار بيان ختامي للقمة يوم 13 أبريل (نيسان) 2019 يؤكد ضرورة إيجاد حل سلمي وسريع للملفين الليبي والسوداني.
معركة استراتيجية
ونظراً لجسامة المهمة، وما تواجهه من صعوبات، فإن دول الساحل والمجموعة الدولية تقتسمان الإيمان بضرورة استمرار التعاون والتحالف لهزيمة المجموعات الإرهابية. ورغم أن أهداف القوى الكبرى تخلط بين مواجهة الإرهاب وتثبيت مصالحها الاستراتيجية بمنطقة الساحل الغنية بالنفط واليورانيوم والذهب وغيرها من الموارد المهمة، فإن خطورة الجماعات الإرهابية على الدول الهشة بالمنطقة دفعتها لفتح أراضيها منذ سنوات أمام القواعد العسكرية الفرنسية والأميركية والصينية، وإن كانت هذه القواعد تتمركز أساساً في مالي والنيجر وكوت ديفوار وبوركينا فاسو وتشاد.
ويبدو أن هذا الانتشار الكبير للقواعد العسكرية لا يشكل تحدياً جدياً ضد المجموعات الإرهابية، حيث تشير الدراسات البحثية في هذا المجال إلى أن تزايد القواعد العسكرية بالمنطقة لا يعني بالضرورة تراجع النشاط الإرهابي، ولا إضعاف المجموعات المسلحة المتطرفة. وفي الوقت نفسه، يثير الوجود العسكري الأجنبي صراعات استراتيجية بين بعض الدول، خصوصاً فرنسا وأميركا وروسيا. رغم أن الوجود الروسي بالساحل ضعيف، ويركز على موزمبيق وناميبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حتى أنه يمكن القول فعلاً إن تنامي الإرهاب بدول الساحل فتح حرب نفوذ شرسة بين القوى الغربية، وكذلك القوى الناشئة، مثل الهند والبرازيل والصين.
ومن الناحية التاريخية، يمكن اعتبار تنامي الجماعات الإرهابية بالساحل والصحراء الأفريقية ظاهرة معاصرة، بدأت بأحداث العشرية السوداء بالجزائر، بدايات تسعينات القرن الـ20، لتشهد تطوراً لافتاً بعد إعادة انتشار المقاتلين الأفغان بشمال أفريقيا والساحل. أما المرحلة الثالثة التي نعيشها، فتستمد جذورها من غزو أميركا للعراق سنة 2003. ومن سوء حظ منطقة الساحل أن موجة التطرف العالمي التي كانت «القاعدة» تقودها سرعان ما أنتجت بعد «الحراك العربي» لسنة 2011 موجة جديدة وحشية من الإرهاب، وصل بعض قادتها لدول الساحل، أو تدرب قادة التنظيمات المحلية بالعراق وسوريا على يد تنظيم أبي بكر البغدادي. ومما يعقد من أزمة الساحل أن دوله هشة وغير قادرة على حماية حدودها، ولا تملك قوة عسكرية ولا أمنية محترفة، ولا مؤسسات دولة تسودها الحوكمة، كما أن موقع المنطقة الجيوستراتيجي، وتوفر المنطقة على موارد مهمة، يجعل منها منطقة صراع للقوى الدولية من جهة، ومحط صراع بين الدولة والجماعات الإرهابية من جهة ثانية، دون أن يعني ذلك حيادية الصراع الإثني الذي تستعمله الجماعات الإرهابية لبسط نفوذها في المنطقة.
ويرى بعض الخبراء والمتخصصين في منطقة الساحل أن المعركة مع الجماعات الإرهابية يجب أن تنتقل إلى إنتاج استراتيجية محلية من دول المنطقة، وليس الانجرار وراء سياسة تقودها القوى الأجنبية. وفي الوقت نفسه، إعطاء البلدان الأفريقية بشكل عام وسائل دعم دولي حقيقي لمكافحة الإرهاب؛ ذلك أن الحرب على الإرهاب تشتبك بالمصالح الاقتصادية الهائلة التي تتوفر عليها القارة الأفريقية. مما يحول معركة محاربة الإرهاب إلى معركة سياسية استراتيجية، تتضارب فيها مصالح دول الساحل التي تعتبر أضعف حلقات القارة السمراء مع مصالح القوى العالمية التي تنظر للجماعات المتطرفة باعتبارها تهديداً لمصالحها الاستراتيجية والقومية.
وعلى كل، فإن تنامي المجموعات الإرهابية على الساحل أغرى القوى الأجنبية بزيادة وجودها العسكري بالمنطقة. وهذا التوجه دفع بعض الدراسات والأبحاث في الشأن الأمني الأفريقي إلى انتقاد الاستراتيجية العسكرية والأمنية المتبعة حالياً، وطرح ضرورة إجراء تعديلات جذرية على الاستراتيجية الدولية، حتى لا تتهم بأنها مدخل للسيطرة على كامل منطقة الساحل، من البحر الأحمر إلى ساحل المحيط الأطلسي، دون أن تسفر هذه السيطرة عن دحر قريب تام للمجموعات الإرهابية المتعددة بالمنطقة.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس