«الاغتيال»... دعوة لتنظيف البيت العربستاني

تندرج رواية «الاغتيال» لمحمد عامر، الصادرة عن مؤسسة «أروقة» في القاهرة، ضمن أدب المقاومة الأحوازية، ولو شئنا الدقة لقلنا إنها رواية واقعية تستمد مادتها من أحداث حقيقية وقعت بالفعل على أرض الواقع، وإنّ بعض الأسماء ليس وهمياً، مثل الشيخ كاظم آل علي، المُحرّض على عملية الاغتيال، وفايز، العقل المدبّر الذي ساهم في عملية القتل... ووهاب أبو شجاع وهو المناضل وهاب خانجي الذي نظم زباري في «جبهة تحرير عربستان» ليصبح عضواً بارزاً ومؤثراً فيها.
أمّا بقية الأسماء؛ فهي وهمية صنعتها مخيّلة الروائي تفادياً لعمليات الثأر التي يمكن أن تمزّق النسيج الاجتماعي للأسَر والقبائل العربستانية.
تكمن أهمية هذه الرواية الواقعية في الإجابة عن السؤال المحوري الذي ورد في العنوان قبل أن يرد في التيمة الرئيسة؛ وهو: مَن قتل زباري؟ الشاب الذي سينخرط في «جبهة تحرير عربستان» ويسعى بكل السُبل المتاحة لتحريرها من الاحتلال الإيراني.
ورغم أنّ الحكومات الإيرانية المتعاقبة منذ أيام رضا خان حتى الآن كانت العدوّ الأول لعربستان، فإن تيمة هذه الرواية تؤكد أنّ الخونة والعملاء ومخالب المحتلين هم أكثر خطراً من الاحتلال نفسه، وإنه بغية تحرير البلد من ربقة المحتل ينبغي تنظيف البيت العربستاني والتخلّص من كل المتواطئين الذين يتعاملون مع الأجهزة الأمنية الإيرانية، وعلى رأسهم الشيخ كاظم؛ وغيرهم من المرتزقة والمأجورين.
تقع الأحداث في قرى عربستانية وعراقية عدة؛ من بينها قرية نهر يوسف، وفي جزيرتي الحاج صلبوخ، والبوارين، كما تتوسع دائرة الأحداث لتشمل البصرة، والمحمّرة، وعبادان. وبما أنّ الرواية لا تخلو من اللمسة التاريخية، فلا غرابة في أن نصادف بعض الإحالات إلى الصفويين والإنجليز والانتفاضات التي أعقبت وفاة الشيخ خزعل الكعبي عام 1936 في مقر إقامته الجبرية في طهران، وظلت تندلع بين آونة وأخرى حتى يومنا هذا.
يمكن اختصار تيمة الرواية بأن تنظيم «جبهة تحرير عربستان» يُكلّف زباري المحمراوي باغتيال الشيخ كاظم، لكن شاءت الظروف أن تنقلب الخطة رأساً على عقب، فبدلاً من أن ينفّذ منصور عملية اغتيال الشيخ يتحول هو وأبناء عمومته (صمد وفايز وحسين) إلى قتلة يتناوبون إطلاق الرصاص على الضحية زباري ويردونه قتيلاً أمام عيني ولده الأكبر نعيم الذي كان يصرخ بأعلى صوته: «لا تمت يا أبي... لا تمت».
تتساوى في رواية محمد عامر الشخصيات والأحداث ويشتبك بعضها مع بعض إلى درجة التماهي بحيث يصعب التمييز بين الشخصية والحدث، وهذا الأمر ينطبق على الشخصيات المُقاوِمة مثل زباري، وعزيز، ووهاب، ومحيي الدين آل ناصر، وزوجته ملوك، وعلي الشيخ حميدان... وسواهم كثير، وشخصيات الاحتلال وأزلامهم مثل العقيد رضا نوروزي، والشيخ كاظم، وعبادي، وطهران الكعبي، وفايز، وصمد، وحسين، الذين سيتجرعون كأس الخيانة، ولم ينجُ منهم سوى منصور الذي كان يُطلق النار على الأرض بعيداً عن رأس الضحية المغدور زباري المحمراوي.
تحتاج الرواية إلى أنساق متعددة تؤثث المتن السردي الذي يتآزر مع الحبكة لتشييد الهيكل المعماري سواء أكان واقعياً أم فنتازياً أم بينَ بين. ولو تأملنا هذه الرواية جيداً لوجدناها تقوم على أربعة أنساق سردية رئيسية يقودها على التوالي زباري المحمراوي، وعزيز ناصر الشغيني، والشيخ كاظم، والعقيد رضا نوروزي، ويجب ألا ننسى الأنساق السردية الأخرى مهما كانت صغيرة وامضة، مثل السجين العربي الذي يتعرّض للتعذيب، أو «الأهبل» الذي ينطوي على معنى رمزي واضح، وشخصيات مقاومة تظهر وتختفي لكنها تؤازر تيمة الرواية وتمنحها نكهة وطنية آسرة.
يتضمن النسق الأول نشأة زباري وعمله في تهريب البضائع والمتاجرة بها في البصرة والمحمرة وعبادان. وفي أثناء تردده على البصرة ينتمي إلى «جبهة تحرير عربستان»، ويكلّف بقتل الشيخ كاظم، أحد عملاء السافاك في المحمرة. تتحسن أوضاعه المادية ويوافق برحابة صدر على تقديم المساعدة لأبناء عمومته وأصدقائه الأربعة صمد وفايز وحسين ومنصور الذين منحهم فرصة العمل في التجارة وتصريف البضائع المهربة التي يجلبها من البصرة. يعمل فايز سائقاً عند الشيخ كاظم، وسوف يستعمل سيارته في نقل البضائع المهرّبة وتصريفها من دون أن يفتشها أحد.
وحين يعلم بالمؤامرة التي تُحاك ضد الشيخ يخبره بأنّ زباري هو العقل المدبر لعملية الاغتيال، وأنه ينوي تكليف ابن عمه منصور بهذه المهمة الصعبة.
يتوسّع الشيخ كاظم في النسق الثاني الذي يعرّي الشخصية العميلة التي تقف بالضد من الشخصيات الوطنية مثل زباري وعزيز ومحيي الدين آل ناصر... وغيرهم. وسنعرف أنه يتمتع بفراسة قوية ويعرف ما يدور في ذهن مُحدّثه، كما يخشاه كثير من الشيوخ وزعماء القبائل حتى صار أكثرهم أهمية وحظوة في مدينة المحمّرة بعد أن ارتبط بأجهزة السافاك الأمنية. وبموازاته ينتظم النسق السردي الثالث الذي يرويه عزيز الشغيني الذي يقيم في مدينة التنّومة حيث يشرف على تدريب فايز الذي جنّده السافاك لأكثر من سبب، الأول هو التأكد من إصرار زباري على تنفيذ مهمة الاغتيال، والثاني: معرفة إن كان قد كلّف منصور بهذه المهمة أم لا؟
أما النسق الرابع والأخير فيتمثل بدور العقيد رضا نوروزي، الضليع في عمله الاستخباري؛ حيث يُعيد صياغة اللعبة من جديد ويحبكها بالطريقة الأمنية المناسبة له، فيورط فايز مع أبناء عمومته الثلاثة الذين يستدرجون زباري من حفل الزواج إلى الساتر الترابي ويشرعون بإطلاق النار عليه تباعاً باستثناء منصور الذي كان يتفادى التصويب على جسد زباري الملطخ بالدماء بينما كانت صرخات ابنه البكر تشقُّ عنان السماء على مرأى ومسمع عشرين فرداً من المخابرات الإيرانية الذين كانوا يتأكدون من مقتل زباري وهم يتنكرون بالزي العربي خلف أشجار النخيل الباسقة التي تتوارى تحت جنح الظلام.
يسترجع الكاتب محمد عامر في هذه الرواية جانباً من ثورة 1943 التي فجّرها الشيخ جاسب، نجل الشيخ الراحل خزعل، الذي آزرته القبائل العربية في عربستان لكنها سرعان ما خذلته بحجة عدم التكافؤ مع القوات المُهاجمة، كما منعت الحكومة العراقية آنذاك مدّ العربستانيين بالذخيرة والمؤونة والرجال، وقد استشهد في هذه الثورة محيي الدين آل ناصر الذي كان يشغل منصب رئيس «جبهة تحرير عربستان».
وفي سياق المقاومة التي تفضي غالباً إلى السجن، يمكننا أن نعدّ هذه الرواية من «أدب السجون».
ولعل شخصية العربي المُعتقَل الذي تعرّض لمختلف أنواع التعذيب خير نموذج لأدب السجون في عربستان، فقد تعرّض لاقتلاع أظافره، والحرق بالمكواة، والصعق بالأسلاك الكهربائية، والوخز في المناطق الحسّاسة.
يتمتع الروائي محمد عامر بنَفَس سردي جيد، وقدرة واضحة على رسم الشخصيات ومتابعة نموها، وتطورها الذهني الذي يقنع المتلقي بأنه يقرأ نصاً روائياً واقعياً، مكتمل الأركان.
لكن يجب تنبيه الروائي إلى الأخطاء اللغوية التي جاوزت العشرين خطأ، لأنها تربك القارئ في أثناء القراءة، وتسرق منه فرصة الاستمتاع بالتدفق السردي الذي تتمتع به الرواية منذ مُستهلها وحتى جملتها الختامية.
وكانت صدرت للشاعر والروائي محمد عامر مجموعة شعرية بعنوان: «أول المشوار»، ورواية «طيور الأحواز تُحلِّق جنوباً».